التراث والاستشراق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يمكن القول بأن الاستشراق بمعناه العام يشير إلى الدراسات والأبحاث والأعمال الكتابية التي قام بها مفكرون غربيون عن الشرق - وهو فرع من فروع المعرفة في الثقافة الغربية وموضوعه الشرق وكلمة استشراق تطلق على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق ولغاته وآدابه وحضارته.

ويبدو أن الاستشراق تاريخياً برز منذ بدايات القرن الرابع عشر الميلادي عندما أنشئ عدد من كراسي الأستاذية في اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية، وهذا ما عرف بداية الاستشراق الرسمي، في حين يرى البعض أنّ الاستشراق بدأ قبل ذلك التاريخ حينما بدأت الكنيسة جهودها في مواجهة الإسلام والمسلمين، وتزايد مع الحروب الصليبية، وظل مستمراً مع سيطرة الاستعمار الأوروبي الحديث على العالم الإسلامي، ومنذ ذاك الحين اندفع المستشرقون بحركة قوية لامتلاك أكبر قدر ممكن من التراث المادي (اثري)، وفكري (كتب ومخطوطات)، وقاموا بدراسته وفق مناهجهم، ومستوى فهم كل واحد منهم ودربته في البحث والتاريخ، فجاء أكثره مشوهاً، وبعضه سليماً، أما المنهجية في الرواية الاستشراقية فكانت تقوم على معارضة الثقافات على قراءة تراث وتراث، بمعنى آخر تقدم تفسيراً للتراث العربي الإسلامي من خلال تراثهم هم، ثم يقطع أوصال هذا التراث عند تقسيمه وتشتيته من خلال غياب النظرة التاريخية وغير الموضوعية.

واختلطت دوافع وأهداف الاستشراق باختلاط مراحله بالأهداف التبشيرية والاستعمارية ثم الصهيونية، وضمت حركة الاستشراق عدداً هائلاً من المؤسسات والمجلات ودور النشر والكتب والأبحاث، وبرز عدد كبير من المستشرقين الذين حملوا روحاً عدائية واضحة مثل (بيكر) و(غولد تسهير) و(بيرحر) و(برنارد لويس) و(بارتولد).. وبالمقابل ظهرت بعض الأعمال الاستشراقية التي اتسمت بالروح العلمية، ولا تحمل دوافع عدائية مثل (ريلاندرس) و(يوهان رايسسكه)..

ومن المفاهيم الخطرة التي طرحها الاستشراق محاولتهم التأكيد على مفهوم الذات المنعكسة للإنسان العربي المسلم في ( إدراك الإنسان لنفسه كما يراه الآخرون )، في حين أسهم بعضهم أسهاماً واضحاً في تحقيق كتب التراث وفهرستها، وفهمها بشكل مميز، وبرزت أراؤهم بموضوعية معتدلة مثل أعمال (جو ستاف لوبون) و (سيدو) و (تويني)، ووجد بعض الباحثين العرب المسلمين في مثل هذه الأعمال قرباً أكثر من تراثهم، ومجالاً للاعتزاز بماضيهم وحضارتهم، لهذا فإن الحاجة لا تزال قائمة لتصحيح وعينا بتراثنا، وهذا يتطلب إعادة الأمور إلى نصابها بأخذ زمام المبادرة من المستشرقين، وإعادة دراسة التراث ذاته من الداخل على أيد عربية إسلامية، ذات كفاية وخبرة ودراية، وأن تتم معالجة التراث كوحدة ضمن سياقة التاريخ الطبيعي، متسلحين برؤية تاريخية واعية، متطلعين إلى بناء المستقبل انطلاقاً من معطيات واقعنا وخصوصيتنا ومقومات شخصيتنا، وحتى يصبح التراث معاصراً لذاته ومعاصراً لنا في آن.  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply