بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنَّه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
ثم أمَّا بعد:
فإنَّ خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
قال - تعالى -: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)) [البينة /5].
قال بعض السلف: أعز شيئ في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر.
وكان من دعائهم: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، واستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، واستغفرك مما زعمت أنى أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
ومن أجل تلك العزة والندرة للإخلاص كان هذا اللقاء اليوم حول إخلاص النية في طلب العلم وأسسها وكيفيتها ومعوقاتها و.. و... !.
و هو اللقاء الثالث، في سلسلة طالب العلم، والتي أسأل اللهَ - تعالى - أن ييسر لي استكمال هذه السلسلة، لما أرجوه من أن ينتفع بها الجميع، وأولهم كاتبها، واللهَ أسألُ بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يصدق قوله عمله، وأن يجعلنا من المؤمنين المخلصين الصادقين.
ولنشرع الآن بالمقصود:
أولاً ــ حقيقة الإخلاص:
بعض الناس يسمع بالإخلاص، فيظن أنَّ الإخلاص أن يقول: نويت أتعلم لله، أو مثل ذلك، وما مثله إلا كمثل رجل جائع، وأمامه طعام، وهو يقول: نويت أن آكل. فهل بهذا شبع؟!! أو مثل رجل عطش فقال: نويت أن أرتوي، فهل بهذا ارتواء؟!! لا والله، بل الإخلاص شيء آخر.
الإخلاص: انبعاث القلب إلى جهة المطلوب التماسًا.
وقال بعضهم: الإخلاص تغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله - تعالى -.
وقيل: الإخلاص سر بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
فالإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، فمتى أفردت ربك بالطاعة، ونسيت رؤية الخلق بدوام نظرك إلى الخالق، فقد تحقق لك الإخلاص.
روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان برقم (54) فقال: حَدَّثَنَا عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسلَمَةَ قَالَ أَخبَرَنَا مَالِكٌ عَن يَحيَى بنِ سَعِيدٍ, عَن مُحَمَّدِ بنِ إِبرَاهِيمَ عَن عَلقَمَةَ بنِ وَقَّاصٍ, عَن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الأَعمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امرِئٍ, مَا نَوَى فَمَن كَانَت هِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَن كَانَت هِجرَتُهُ لدُنيَا يُصِيبُهَا أَو امرَأَةٍ, يَتَزَوَّجُهَا فَهِجرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ.
ثانياً ــ لماذا نتعلم؟ لماذا نتفقه؟ لماذا نطلب العلم؟
العلم عبادة من العبادات، وقربة من القرب، فإن خلصت فيه النية قُبِل وزكا، ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله - تعالى - حبط وضاع، وخسرت صفقته.
روى الإمام الترمذي في جامعه برقم (2654) فقال: حَدَّثَنَا أَبُو الأَشعَثِ أَحمَدُ بنُ المِقدَامِ العِجلِيٌّ البَصرِيٌّ حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بنُ خَالِدٍ, حَدَّثَنَا إِسحَقُ بنُ يَحيَى بنِ طَلحَةَ حَدَّثَنِي ابنُ كَعبِ بنِ مَالِكٍ, عَن أَبِيهِ قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ مَن طَلَبَ العِلمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَو لِيُمَارِيَ بِهِ السٌّفَهَاءَ أَو يَصرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيهِ أَدخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعرِفُهُ إِلَّا مِن هَذَا الوَجهِ وَإِسحَقُ بنُ يَحيَى بنِ طَلحَةَ لَيسَ بِذَاكَ القَوِيِّ عِندَهُم تُكُلِّمَ فِيهِ مِن قِبَلِ حِفظِهِ.
وعند ابن ماجه برقم (253) قال: حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ, حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ حَدَّثَنَا أَبُو كَرِبٍ, الأَزدِيٌّ عَن نَافِعٍ, عَن ابنِ عُمَرَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ مَن طَلَبَ العِلمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السٌّفَهَاءَ أَو لِيُبَاهِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَو لِيَصرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيهِ فَهُوَ فِي النَّارِ. [وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6158)].
فهذا الحديث الخطير قاضٍ, بأنَّ على طالب العلم أن يصحح نيته في طلبه، فلا يكون إلا لله وحده، يبتغى عنده الرضوان، ويرجو لديه الثواب، لا ليرتفع به في أعين الناس، ويعلو به فوق أعناقهم.
ثالثاً ــ كيفية طلب العلم:
لطلب العلم وسيلتان:
1 ــ الكتـــــاب:
فهو العمود الفقري لكل طالب علم، والوسيلة الأساسية في الطلب.
وللكتاب آداب يجب على طالب العلم الإحاطة بها، ولعلنا نتحدث عنها في لقاء آخر.
2 ــ الشــــيـخ:
وما أدراك ما الشيخ؟!! فهو كالماء البارد للظمآن، وطوق النجاة للغرقان. ولا يصح طلب علم بدونه، وقديما قيل: (من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه).
غير أنه يمكن لطالب العلم في المراحل المتقدمة أن يعتمد على نفسه في التلقي من الكتابº لأنه في نظري امتلك مفاتيح العلوم الأساسية، ومن الأفضل لو كان له أحد المشايخ يوده بصورة مستمرة يستشيره ويستوضحه فيما أشكل عليه، والله أعلم.
وينبغي لطالب العلم أن يختار من الشيوخ الأعلم والأورع والأتقى، لأنه كما قال ابن سيرين ومالك وغيرهما: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذوا دينكم).
وللطالب آداب حسان مع شيخه يجب الالتزام بها، لعلنا نتحدث عنها في لقاء آخر.
رابعاً ــ كيف يصحح طالب العلم نيته؟
إذا ما أراد طالب العلم أن يصحح من نيته فعليه ملاحظة ما يلي:
1ــ حسن النية:
روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان برقم (54) فقال: حَدَّثَنَا عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسلَمَةَ قَالَ أَخبَرَنَا مَالِكٌ عَن يَحيَى بنِ سَعِيدٍ, عَن مُحَمَّدِ بنِ إِبرَاهِيمَ عَن عَلقَمَةَ بنِ وَقَّاصٍ, عَن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ الأَعمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امرِئٍ, مَا نَوَى فَمَن كَانَت هِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَن كَانَت هِجرَتُهُ لدُنيَا يُصِيبُهَا أَو امرَأَةٍ, يَتَزَوَّجُهَا فَهِجرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ. متفق عليه واللفظ للبخاري.
فالله الله على النية، فرب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
وكما قال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل. اهـ.
وإنَّ سر نكبات الأمة الإسلامية في المشرق والمغرب هو عدم إخلاص النية؟!!!!.
وإليك الدليل العقلي، فلو صلحت نية طالب العلم عند تلقيه للعلم، وحافظ على سلامتها حتى صار شيخا جليلا تشخص إليه الأبصار، فجهر بالحق ولم تأخذه في الله لومة لائم، وكذلك انتهج بقية العلماء نفس السبيل، فمن أين سيجد السلاطين من يفتي لهم في الدين بما لا يرضي رب العالمين؟!!. فيظهر بذلك الدين، ولايلتبس أمره على المصلين!!!.
ولو صحت نية الحكام، لبذلوا وسعهم في صلاح حياة الأنام، فيعم بذلك الخير والوئام، وكما قيل: لولا الوئام لهلك الأنام!!!.
إن النية عبارة عن المحرك والباعث الحقيقي الكامن بين وجدانك، فلا يطلع عليه غيرك.
فمثلا أنت الآن تريد أن تطلب العلم، فما الذي دفعك إلى ذلك؟!! هل لطلب مكانة اجتماعية، هل من أجل أن يقول الناس عنك: هذا طالب علم ممتاز، أم لأجل النجاح في الجامعة، أم من أجل شهادة تعلقها في الصالون.
قال ابن جماعة: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله - تعالى - والعمل به، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله - تعالى - يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظيم فضله.
قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي.
فالنية هي الأصل، والله الحسيب والرقيب، مطلع على السرائر والضمائر، لا تخفي عليه خافية، وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الدنيا فيصير بحسن النية من أعمال الآخرة، وكم من عمل يتصور بصورة أعمال الآخرة فيصير بسوء النية من أعمال الدنيا فلتحذر.
2 ــ قصد الآخرة:
ولا يقصد به الأغراض الدنيويةº من تحصيل الرياسة والجاه والمال، ومباهاة الأقران، وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس ونحو ذلك، فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.
قال أبو يوسف - رحمه الله -: يا قوم أريدوا بعملكم الله - تعالى -، فإني لم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح.
فعليك أخي في الله أن تخلص نيتك، وتطهر قلبك من الرياء، وأن تقصد وجه الله بتوجهك فتكسب خيري الدنيا والآخرة، و إلا فالخسار والدمار وخراب الديار.
3 ــ الطاعة: فالعلم رزق لا ينال بالمعصية:
عن أبي أمامة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، و لا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله - تعالى - لا ينال ما عنده إلا بطاعته))[أخرجه أبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع (2085)].
اعلم أخي في الله أنَّك تطلب الخير من الله، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
4 ــ احذر الرياء:
قال عبد الله الأنطاكي: من طلب الإخلاص في أعماله الظاهرة، وهو يلاحظ الخلق بقلبه، فقد رام المحالº لأنَّ الإخلاص ماء القلب الذي به حياته، والرياء يميته.
فلا بد إذاً للنجاة في الآخرة، وللانتفاع بالعلم في الدنيا، والنفع به، من الإخلاص، رزقنا الله وإياكم إياه.
5 ـ احذر النفاق:
احذر أن تكون منافقاً، وأنت لا تشعر، مرائياً من حيث لا تعلم، احذر الشهوة الخفية، فإنَّ كثيراً من طلاب العلم سقطوا لمَّا غفلوا عن تلك الشهوات الخفية، وهي عند الله من الكبائر، ولعلها أكبر من الزنى وشرب الخمر، وهذه الشهوات الخفية تهجم على قلب المتعلم صغيراً كان أو كبيراً، مشهوراً كان أو مغموراً، فتفسد عمله، وتخيِّب قصده، عافانا الله وإياكم منها..
إنها شهوة الترفع وحب الظهور، شهوة كسب الاحترام والتوقير.، شهوة طلب الشهرة وأن يشار إليه بالبنان.، إنها مصيبة اتخاذ العلم وسيلة لنيل غرض من أغراض الدنياº لبناء الأمجاد الشخصية، والعلو على الناس، والاستعظام عليهم، واحتقار الآخرين وازدرائهم، وعيبهم والتشنيع عليهم، شهوة حب التصدر، وأن ينشغل الناس به، وينقادوا إليه، ثم تكون النتيجة: الكبر.، الغرور.، العجب.، الأنانية، وحب الذات،. وعبادة النفس، والانتصار لها، والغضب لها،. وعبادة الهوى.
وهذه ـ والله ـ بليات نعوذ بالله منها، تسقط بسببها سماء إيمانك على أرضه، فلا تقوم للقلب قائمة، وواللهِ إنَّ القلب ليقشعر من مجرد تعديد هذه الأمراض، عافانا الله وإياكم منها.
ولعمر الله إنَّ قضية الرياء والشهوة الخفية لهي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، فشوب النيات يورث الرياء والشرك، والرياء مدخل النفاق، والمعصية بريد الفسق، وهما دهليز الكفر.
6 ــ البعد عن التكبر والغرور:
وأكررها مرات ومرات إحذر الغرور والكبرياء، فإنه السم القاتل لطالب العلم، فوالله ما تواضع طالب العلم إلا رفع الله شأنه، وما أصاب الغرور والكبرياء طالب علم إلا أذهب الله بركة علمه، ووالله إنه مجرب في كل وقت وكل حين، فاقبلها ولا تدعها فتكون من الخاسرين.
واعلم ــ وفقك الله للخير ــ الغرور والكبرياء يصرفك عن الدعوة وحب الهداية للناس، إلى منافسة الأقران، التي تورث التباغض والتشاحن والغيرة......
7 ــ العمل... العمل:
لأنه ثمرة العلم النافع، فالعلم إذا لم يصحبه عمل، فهو علم بلا ثمرة، فالنصيحة أن يذهب هذا الطالب لشيء أخر له ثمرة كالتجارة فثمرتها الربح والمال، فلعلها تكون أنفع له من طلب العلم.
ويدخل في العمل ترك جميع المنكرات، وفعل جميع الطاعات.. الخ.
8 ــ الصبر:
وأعني بالصبر، الصبر على كل ما يخدم طلبك للعلم، الصبر على شيخك إذا وجدت منه خلقا لا يعجبك، والصبر على الحفظ إن كان لك وردا وتحافظ عليه، والصبر على قلة الرزق، إن تسبب انشغالك به قلة الوارد المالي.
9 ــ ترك المراء ولو كنت صادقاً:
لأن المماراة لا تنشر العلم، وإنما تنشر البغضاء والشحناء، وتورث الكبرياء والغرور، وفي المقابل لا بأس بالمناظرات في الحق والمناقشات البناءة، لأن في المناظرات والمناقشات إظهار للحق وإبطال للباطل كما لايخفى، وتدرب على سبر العلوم، ولكن!! عند المناظرات تضعف النيات، فانتبه لذلك.
10 ــ عدم الاقتصار على علم واحد في طلب العلم:
لأن طلب العلم مثل الأعداد له بداية وليس له نهاية. لأنك في البداية تحتاج لمفاتيح العلوم، لتسير في درب العلم هاديا مهديا.
11 ــ ترك التعصب:
لا يوجد مانع للوصول إلى الحق مثل التعصب، فمن تعصب لفلان من الناس، أو لجماعة، أو لمذهب، أو تيار، أو شيخ، أو حاكم، أو مؤلف... الخ فاغسل يدك منه، وكبر عليه أربعة، و ادع الله له بالرحمة فإنه في عداد الأموات، ولن يحيا حتى يدع التعصب إلا للحق، ومثل هذا لا تتعب نفسك في مناقشته ومحاورته، بالله عليك هل يمكن مناقشة الأموت؟ لا والله، فهو كذلك لا خير في مناقشته قط حتى يدع التعصب.
12 ــ اقتصد فيما يروح النفس:
مما لا شك فيه أن النفس البشرية جبلت على حب المزاح واللعب أحيانا، وهذه لا بأس فيه، فقد فعله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كما هو مشهور، ولكن ضابط ذلك إذا جاز الفعل شرعا، ولكن محل النصيحة الاقتصاد في ذلك حتى لا يموت القلب.
13 ــ امسك عليك لسانك:
فطالب العلم معرض للنيل من عرضه، ومعرض للحوار مع بعض السفهاء أو الجهلة، ومعرض لمشاغبات الأقران والحاسدين، فإن لم يتحلى برباطة الجأش، وقوة القلب، استدرج يمينا وشمالا حتى يتلف ويسقط في هذا المستنقع الوَحِلِ، كما هو مشاهد في كثير من الأحيان.
خامساً ــ كيف تدخل هذه الأمراض على القلوب؟
السبب الحقيقي وراء دخول الأمراض ــ السابقة الذكر ــ على القلوب هو الداء العضال والمرض الخطير، ألا وهو الجهل، نعم فلقد أُتِىَ المعجب من جهله، ونعوذ بالله من الجهل وأهله.
ويرحم الله علماء السلف فقد كانوا أعلم الناس بأسباب النجاة:
يقول أبو الحسن الماوردى: \" وقلما تجد بالعلم معجباً، وبما أدرك مفتخراً، إلا من كان فيه مقلاً مقصراًº لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره.، فأما من كان فيه متوجهاً، ومنه مستكثراً، فهو يعلم من بعد غايته والعجز عن إدراك نهايته ما يصده عن العجب به. [أدب الدنيا والدين ص(81)]
وقد قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار: فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه، وظن أنَّه ناله، ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه، وعلم أن لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحداً أبداً.
سادساً ــ كيف أخلص؟
قيل لسهل التستري - رحمه الله - : أي شيء أشد على النفس؟!!
قال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب..
فالنفس تحب الظهور والمدح والرياسة، وتميل إلى البطالة والكسل، وزينت لها الشهوات ولذلك قيل: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.
وقال بعضهم: إخلاص ساعة نجاة الأبد، ولكن الإخلاص عزيز.
وقال بعضهم لنفسه: اخلصي تتخلصي.
وقال: طوبى لمن صحت له خطوة لم يرد بها إلا وجه الله.
كان سفيان الثوري يقول: قالت لي والدتي: يا بُني لا تتعلم العلم إلا إذا نويت العمل به، وإلا فهو وبال عليك يوم القيامة.
وقد قيل لذي النون المصري - رحمه الله تعالى - : متى يعلم العبد أنه من المخلصين؟
فقال: إذا بذل المجهود في الطاعة، وأحب سقوط المنزلة عند الناس.
وقيل ليحيى بن معاذ - رحمه الله تعالى - : متى يكون العبد مخلصاً؟
فقال: إذا صار خلقه كخلق الرضيع، لا يبالي من مدحه أو ذمه.
وأمَّا الزهد في الثناء والمدح، فيسهله عليك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين، إلا الله وحده.
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح مَن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يُقدَر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البر في غير مركب.
قال - تعالى -: ((فاصبر إنَّ وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)) [الروم / 60]
وقال - تعالى -: ((وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون))[السجدة/24]
سابعاً ــ معوقات الإخلاص وعلاجها:
1) الطمع: وعلاجه اليأس مما في أيدي الناس، وتعلق القلب بالله والرغبة فيما عنده.
2) حب المدح: وعلاجه علمك أنَّ الممدوح حقًا من رضي الله عنه وأحبه، وإن ذمَّه الناس.
وقال آخر: لن يكون العبد من المتقين حتى يستوي عنده المادح والذام.
3) الرياء:
فعلى طالب الإخلاص أن يعلم أنَّ الخلق لا ينفعونه ولا يضرونه حقيقة، فلا يتشاغل بمراعاتهم، فيتعب نفسه، ويضر دينه، ويحبط عمله كله، ويرتكب سخط الله - تعالى -، ويفوت رضاه، واعلم أنَّ قلب من ترائيه بيد من تعصيه.
4) العجب:
وطريقة نفي الإعجاب أن يعلم أنَّ العمل فضل من الله - تعالى - عليه، وأنه معه عارية، فإنَّ لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فينبغي ألا يعجب بشيء لم يخترعه، وليس ملكاً له، ولا هو على يقين من دوامه.
5) احتقار الآخرين واستصغارهم وازدرائهم:
وطريقة نفي الاحتقار التأدب بما أدبنا الله - تعالى - به. قال - تعالى -: \" فلا تزكوا أنفسكم \" [النجم/ 32]. وقال - تعالى -: \" إنَّ أكرمكم عند الله اتقاكم\" [الحجرات/13]، فربما كان هذا الذي يراه دونه أتقى لله - تعالى -، وأطهر قلباً، وأخلص نية، وأزكى عملاً، ثم إنه لا يعلم ماذا يختم له به.
خاتمة (النصيحة):
وفي الختام لا يفوتنا هنا التنبيه على أنه لا ينبغي لطالب العلم أن ينقطع عن الطلب لعدم خلوص نيته، فإن حسن النية مرجو له ببركة العلم.
قال كثير من السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله.
وقال غيره: طلبنا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزقنا الله النية بعد. أي فكان عاقبته أن صار لله..
قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن قوماً يكتبون الحديث، ولا يُرى أثره عليهم، وليس لهم وقار.
فقال: يؤولون في الحديث إلى خير.
وقال حبيب بن أبى ثابت: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه نية، ثم جاءت النيةُ والعملُ بعد.
فالعبد ينبغي عليه ألا يستسلم، بل يحاول معالجة نيته، وإن كانت المعالجة شديدة في أول الأمر.
يقول سفيان الثورى: ما عالجت شيئاً أشد علىَّ من نيتي
فعلى طالب العلم أن يحسِّن نيته، ويحرر الإخلاص، ويجرد التوحيد.
فمن أخلص في طلب العلم نيته، وجدد للصبر عليه عزيمته، كان جديراً أن ينال منه بُغيتَه.
هذه بعض النصائح ألقيت بها بينكم لعلها تجد من يصغي إليها، و أنا أشد الناس حاجة إليها، فأسأل الله - تعالى - أن يعيننا على القيام بها، وأن ينفعنا بما علمنا، ويجعله حجة لنا لا علينا. فهذا جهد المقل، أحسب أني بذلت طاقتي، ولا أدعي العصمة، وإنما كتبتها نصيحة، فإن وجد أحد فيها خيرا فليدعو الله لي بالهداية، ومن وجد غير ذلك فليعذرني فما أردت جاها ولا مالا إن أريد إلا الإصلاح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد