سعود الفنيسان : الدورات العلمية بحاجة لمواكبة العصر !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

- أخشى أن تكرس الدورات مفاهيم العلمانيّة لدى شبابنا.

- الدورات لم تواكب العصر وغفلت عن أشياء عديدة.

- لماذا لا يُدرّس الاقتصاد في الدورات بجانب العلوم الشرعيّة؟

أكثر من عقد مضى على بدء الدورات العلميّة في السعودية التي تُنظّم سنوياً على شكل دروس تُقام في الإجازة الصيفية لا يزال الجدل مستمراً حولها، وعن الدور الذي تقوم به، وعمّا إذا كان يكافئ الجهود التي تُبذل فيها.

والدروس العلمية المكثفة التي تنتشر في كل أرجاء المملكة تُعقد في الغالب لمدة أسبوعين وتزيد أحياناً لأسابيع قليلة بمعدل أربعة إلى ستة دروس يومياً، يشارك فيها نخبة من العلماء وطلبة العلم، و يتوافد إليها الطلاب من داخل المملكة وخارجهاº إذ يُهيّأ لهم سكن خاص، وتُوفّر لهم جميع الاحتياجات الحياتية إلى وسيلة نقل من وإلى الجامع الذي تُقام فيه الدورس.

انطلقت البداية من الرياض في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية في صيف 1414هـ.

وتلتها دورة مسجد علي بن المديني صيف 1415هـ وكانت هي الدورة الأولى، واستمرت سنوياً، واستمر كلا المسجدين إلى الآن، لكن وسط دورات علمية كثيرة ومتنوعة لافتة.

فماذا قدّمت هذه الدورات بعد عقد من نشأتها للساحة العلمية؟ وما مخرجات هذه الدورات المتواصلة؟ وكيف كانت التجربة؟

محاور مهمة يتحدث عنها بوضوح وصراحة الشيخ الأستاذ الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان ـ عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود سابقاً...فإلى الحوار..

 

ما رأيكم في الدورات العلمية المكثفة كطريقة تعليمية حديثة؟

أحب قبل الإجابة عن الأسئلة أن أذكر شيئًا مما كان عليه السلف في تدريسهم العلوم في حلقهم مما ليس في هذه الدورات العلمية المكثفة لربط الحاضر بالماضي، ويستفيد الخلف من طريقة السلف.

كان تدريس كافة العلوم يتم في المسجد، وليس العلوم الشرعية فحسب بل كل العلوم والمعارف، من الطب والفلك والترجمة والمنطق والجبر والهندسة والحساب فضلاً عن علوم اللغة والتاريخ.. فلماذا تقتصر حلقات العلم ودوراتـه على العلوم الشرعية فقط أو بعضها؟ لماذا لا تُعقد في المسجد دروس وحلقات في علم الاقتصاد، وأخرى في علم النفس، وأخرى في علم الاجتماع؟ أعتقد أن السبب في ذلك لا يعود إلى عدم الرغبة من الأستاذ أو الطالب بقدر ما يعود إلى الطريقة التقليدية المتصورة عن شمولية التعليم في الماضي، والنظرة التجزيئية للعلوم في الحاضر، وتهميش أكثر العلوم وحتى بعض العلوم الدينية فضلاً عن العلوم المدنية إنسانية كانت أو تجريبية.

ثم إن المنهج التقليدي لدراسة العلوم أغرق في صفة التخصص إلى حد أن الشيخ أو الأستاذ إذا كان متخصصًا في علم كالفقه أو التفسير أو الحديث لا يُقبل منه أو يُسمع إذا كان يكتب أو يؤلف أو يحاضر في فن آخر، مع أن سلفنا الصالح تجد الواحد منهم مشاركًا في كل الفنون تقريبًا، فتجد للفقيه تأليفًا في التاريخ واللغة والأدب والجدل والخط والرسم والفلسفة والطب، الخ، كالرازي وابن رشد، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن تيمية، والذهبي، والسيوطي، وغيرهم.

كان علماء السلف في تدريسهم وتعليمهم يركزون على حل مشكلات ونوازل عصرهم أكثر من اعتمادهم على فتاوى واجتهادات ومشكلات من سبقهم، وإن أخذوها أخذوها استئناسًا لا غير، لقد عاش شيخ الإسلام ابن تيمية في عصر الجمود الفقهي، وزهو علم الكلام والمنطق حتى غلب على الناس بسببهما التقليد المذهبي وتأويل النصوص، فركّز عامة دروسه وتأليفاته في الردّ على دعاتها، وتقرير منهج السلف في ذلك، فواجب علماء عصرنا أن يركّزوا على المستجدات والنوازل العقديّة والفقهية والاجتماعية، ويجلوا وجه الحق فيها، كتشريع القوانين الوضعية والتحاكم إليها، وعلاج مشاكل الفقر والبطالة والعنوسة وتكفير المجتمع.

لقد كان سلفنا في تعليمهم يربطون الدنيا بالدين والعقيدة بالشريعة، ويوجهون التلاميذ إلى الجمع بين الأمرين ففي عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما كثر الناس عنده يدرسون ويتفقهون في الدين أمر بعضهم أن يشتغل بالليل ويطلب العلم بالنهار، كما أمر آخرين أن يعملوا ويتكسبوا بالليل ويطلبوا العلم بالنهار، حتى صارت دنياهم دينًا، ودينهم حياة وعملاً، فهل من المشايخ اليوم من يُعنى بأحوال طلابه، ويتعرّف على ظروفهم وأحوالهم المادية، ويوجّههم لما يقضي على البطالة في دنياهم؟ إن الجمود والتقليد وإهمال جانب الحياة في التعليم أنتج الضعف والشلل في حياة المجتمع اليوم.

لقد حطم أجدادنا بالأمس أوثان الحجر والشجر وعبدوا الله في الأرض، فلماذا لا يحطّم الأبناء والأحفاد اليوم أصنام الكفر والإلحاد ويعبدون الله كما عبدوه؟

وإن الدورات العلمية المكثفة التي انتشرت في الآونة الأخيرة في مجتمعنا أراها ظاهرة طيبة، وتبشر بمستقبل واعد للأجيال القادمة إن شاء الله- إن طُوّرت مناهجها وأساليب أدائها، وهي بداية جهد مشكور لإحياء الحلق العلمية على المشايخ والعلماء.

 

هناك من يرى أن هذه الدورات جاءت مواكبة لروح العصر السريع. فمارأيكم؟ ألا ترون أن هذا المنطق يتعارض مع القاعدة العلمية، وهي أن ما أُخذ بسرعة ذهب بسرعة؟

أما أن هذه الدورات العلمية المكثفة جاءت مواكبة لروح العصر فغير صحيحº لأنها لو كانت مواكبة لروح العصر لاستغلت الوسائل العصرية والتقنية الحديثة ووسائل التجديد والتحديث، ورسّخت عن طريقها الثوابت والقواعد الشرعية وآداب الجدال والمناظرة مع المخالف مسلماً كان أو كافراً كما أقرها القرآن الكريم. ولو كانت مواكبة لروح العصر لانعقدت دورات التخريج في الحديث النبوي عن طريق الحاسب داخل المسجد، ولو كانت مواكبة لروح العصر لنُمّيت في طلاب هذه الحلق العلمية المكثفة روح النظر والاعتدال وعدم الجمود والتقليدº إذ يمضي زمن الدورة وينتهي الملقي (الشيخ) من شرح الكتاب، ولا تعليق ولا مؤاخذة واحدة يسمعها الطلاب من شيخهم عن الكتاب أو مؤلفهم، وكأنهم يتلون كلاماً معصوماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونسي الملقون والمتلقون على السواء أن المتن والشرح الذي بين أيديهم من تأليف واجتهاد من ليس بمعصوم، وأين هؤلاء جميعاً من كلام ابن القيم الجوزية -عليه رحمة الله- وهو يقول في أعلام الموقعين (3/89) مؤنباً لهؤلاء وأمثالهم: \"لا تجمد على المنقول من الكتب طول عمرك.. فالجمود على المنقولات ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول من الكتب مع اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائنها فقد ضلّ وأضلّ،.

 

 وما رأيك في نوعية المتون المختارة للشرح في الدورات العلميّة؟

أما اختيار المتون المقررة في هذه الدورات العلمية فهي في جملتها كتب جيدة وعلمية مفيدة، وإنما العيب والقصور في كيفية وآلية التعامل معها، فنجد طريقة دراسة أكثرها تدرس بمعزل عن واقع الطالب، وكأنه يعيش زمناً غير زمنه ومجتمعاً غير مجتمعه. خذ أمثلة على ذلك: مفهوم (الجهاد) وأنه فرض عين على كل مسلم في الأرض حين يحتل الكافر بلداً من بلدان المسلمين. ومفهوم (بيت المال) و (الوطن)... الخ، فالكتب التي تُدرّس ألغت يوم كان للمسلمين في الأرض كلها خليفة أو إمام واحد فتغير الزمان والحال والمكان، ولم يتغير الشرح والبيان وجمد الناس على (ليس في الإمكان أفضل مما كان)!

 

هل ترى أن هذه الدورات مظهر من مظاهر التجديد العلمي؟

 لا أرى أن هذه الدورات -بوضعها الحالي- يمكن أن تُحسب من مظاهر التجديد العلميº لأنها نسخة مكررة لعصر المؤلف الذي سبقنا بمئات السنين، مع أن كلاً من الملقي والمتلقي هرب من واقع عصره إلى واقع غير واقعه، في حين أن المؤلفين السابقين من السلف عاشوا مشكلات عصرهم وناقشوها وحاوروا بني جلدتهم في زمنهم.

 

هل يمكن لهذه الدورات العلمية أن تقدم لطالب علم اكتفى بها مادة شرعية كافية؟ وهل تعتقد ان هذه الدورات تسهم في بناء تأصيل شرعي متكامل لدى المتلقي؟

جوابي بالخط العريض: لا. لم تسهم في بناء وتوجيه الطالب لتأهيل علمي متكامل ما دامت على طريقتها الحالية التقليدية، ومقصورة على حفظ المتون أكثر من الشرح والفهم والتوجيهº فهذه الدورات العلمية لا تعدو أن تزود المتلقي فيها بثقافة شرعية محدودة، فهي إن ربّت شخصية يوماً ربّتها بغير ولغير زمنها، فإن درست شيئًا من المتون اقتصرت فيه على الحفظ دون الفهم والتحليل والمناقشة، وكأن الحفظ علم مقصود لذاته، فصدق على كثير ممّن يحفظ دون فهم أن يُقال (زادت نسخة في البلد).

لقد عجزت الدورات العلمية المكثفة في عصرنا عن تخريج علماء أو طلاب علم نابهين يجمعون بين الرواية والدراية، وبين النص والاستنباط أو بين العقل والنقل. وعلى هذا صارت مخرجات هذه الدورات أقل من المتوقع والمأمولº فهي أشبه ما تكون بظاهرة صوتية لبعض الدروس والحلق العلمية طوال العام عند بعض المشايخ.

 

وماذا عن دورها في بناء الطالب تربوياً واجتماعياً؟

لا أرى لها كبير أثر بين طلاب العلم من الناحيتين التربوية والاجتماعيةº فالتعليم فيها تعليم تجريدي مثالي، لا أثر له في الواقع ولا صلة له بالحياة، وإنني أخشى- إن استمرت هذه الدورات العلمية على طريقتها الحالية ولم تمسّها يد التطوير- أن تكرس مع الزمن بالفعل -وربما القول- فصل الدين عن الدولة، وهذا مما لا تُحمد عقباه عاجلاً وآجلاً. ومما يعالج هذا القصور أن يشارك في التدريس فيها عدد من مشايخ الصحوة.

كما أنها قد تنتج شبابًا يدخلهم الغرور من حيث لا يدرون ذلك بأنهم حفظوا بعض المتون فيتصدرون الإفتاء والتعديل والتجريح والتصحيح والتضعيف بحجة أنهم أخذوا إجازة أو أكثر بدراسة ذلك الكتاب أو حفظه.

 

إذن ما الطريقة المثلى التي ترونها للاستفادة من هذه الدورات؟

الطريقة المثلى لما ينبغي أن تكون عليه هذه الدورات العلمية هو أن تجمع بين الإيمان والعمل، والتربية والتعليم، والحفظ والفهم، والثقافة والوعي، والإحالة والمعاصرة. وهذه الطريقة المثلى في تلقي العلم أوجزها عبد الله بن عمر بن الخطاب بقوله: \"لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فننظم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم. ورأينا اليوم رجالاً يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرس ما آمره ولا زاجره\". إن الحلق العلمية المكثفة أو حلق تحفيظ القرآن الكريم لا تكاد تُعنى بتحقيق الإيمان بهذا الدين، وإزالة الشكوك والشبهات التي تطرق أسماع الناس والشباب منهم خاصة حين تكاد تقضّ مضاجعهم، فضلاً عن معرفة الحلال والحرام، والنوازل والمستجدات، والوقوف عندها، فلا يكادون يُعنون بهذا بقدر ما يعنون ويقفون عند تلاوة القرآن، والتبرّك به، ومعرفة أحكام تجويده لا غير. بل لا يكادون يعنون كما يقول ابن القيم (بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضي) بقدر ما يعنون بحفظ الكلام أكثر من فهم معناه وفحواه. وما ضعفت الأمة الإسلامية إلا يوم اختلت الموازين، وتغيرت الثوابتº فقُدّم غير المهم على الأهم، فقُدّمت تلاوة القرآن على فهمه وتدبره، وقُدّم حفظه على العمل به.

ولو كان لي من الأمر شيء في سياسة التعليم لخصّصت المرحلتين الابتدائية والمتوسطة لحفظ القرآن والمتون العلمية المناسبة في كل الفنون، وبعد سن التكليف أي في المرحلة الثانوية يُكتفى بتعليم القواعد والأسس والعلوم الضرورية، وبعض المعارف العامة مع التركيز على تنمية شخصية الطالب العقلية، وحسن علاقته وتعامله مع الآخرين في المجتمع وخارجه، أما التخصص العلمي فيكون في المرحلة الجامعية وما فوقها.

ومن أكبر سلبيات الحلق العلمية أنها لم تخرّج من التلاميذ شيوخاً في العلم أو أساتذة يُعتمد عليهم في تعليم الناشئة، اللهم إلا على الطريقة التقليدية في حلق تحفيظ القرآن.

أقول: لم تخرّج هذه الحلق العلمية المكثفة التلاميذ شيوخاً مع مضي أكثر من عشر سنوات على قيامها، وهذه فترة كافية لتقويم التجربة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply