بسم الله الرحمن الرحيم
من بين ما تتحفنا به الثقافة العالمية المعاصرة سلسلة من المقولات التي تختصر نظاماً فكرياً معقداً بكلمة أو كلمتين، ولعل السبب في ذلك أننا وفي أيامنا هذه نرى من الضروري لنا أن نختزل الكلام توطئة لتسويقه أو ترويجه، فهناك مثلاً مقولة "الواسطة هي الرسالة" في علم الإعلام، وهناك مقولة "الأقل هو الأكثر" في فن العمارة، وهناك مقولة "تطور الفرد يستعيد تطور الجنس" في علم الأحياء، وإلى ما هنالك من شعارات تحشر الفكر في كبسولة يسهل على الإنسان هضمها والاستفادة منها لأغراض الترويج، ولا عجب فنحن في عصر اللقمة الصوتية.
ومن بين هذه المقولات واحدة تهمني لأسباب مهنية، وهي مقولة لا تاريخ بل تأريخ، أو حتى لا ماض بل روايات عن الماضي، أو إذا شئتم لا حقيقة تاريخية بل قصص، وهذه المقولة سلاح بتار، فإذا أخذنا هذا السلاح بقوة جاز لنا أن نبتز أي نظام فكري أو سياسي، أو أي مجتمع بشري عن تاريخه فتصبح حقيقته التاريخية سلسلة من القصص، ويبقى النظام المعين أو المجتمع المعين معلقاً في الهواء، يطفو على سحب من الأساطير.
مقدمة سريعة لا بد منها للاقتراب من موضوعي هذا اليوم ( جانب الصراع السياسي والإنساني الدائر حالياً حول مدينة القدس ) يدور صراع آخر خفي وهو الصراع الذي يتمحور حول تأريخ القدس، وهذا الصراع الآخر ليس بالأمر الطارئ طبعاً، فالصهيونية منذ أن وجدت تسعى بلا كلل لكي تخترع فلسطين من جديد.
فهي ما فتئت تقتلع وتخترع، وتمحي ثم تبني على أنقاض ما محت، وفي خضم هذا السيل الجارف الماحي نلمح وبوضوح رغبة صهيونية حيثية لإعادة كتابة التاريخ وذلك لكي يتكامل جرف الأرض مع جرف تاريخها، وإذا أخذنا بمقولة لا حقيقة تاريخية بل قصص، وتوخينا الدقة والإنصاف والعدل فقد نستنتج أن هذا الصراع يدور حول القصص، أي قصصنا نحن في مواجهة قصصهم، غير أن الأمر ليس على هذا النسق أبداً، فالصهيونية تقول لنا منذ البدء أن قصصنا وهمية، وأن قصصهم حقيقية تاريخية، أي أن قواعد هذه اللعبة تتغير حسبما يشاء الخصم الصهيوني، فهو كالفريق الذي كلما اقتربت الكرة من مرماه ينزع المرمى من مكانه ويركض به إلى مكان أبعد.
فالاستشراق الصهيوني نظام فكري من طراز فريد، فإن الصراع التأريخي الذي يدور بيننا وبينه ليس كمثل الصراعات الدائرة في أماكن أخرى من عالمنا المعاصر كالصراع على تاريخ الهند مثلاً بين المؤرخين الهنود والبريطانيين، أو على تاريخ أفريقيا بين المؤرخين الأفارقة والأوروبيين، بل هو صراع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير أرض يجري تغيير ملامحها ساعة بعد ساعة، إن هذا الاستشراق يسعى إلى تثبيت تاريخه هو ونفي تاريخنا نحن جملاً وتفصيلاً، ومن أبرز مقولات هذا الاستشراق فيما يتعلق بتاريخ القدس العربي المبكر كما نلمحها في الكتب والمجلات التي يستخدمها هذا الاستشراق في سبيل الوصول إلى غاياته تحت ستار مما يشبه البحث العملي.
أولاً: يقول لنا هذا الاستشراق إن المصادر العربية الإسلامية حول تاريخ القدس في الفترة الأولى التي تلت الفتح متناقضة متضاربة ومنمطة - أي أنها على شكل نماذج من القصص الشعبية التي أخذها الإسلام أما من الأديان الأخرى، وخصوصاً اليهودية، أو الذي اتخذ شكل النمط والنموذج الذي مثيله الأقرب هو الأدبيات والأساطير الشعبية -.
من هنا فالوصول إلى أية حقيقة تاريخية استناداً إلى هذه المصادر أمر شبه مستحيل، وليس بالإمكان أكثر من أن يكتشف المؤرخ النية من وراء هذه القصص وهي في الأغلب تعكس رغبات أجيال من المؤرخين العرب المسلمين عاشت بعد الأحداث بمئات السنين، وحاولت خلق تاريخ ملائم للقدس.
ثانياً: يقول الاستشراق أيضاً أن دخول عمر بن الخطاب إلى القدس، ولقاءه البطريرك صفرونيوس هو وهم ومجرد أسطورة الغاية منها إضفاء الاحترام والإجلال على القدس، وكلها قصص ابتدعها خيال جيل لاحق من المؤرخين العرب، ولربما في أيام الحروب الصليبية مثلما يقول بعض المستشرقين.
ثالثاً: إن الإشارة الواردة في القرآن الكريم إلى الإسراء والمعراج لا تدل على القدس تحديداً، أما أحاديث الإسراء فتنتمي إلى عصور متأخرة أراد فيها المسلمون التأكيد على أهمية القدس لأسباب سياسية، إذ لا ترد أية إشارة إلى الإسراء والمعراج في الآيات والكتابات الواردة على جدران قبة الصخرة مثلاً، وهو أمر متوقع فيما لو كانت القدس هي المقصودة في الآيات القرآنية.
رابعاً: إن القدس لم تتمتع بأية مكانة خاصة لا على المستوى الديني، ولا على المستوى السياسي في العصور العربية الإسلامية الأولى، ولم تكتسب القدس مكانتها سوى بعد مضي قرون عديدة، أما في العصور الأولى فقد كانت مدينة هامشية دينياً وسياسياً، ورغم أهمية قبة الصخرة والمسجد الأقصى في ميدان العمارة، فإن هذين البناءين لا يدلان بوضوح على أية أهمية خاصة ترتبط بمكانة القدس.
هذه باختصار بعض المقولات الرئيسية التي نجدها في ثنايا الاستشراق الصهيوني ذي الشكل الأكاديمي، وهي مقولات تعكس بجلاء ذهنية صهيونية ما برحت تقول لنا ومنذ عشرات السنين: إن تاريخهم أكثر قدسية من تاريخنا، كما يرد مثلاً في أقوال نسبت إلى شمعون بيريز منذ زمن ليس ببعيد: قد يكون لكم أيها العرب بعض الروابط التاريخية مع القدس لكن تاريخنا هو الأقدس.
وفيما تلوح مدينة القدس أمامنا وكأنها قادمة على حل نهائي يبدو من الواجب لنا أن نعي شيئاً مما قد يدور في ذهن الخصم الصهيوني عندما تدق الساعة، فنحن سنواجه قريباً من سوف يقول لنا ما معناه: "لنا القدس، والقداسة، والتاريخ الصحيح، ولكم الأساطير".
لن أسعى إلى أن أفند هذه المقولات الصهيونية قولاً رغم اعتقادي بأن هذه المقولات وأمثالها هي من بين الأسس الراسخة التي بني عليها الخطاب الصهيوني المعاصر حول القدس، فالبعض من هذه المقولات يفند نفسه بنفسه، غير أن الأمر يتعدى ذلك ليتناول حملة صهيونية أوسع ترمي إلى وضع علامة استفهام كبرى حول مصداقية المصادر العربية المبكرة برمتها، دعونا نتأمل قليلاً مغزى هذا الأمر.
فتوحات عربية شاسعة الأرجاء تقضي وفي زمن قصير جداً نسبياً على امبراطوريتين عظيمتين، وذلك من خلال عمليات عسكرية تفترض درجة عالية من المهارة اللوجستية، ثم تبني لنفسها نظاماً إدارياً، وحضارة ومدنية، وتتولى أموراً حكومية ومالية واجتماعية بالغة التعقيد، وإلى ما هنالك من بنيان حضاري إمبراطوري، ثم يأتي اليوم من يقول لنا: أن هذه الحضارة عندما جاءت لتضع لنفسها تاريخاً كانت كالطفل الساذج الذي لا يعرف للحقيقة معنى، ويقال لنا: إنه وبعد ذلك بمئات السنين، أتت طبقة أخرى من المؤرخين فابتدعت تاريخاً جديداً برمته، وكأنما هي مؤامرة كبرى تنوي أن تطمس ما لا يلائمها، وتبرز ما يخدم أغراضها الدعائية.
إن الذي يضع علامة استفهام كبرى على المصادر المبكرة هو كمثل الذي يقول لنا إن الحضارة العربية الإسلامية الأولى كانت متقدمة في كافة الميادين الإدارية والحكومية والقانونية والسياسية والمعمارية واللوجستية لكنها كانت طفولية وساذجة وأسطورية في كتابة التاريخ، وعلينا نحن اليوم أن نصدق جيلاً من المؤرخين العرب في عصور لاحقة جلسوا حول طاولة الكتابة، ودرسوا بدقة الأدبيات الشعبية اليهودية، ثم بنوا عليها قصصاً معينة لكي تأتي ملائمة للتنبؤات اليهودية: (ولا يقال لنا لماذا فعلوا ذلك)، ومن ثم عمدوا إلى طمس كافة الروايات الأخرى، وكل ذلك حتى يعظموا مكانة القدس، ويخترعوا لها أهمية لم تكن لها من قبل، ويراد لنا أن نعترف بأن هذه المؤامرة التأريخية تمت في زمن كان فيه جهابذة التاريخ والحديث قد بلغوا درجة عالية جداً من التمحيص والتدقيق في الروايات.
أما فيما يختص باستخدام النماذج والأنماط الأدبية في الكتابة التاريخية فالواضح الجلي لكل من تصدى لهذا الموضوع أن النمط لا يمكن له أن يكون نمطاً ناجحاً مقبولاً لدى العموم إلا إذا تضمن في داخله نواة من الحقيقة التاريخية، فالمؤرخ يلجأ إلى استخدام الأنماط والنماذج (أي التشبيهات والاستعارات) لأنها تشبه الحقيقة، وتحاكي الواقع، وليس لإخفائها أو تزويرها، غير أن الأدهى من كل هذا وذاك هو أن الاستشراق الصهيوني هذا وبعد أن وضع علامة استفهام كبرى حول كل ما تتضمنه المصادر العربية المبكرة حول القدس يعود فينتقي من هذه المصادر فقط ما يناسب نواياه وأغراضه.
ففي رواية الفتح الإسلامي مثلاً يقال لنا: عمر بن الخطاب ليس هو الذي فتح المدينة بل الفاتح الحقيقي هو على الأرجح عمرو بن العاص، فإذا كانت المصادر كلها مشبوهة فما معنى الانتقاء والتفاضل بين الروايات؟ وإذا كانت المصادر كلها مشبوهة فما معنى أن نكتب أي تاريخ من أي نوع كان بالاستناد إلى هذه المصادر؟ ومن سخرية الأقدار أن آخر ما توصل إليه البحث العلمي حول المصادر غير العربية لتاريخ الإسلام المبكر أي المصادر اليونانية، والسريانية، والعبرية، والقبطية، والأرمنية، والفارسية قد وجد أن هذه المصادر تطابق في غالب الأمر ما جاء في المصادر العربية ذاتها.
وفيما يختص بقبة الصخرة والمسجد الأقصى فإنه يقال لنا: أن غياب أية إشارة إلى الإسراء والمعراج في الكتابات والنقوش في هذين الحرمين دليل على أن ربط الإسراء والمعراج بالقدس أمر تم في عصور لاحقة، إذ لو كان هذا الرابط موجوداً في زمن البناء لما غاب عن ذهن الباني أن يذكر الإسراء والمعراج في الكتابات والنقوش، وهذه المقولة كما هو مثال صارخ جلي على السفسطة التي تفترض أن غياب الدليل دليل على غيابه، ولا حاجة للوقوف عند هذه المغالطة التي يستبان منها بوضوح غرضها الدعائي.
هذه - وباختصار شديد - بعض ملامح هجمة يشنها الاستشراق الصهيوني، ولا هم له سوى إلقاء الشك على مركزية القدس في التاريخ العربي، ونحن وإن كنا اليوم نشهد على أرض الواقع تنازلات فلسطينية متتالية على صعيد التفاوض السياسي، وعلى صعيد القوانين الدولية، وعلى صعيد الأرض، نشهد أيضاً بعض التراجع الصهيوني الملحوظ على صعيد التأريخ لفلسطين.
فقد كانت الحجة الصهيونية ولسنوات مديدة أن الفلسطينيين هربوا من أرضهم تبعاً لأوامر تلقوها من الزعماء العرب، فأتى الآن فريق من المؤرخين الصهاينة اسمهم المؤرخون الجدد ليغير هذه الرواية ويعترف بأن طرد الفلسطينيين كان جزءاً من سياسة صهيونية متعمدة وواضحة وموثقة بالوثائق.
ثمة حقيقة هامة لا يجب أن نغفل عنها وهي أن الصراع على القدس يدور على أصعدة شتى، وفيما يقترب هذا الصراع من إحدى محطاته العديدة على مر الزمن، لا بد لنا من التصدي لهذه العقلية الصهيونية العجيبة التي تسمح لنفسها ببلع الأرض، والتي تجد أن بلع الأرض هذا أمر أسهل على الهضم إذا كان بالإمكان إغراق الأرض المنوي بلعها في مستنقع من الأساطير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد