الأعياد الإسلامية مقاصدها وآدابها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت الأمم الماضية تعرف الأعياد لهوًا ولعبًا، وشرابًا وطربًا، وجلبة وصخبًا، بل إن بعض الأديان القديمة كانت تتخذ أعيادها الدينية من مادة الإباحية المستهترة، والفوضى الخلقية السافرة، ناهيك بأعياد (باكوس) عند قدماء اليونان، ثم عند الرومان، وهي أعياد كانت تكرر أكثر من مرة في كل عام، وكان يفرض فيها على الرجال والنساء أن يخلعوا جلباب العفة والحياء، وأن يتحرروا من كل قيود الغيرة والشرف، وأن يطلقوا العنان لغرائزهم الحيوانية الدنيا لكي تقضي لبانتها علنًا جهارًا، إرضاءً لآلهتهم فيما يزعمون، حتى أن من تأبّى أو تعفف عن المشاركة في هذه الملاهي الداعرة حكم علية رؤساء الدين أن يدفن حيًا في مغارات بعيدة وسراديب مجهولة إلى أن يأتيه الموت أو يقضي الله قضاءه فيه.

وفي الطرف الأقصى المقابل لهذه المادية الجامحة ترى الروحية الزاهدة المنطوية المنزوية تكتفي في تجديد ذكرياتها المقدسة، إما بترديدها في داخل النفس، وإما بالتعبير الخافت عنها في زوايا المعابد، ترتيلاً لبعض الدعوات، أو أداءً لبعض المراسم والإشارات.

 

ويجيء الإسلام بموازينه العادلة ومعاييره الدقيقة الفاصلة، فيلقى على فكرة الأعياد ضوءًا جديدًا، يبعد بها عن انحلال المادية وفجورها، وعن تزمت الروحية وفتورها، يجمع ما في كلتا النزعتين من خير وسداد، وينفي ما في كلتيهما من خلل وفساد، ثم يضيف إليها عناصر صالحة أخرى، ويؤلف من جملة ذلك صورة حية قوية جميلة في نطاق من الطهر والكرامة والصون والعفاف.

 

تلك هي فكرة الأعياد في الإسلام.

 

فالصبغة الأولى للأعياد الإسلامية صبغة روحية، لكنه روح غير صامت ولا خافت، إنه روح صادح متوثب، استمع إلى هذا النشيد القوي الذي يتجاوب صداه في الطرقات، على ألسنة الذاهبين إلى العيد أفرادًا وجماعات، وفي المساجد على السنة المصلين أو المنتظرين لصلاة العيد، وفي البيوت على ألسنة المصلين عقب صلواتهم المكتوبة في أيام التشريق، وفي منى عند الجمرات على ألسنة الحجاج، استمع إلى هذا النشيد: إنه يفجر الروح وانطلاقها فرحًا وابتهاجًا بإتمام رحلتها الشاقة الموفقة، رحلة الصوم أو رحلة الحج، ثم استبشارًا وتطلعًا إلى المستقبل بعين الثقة والأمل، إنه شعار الإنتصار الروحي في التجربة الماضية، والتصميم على متابعة هذا الانتصار الروحي في التجارب المقبلة: الله أكبر ولله الحمد.

 

هذا العنصر الروحي الحماسي يطالبنا الإسلام بأن نبرز جوهره في مظهر من الزينة والجمال، وفي جو من المتعة والرفاهية البدنية، في غير إسراف يشوه كماله، ويقلبه إلى ضده.

 

نعم، لقد كانت فريضة التقشف والحرمان ضريبة محتومة في زمن الصوم وزمن الحج، فإذا جاء يوم العيد فلا تقل: قد حل ما كان محرمًا. ولكن قل: قد وجب ما كان محرمًا وحرم ما كان واجبًا: نعم، لا صوم اليوم ولا حرمان من الطيبات: (كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية)(1)، ثم لا تقشف اليوم ولا حرمان من الطيب والزينة فليأخذ كل منا أحسن زينته، وليظهر أثر نعمة الله عليه، فهذا يوم إظهار النعم، ثم لا تزمت ولا حرمان اليوم من اللعب واللهو البريء المباح: يروي أصحاب السنن عن أنس - رضي الله عنه - قال:

قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: \"ما هذان اليومان؟ \" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال: \"قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر..\".

ويروي مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - في يوم عيد، وعندي جاريتان تغنيان، فلم يقل شيئًا، ولكنه اضطجع على الفراش وحول وجهه، ثم دخل أبو بكر فانتهرني، وقال: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"دعهما يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيدًا وهذا عيدُنا\".قالت عائشة: وكان السودان يلعبون بالدّرَق(2) والحراب فإما سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما قال هو لي: \"تشتهين تنظرين؟ \" قلت: نعم فأقامني وراءه ورأسي على منكبيه وخدي على خده، حتى إذا مللت قال \"حسبك؟ \" قلت: نعم.

 

ولا يفوتني أن أقول في صدد هذا اللون من اللعب المشار إليه في حديث عائشة أنه ليس لهوًا سائغًا مرخصًا فيه فحسب، بل إنه متى صلحت فيه النية كان عملاً يندب إليه الإسلام، ويحضٌّ عليه كما يحضٌّ على الرماية والسباحة والعَدو و ركوب الخيل، وسائر ضروب الرياضة البدنية النافعة، فإنها تكسب صاحبها مضاءً في العزيمة، ومناعة في البدن، وتجعل منه جنديًا معدًا لحماية الدين والوطن، فما أحرانا بأن نحيي هذه السنن الكريمة في أعيادنا.

هكذا تلتقي في الأعياد الإسلامية روحيتها المنطلقة السامية، وماديتها النافعة الجميلة الطاهرة البريئة، على أن الإسلام لم يكتف في أعياده بهذين العنصرين حتى عززهما بثالث هو آكد الجميع عنده وأحبها إليه، ذلك هو المعنى الاجتماعي الإنساني الذي جعل به الأمة جسدًا واحدًا. لا بوحدة شعارها وشعورها فحسب، ولا بمظهر اجتماعها الباهر في شعائر الذكر والصلاة وكفى، ولا بهذا التلاقي الأليف الودود، والباش الباسم الذي نُدب إليه كل مسلم يلاقي أخاه في يوم العيد، ولكن بمعنى أقوى من ذلك كله: بنظام المشاركة المالية الفعلية التي شرعها في ذلك اليوم بين أعضاء الجماعةº ترفيهًا عن المعوزين منهم وإغناءً لهم عن ذل السؤال يومئذٍ,، تلك هي شريعة الزكاة في عيد الفطر، وشريعة الضحية في عيد النحر: (فصل لربك وانحر)(3)، (قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى)(4).

 

أما بعد: فقد ناديت بوجوب تنظيم هذه المبرَّة الإسلامية التي كثيرًا ما يُحرم آثارها مستحقوها، وكثيرًا ما يتكرر بذلها إلى غير مستحقيها. لقد ناشدت حكومات الإسلام ومؤسساته الاجتماعية أن تتولى بنفسها جمع هذه الملايين المبعثرة، وتوزيع ما ينبغي منها على من يستحق، ثم وضع ما يفضل من حصيلتها في صندوق تُدعم به المشروعات الاجتماعية الكبرى، ولقد ناشدت أولي الأمر أن يقوموا في أيام الأعياد على الأخص بحملة تطهير تخلى بها الطرقات العامة، وأبواب المساجد، وأبواب البيوت من تلك الأيدي الممدودة للسؤال، تلك الوصمة التي تشوه جمال العيد وتتحدى النظام المثالي الذي وضعه الإسلام للتفادي من هذه المأساة.

 

لقد ناشدت من قبل وناديت، واليوم أكرر هذا النداء وأجدد هذه الذكرى، وإن الذكرى تنفع المؤمنين(5).

 

------

(1) سورة الحاقة: آية 24.

(2) هي التروس من الجلد.

(3) سورة الكوثر: آية 2.

(4) سورة الأعلى: الآيتان 14، 15.

(5) \"نخبة الأزهار وروضة الأفكار\": 186-191 بتصرف

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply