يا قدس

3.3k
3 دقائق
27 شوال 1428 (08-11-2007)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

ما كلُّ مَن نطقوا الحروفَ أبانوا *** فلقد يَذوبُ بما يقولُ لسانُ

لغة الوفاءِ شريفةٌ كلماتُها *** فيها عن الحبِّ الأصيلِ بَيانُ

يسمو بها صدقُ الشعور إلى الذٌّرا *** ويزُفُّ عِطرَ حروفها الوجدانُ

لغةٌ تَرَقرَقَ في النفوس جمالُها *** وتألَّقت بجلالها الأَذهانُ

يجري بها شعري إليكم مثلما *** يجري إلى المتفضِّل العِرفانُ

لغةُ الوفاء، ومَن يجيد حروفَها *** إلا الخبير الحاذق الفنَّانُ؟

أرسلتُها شعراً يُحاط بموكبٍ, *** من لهفتي، وتزفٌّه الألحانُ

ويزفٌّه صدقُ الشعور وإِنَّما *** بالصدق يرفع نفسَه الإِنسانُ

أرسلتُ شعري والسَّفينةُ لم تزل *** في البحر، حار بأمرها الرٌّبَّانُ

والقدس أرملةٌ يلفِّعها الأسى *** وتُميت بهجةَ قلبها الأحزانُ

شلاَّلُ أَدمُعِها على دفَقاته *** ثار البخار فغامت الأَجفانُ

حسناءُ صبَّحها العدوٌّ بمدفعٍ, *** تَهوي على طلقاته الأركانُ

أَدمَى مَحاجرها الرَّصاص ولم تزل *** شمَّاءَ ضاق بصبرها العُدوانُ

حسناءُ، داهمَها الشِّتاءُ، ودارُها *** مهدومةٌ، ورضُها عُريانُ

وضَجيج غاراتِ العدوِّ يَزيدها *** فَزَعاً تَضَاعف عنده الَخَفقانُ

بالأمسِ ودَّعها ابنُها وحَليلُها *** وابنُ اختها وصديقُه حسَّانُ

واليوم صبَّحتِ المدافعُ حَيَّها ***بلهيبها، فتفرَّق الجيرانُ

باتت بلا زوجٍ, ولا إِبنٍ, ولا *** جارٍ, يَصون جوارَها ويُصَانُ

يا ويحَها مَلَكت كنوزاً جَمَّة *** وتَبيت يعصر قلبَها الِحرمانُ

تَستطعم الجارَ الفقيرَ عشاءَها *** ومتى سيُطعم غيرَه الُجوعَانُ

يا قدسُ يا حسناءُ طال فراقُنا *** وتلاعبت بقلوبنا الأَشجانُ

من أين نأتي، والحواجزُ بيننا: *** ضَعفٌ وفُرقَةُ أُمَّةٍ, وهَوانُ؟

من أين نأتي، والعدوٌّ بخيله *** وبرَجلهِ، متحفِّزٌ يَقظَانُ؟

ويَدُ العُروبةِ رَجفَةٌ ممدودةٌ *** للمعتدي وإشارةٌ وبَنانُ؟

ودُعاةُ كلِّ تقٌّدمٍ, قد أصبحوا *** متأخرين، ثيابُهم أَدرَانُ

متحدِّثون يُثَرثِرُون أشدٌّهم *** وعياً صريعٌ للهوى حَيرانُ

أين الذين تلثَّموا بوعودهم *** أين الذين تودَّدوا وأَلانوا؟

لما تزاحمت الحوائجُ أصبحوا ***كرؤى السَّراب تضمَّها القيعانُ

كرؤى السَّرابِ، فما يؤمِّل تائهٌ *** منها، وماذا يطلب الظمآنُ؟

يا قدس، وانتفض الخليلُ وغَزَّةٌ *** والضِّفتان وتاقت الجولانُ

وتلفَّت الأقصى، وفي نظراته *** أَلَمٌ وفي ساحاته غَلَيانُ

يا قُدس، وانبهر النِّداءُ ولم يزل *** للجرح فيها جَذوةٌ ودُخانُ

يا قُُدسُ، وانحسر اللِّثام فلاحَ لي *** قمرٌ يدنِّس وجهَه استيطانُ

ورأيتُ طوفانَ الأسى يجتاحُها *** ولقد يكون من الأسى الطوفانُ

كادت تفارق مَن تحبٌّ ويختفي *** عن ناظريها العطف والتَّحنانُ

لولا نَسائمُ من عطاءِ أحبَّةٍ, *** رسموا الوفاءَ ببذلهم وأعانوا

سَعِدَت بما بذلوا، وفوقَ لسانها *** نَبَتَ الدٌّعاءُ وأَورَقَ الشٌّكرانُ

لكأنني بالقدس تسأل نفسَها *** من أين هذا الهاطلُ الَهتَّانُ؟

من أين هذا البذلُ، ما هذا النَّدى ***يَهمي عليَّ، ومَن هُم الأَعوانُ؟

هذا سؤال القدس وهي جريحةٌ *** تشكو، فكيف نُجيب يا سَلمانُ؟

ستقول، أو سأقول، ما هذا الندى *** إلاَّ عطاءٌ ساقه المَنَّانُ

هذا النَّدى، بَذلُ الذين قلوبُهم *** بوفائها وحنانها تَزدَانُ

أبناءُ هذي الأرض فيها أَشرقت *** حِقَبُ الزمان، وأُنزِل القرآنُ

صنعوا وشاح المجد من إِيمانهم *** نعم الوشاحُ ونِعمَتِ الأَلوانُ

وتشرَّف التاريخ حين سَمَت به *** أخبارُهم، وتوالت الأَزمانُ

في أرضنا للناس أكبرُ شاهدٍ, *** دينٌ ودنيا، نعمةٌ وأَمانُ

الأصل مكةُ، والمهاجَرُ طَيبةٌ *** والقدسُ رَوضُ عَراقةٍ, فَينَانُ

شيمُ العروبة تلتقي بعقيدةٍ, *** فيفيض منها البَذلُ والإحسانُ

للقدس عُمقٌ في مشاعر أرضنا *** شهدت به الآكامُ والكُثبانُ

شهدت به آثارُ هاجرَ حينما *** أصغت لصوت رضيعها الوُديانُ

شهدت به البطحاء وهي ترى الثرى *** يهتزٌّ حتى سالت الُحلجانُ

ودعاءُ إبراهيمَ ينشر عطره *** في الخافقين، وقلبُه اطمئنان

هذي الوشائج بين مهبط وحينا *** والمسجد الأقصى هي العنوانُ

هو قِبلةٌ أُولى لأمتنا التي *** خُتمت بدين نبيِّها الأديانُ

شَعبٌ، فلسطينُ العزيةُ أَنبتت *** فيه الإباءَ فلم يُصبه هَوانُ

شَعبٌ إذا ذُكر الفداءُ بَدا له *** عَزمٌ ورأيٌ ثاقبٌ وسنانُ

شعبٌ إذا اشتدَّت عليه مُبةٌ *** فالخاسرانِ اليأسُ والُخذلاُن

لا تُخرجوهم من مَكامنِ أرضهم *** فخروجُهم من أرضهم خُسران

هي حكمةٌ بدويَّة ما أدركت *** أَبعادَها في حينها الأَذهانُ

يا قُدسُ لا تَأسَي ففي أجفاننا *** ظلٌّ الحبيبِ، وفي القلوبِ جِنانُ

يا قُدسُ صبراً فانتصاركِ قادمٌ *** واللِّصُّ يا بَلَدَ الفداءِ جَبَانُ

حَجَرُ الصغير رسالةٌ نُقِلَت على *** ثغر الشٌّموخ فأصغت الأكوانُ

يا قدسُ، وانبثق الضياء وغرَّدت ***أَطيارُها وتأنَّقَ البستانُ

يا قدس، والتفتت إِليَّ وأقسمت *** وبربنا لا تحنَثُ الأَيمانُ

واللّهِ لن يجتازَ بي بحرَ الأسى *** إلاَّ قلوبٌ زادُها القرآنُ


السابق السفينة
أضف تعليق