بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله ربكم حق تقواه واستشعروا ذلكم وحاجتكم إليه جل جلاله، " أَنتُمُ الفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِىٌّ الحَمِيدُ " [فاطر: 15].
أيها المسلمون، إذا ادلهمّ ظلام الليل وتضاعف سواده كان جلاؤه وذهابه بالصبح إذا أسفر، ولا يعرف جمال المرأة وقبحها إلا إذا أسفرت عن وجهها وأسقطت حجابها، فالإسفار إذن هو الانكشاف والجلاء، ومن هنا سمي الضرب في الأرض ومغادرة الأوطان سفراً، يعيش الرجل مستتراً في بيته، منطوياً على ما ضمه بيته، فإذا سافر كشف مخبوءه وأخرج مكبوته وانجلى مستوره،، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
عن هذا الحديث سأحدثكم، وخير الكلام ما قل ودل، والسفر أيها الأحبة، تختلف أنواعه بحسب المقاصد والأماكن، فهناك سفر مباح محمود، وهناك سفر محرم مذموم. فالسفر في طلب العلم و لأجل العبادة، كسفر الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله والتفكر في مخلوقات الله سفر عبادة، وهو مطلوب شرعاً وجوباً أو استحباباً، والسفر إلى بلاد الكفر وديار الخنا ومواقع العري سفر مذموم وممنوع، وبينهما درجات ورتب.
ومن المباح السفر للترويح عن النفس والأسرة وتجديد النشاط، والسفر في طلب الرزق والكد على العيال فهذه جملة من الأسفار المشروعة والمباحة والمحرمة، وكل بحسبه، " وَاللَّهُ يَعلَمُ المُفسِدَ مِنَ المُصلِحِ " [البقرة: 220]، ((وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى)) وقد رحل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله بلغه عن عبد الله بن أُنيس، حتى سمعه عنه. قال الإمام الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعاً.
وها هي الإجازة أذنت بالقدوم وأوشكت أن تأتى، فما عسى المسلم أن يفعل ليستفيد منها؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره أيكون سفره مذموماً أم محموداً؟ هل يسافر إلى بلاد تستباح فيها حرمات الله وتؤتى فيها الكبائر أم يشد رحاله إلى بيت الله الحرام ليعتمر ويتعبد؟ أم إلى مسجد الحبيب ليروي ظمأ قلبه من فيض إيمان طيبة الطيبة؟ أو يسير في بلاده شمالاً وجنوباً مبتغياً هدوء النفس وراحة البال أو قريباً يزوره ويتفقده؟ أم يا ترى يسافر إلى ربوع كافرة وديار بمظاهر الكفر والفساد عامرة؟
عباد الله، هل أخذنا حذرنا من الوقوع في المحرمات التي يقع فيها بعض المسافرين تساهلاً بما حرم الله - تعالى -، ومن ذلك سفر المرأة بغير محرم، وفي الحديث ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو محرم)) البخاري.
ومن المحاذير: حضور الحفلات الغنائية والتي بدأت تنتشر بحجة السياحة، إن سماع الغناء والموسيقى محرم في الإسلام كما نعلم جميعاً، فكيف إذا صاحب ذلك اختلاط مع النساء وحصل فيه من التبرج ما الله به عليم، فإنه يزداد حرمة وإثماً بذلك. قال الله - تعالى -: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشتَرِى لَهوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ " [لقمان: 6]، وقد حلف الصحابي الجليل عبد الله بن عباس أن المراد به الغناء. وفي الحديث: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)).
ومن المحاذير: التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فيحصل من بعض النساء تبرج واختلاط واحتكاك بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ. فلتكن أيها المسافر على علم بذلك.
عباد الله، ومن السفر المحمود المرغب فيه السفر من أجل الدعوة إلى الله ونشر العلم الصحيح والترغيب في دين الله - تعالى -، ولكن لهذا السفر ضوابطه، فالداعية إلى الله - تعالى -أحرص الناس على حفظ وقته وأقرب إلى تنظيم مهامه، إذ هو يعلم نفاسة الوقت وأهمية ترتيب الأعمال، ولا سيما الأعمال الدعوية، كما أن في أرجاء بلادنا جهات نائية هي بأمس الحاجة إلى نور الهدى ونشر العلم وعلاج بعض الجهالات، وليس من شرط السفر في الدعوة إلى الله - تعالى -أن يكون إلى خارج البلاد، أما من رغب في مزاولة الدعوة إلى الله - تعالى -ونشر العلم في بلاد خارجية فليأخذ حذره وليعد عدته، ولا بد له من صاحب صالح يؤانسه ويؤازره ويزيل عنه رفقة الشيطان والوحدة في السفر المنهي عنها، والذئب يأكل من الغنم القاصية، وهناك برامج دعوية مرتبة تقوم عليها جهات دعوية وجمعيات خيرية في الداخل والخارج عرفت بالثقة والتفوق في البرامج الدعوية، فاحرص أن تكون متعاوناً معها، ففي ذلك اختصار للوقت وتركيز في الجهد.
وإياك ثم إياك أن يكون السفر إلى الخارج لغرض الدعوة غطاءً للتمويه على الأهل وتخلصاً من تبعة المساءلة، فكم ذهب أناس بحجة الدعوة أو الفرجة والسياحة والتفكر في مخلوقات الله، فعادوا وقد تغيرت طباعهم ورقّ إيمانهم، وما خفي كان أعظم، وما لم يكن لدى الداعية علم يتسلح به وينفع به، وتقى يحول بينه وبين المحرم فإن بقاءه في بلده أسلم لدينه وعرضه، ولن يعدم في بلاده وسائل يخدم من خلالها دينه وأمته ومجتمعه، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، " بَلِ الإِنسَـانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ " [القيامة: 14، 15].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا الله ربكم ـ أيها الناس ـ وَاعلَمُوا " أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرء وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ " [الأنفال: 24].
عباد الله، من السفر المحرم والمذموم، السفر إلى بلاد الكفار أو إلى بلاد تشبه بلاد الكفار في كثير من الجوانب وكم في هذا السفر من مفاسد وآفات تجعل العاقل يعيد النظر في قرار السفر، إن أغلب تلك البلاد التي يؤمها الناس في الخارج، بلاد تتعرى بها الأجساد المحرمة، على الشواطئ وغيرها، وتشرب فيها الخمور كالماء، وينتشر فيها الزنا انتشار النار في الهشيم، هذا كله فضلاً عن الأجواء المادية التي تقسو بها القلوب، ناهيك عن الشبهات العقدية، والانحرافات السلوكية، إن أغلب المصطافين يأنسون بتلك المناظر ويعتادونها، وربما واقعوا البعض منها، ومع كثرة المساس يقل الإحساس، وهل فقه المسلمون ما ورد من المنع الصريح من الإقامة بين ظهراني المشركين. روى أبو داود والترمذي قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أنا برئ من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)). روي عن مالك - رحمه الله - قوله: "لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف" فكيف بأرض يسب فيها الله وملائكته وأنبياؤه وكتبه؟ وكيف ببلاد تعلن الكفر وتدافع عنه، وتسوم المسلمين سوء العذاب.
وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله والداعية إلى الله والمسافر للعلاج أو لدراسة علم يفتقر إليه المسلمون أو للتجارة، وكل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه، عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره، ولديه من العلم والتقوى ما يحول بينه وبين التأثر بالشبه والشهوات، وللضرورة حينئذ أحكامها.
إذا خرج المسافر فقال: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، وإذا قفل راجعاً ودعا ربه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، أحقاً يعني ما يقول ويفهمه ويطبقه؟ ويا أيها المسافر إذا عدت إلى بلادك بعد سفرك سائل نفسك: أزاد إيمانك في سفرك هذا أم لا؟ أيسوؤك أن يعلم الناس ما الذي صنعته خلال سفرك؟ أترضى لابنك أن يفعل مثل ما فعلت؟ ويا ترى هل تظن أن سفرك سينفعك عند الله " وَيَومَ يُحشَرُ أَعدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُم يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيهِم سَمعُهُم وَأَبصَـارُهُم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ " [فصلت: 19، 20]. أبلغك خبر ذاك الذي ابتعد عن أهله فقلت غيرته واختلى بالمعاصي فمات عند عاهرة؟ وهل سمعت بخبر من مات وقد ملأ بطنه بالشراب المحرم؟ أو ما علمك بوباء الإيدز والأمراض الجنسية التي فتكت بالملايين ممن ولغوا في المحرمات، وهل سمعت بالزلزال الذي ضرب ذلك الشاطئ المأفون في تركيا الذي يقصده السياح من أنحاء العالم فراح ضحيته عشرات الألوف في لحظات؟ أعيذك بالله أيها المسلم أن تكون من أولئك الموصوفين في الآية " أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلمٍ, وَخَتَمَ عَلَى سَمعِهِ وَقَلبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَـاوَةً فَمَن يَهدِيهِ مِن بَعدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ " [الجاثية: 23].
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد