فإذا أدركنا المغزى في أن قبائل المحاميد هي من الأصل قبائل عربية طردت من تشاد إلى النيجر سابقاً، وكذا إذا كان الصراع الجاري في دارفور قد جرى تصويره على أنه صراع بين القبائل العربية وغير العربية أو الأفريقية، وأيضاً إذا عدنا إلى الخلف قليلاً لنتذكر الشعارات التي طرحها زعيم التمرد في جنوب السودان (جون جارانج) في رؤيته لبناء سودان جديد، والتي قامت على فكرة أن العرب أقلية في السودان، فإن كل ذلك يقدم الرؤية المتكاملة لما يجرى في تلك المنطقة من حركة إذكاء للصراع ضد القبائل العربية، ولتحويل وتوجيه الصراعات القبلية التقليدية إلى حالة صراع سياسي ضد الوجود العربي الممتد لآلاف السنين في تلك البقعة من العالم، مروراً بخطة الفصل بين المسلمين وبعضهم البعض على أساس عرقي، والتي تستهدف جميعها في نهاية المطاف إقامة جدار فاصل بين المسلمين من أصول عربية في شمال القارة الأفريقية والمسلمين في وسط القارة من أصول أفريقية على خلفية الحالة العامة التي تجرى في العالم حالياً من قبل الدوائر الغربية لتصوير العرب كإرهابيين، ولتخويف الناس من الإسلام - مع تصويره بحالة من حالات الفكر العربي "الإرهابي" - وفقاً لمنظور استراتيجية الحرب على الإرهاب.
وإذا كان ما يجرى في تشاد ما يزال غير واضح المعالم في ظل تعدد أشكال الصراع الجارية وأنماطها، وبسبب أن أيدي السلطة هناك غير ظاهرة فيما يجرى بصفة قاطعة حتى الآن - وان كانت هناك دلالات على ذلك - فإن الأحداث التي شهدتها النيجر حين صدر قرار مباغت بطرد "عرب المحاميد" من شرق النيجر باتجاه تشاد كانت واضحة الدلالات باعتبار الأمر جاء بقرار حكومي، وبالنظر إلى استخدام القوات المسلحة وأجهزة الأمن في تنفيذ القرار، وكان النيجر قد دخلت في حرب مع غزو خارجي لأراضيها!.
لقد جرى النظر إلى قضية طرد عرب المحاميد من زوايا متعددة، فهناك من رآها محاولة من الدولة لإنهاء صراعات قبلية استناداً إلى ما تواتر عن حدوث اشتباكات بين قبائل المحاميد "الوافدة" من تشاد، والقبائل الأصلية في النيجر، وأن الأمر لا يعدو كونه قراراً "أهوج" أو "متعجل" لإنهاء خلافات في تلك المنطقة قبل أن تستفحل، وحفاظ من الدولة على الأمن الاجتماعي في ذاك البلد، وهناك من نظر إلى القرار باعتباره تعبيراً عن قلق حكومة النيجر من تنامي نفوذ قبائل المحاميد في داخل البلاد، واستشهد في ذلك بامتلاك تلك القبائل للسلاح والمال والنفوذ السياسي، وإلى أن نفوذها وصل حد السيطرة على مناطق شاسعة في شرق النيجر بما يهدد استقرار الحكم في هذا البلد، مشيراً إلى أن النيجر لا تحتمل سيطرة أي مجموعة عرقية على ثروة وسلاح بسبب حالة الفقر، وهناك من نظر إلى الأمر من زاوية تصدير الدول مشكلاتها إلى بعضها البعض، إذ قرأ ما يجرى على أنه قرار من حكومة رأت بعد المجاعة التي تعرضت لها البلاد نتيجة ندرة الأمطار إعادة المحاميد إلى تشاد، حيث المياه والغذاء فيها لا يكفى سكانها الأصليين أصلاً، فكيف بها أن تستضيف نحو 150 ألف لاجئ من دولة تشاد؟
غير أن المدقق فيما جرى في تلك العملية يرى فيها نقلاً لتجربة الصراع في دارفور إلى النيجر، ضمن ظاهرة عامة تستهدف تعميم تجربة دارفور على كل مناطق الجوار لتصبح هي نمط الصراع الحالي والمستقبلي، ويكتشف أن ما يجرى في النيجر هو جزء من إعادة ترتيب الأوضاع السكانية في منطقة وسط أفريقيا لتحقيق الهدف الاستراتيجي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة فرنسا - التي هي عنصر مشترك في تشاد والنيجر باعتبار البلدين خاضعتين للنفوذ الفرنسي مباشرة - بتشكيل حزام "أفريقي" مانع للتواصل السكاني بين عرب شمال أفريقيا المسلمين، والأفارقة المسلمين في منطقة وسط أفريقيا الذين يمثلون قوة هائلة، وبمثابة العمق للأمة الإسلامية في قدراتها ومعاركها، في ظل ما يجرى من حالة صحوة في كل مناطق العالم الإسلامي.
القصة والرواية:
قصة عرب المحاميد ببساطة تبدأ في النيجر بعدما رحلوا إليها على ثلاث دفعات في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي خلال مراحل التوتر والانقلابات والصراعات في تشاد، كما كان الصراع الليبي التشادي حول إقليم تيزى اوزو عاملاً مؤثراً في ظهور مواقف "مضادة" للعرب بشكل عام في هذا البلد، وكان ترحيلهم أمراً قسرياً لا عملاً تطوعياً أو ناتجاً عن الأوضاع الاقتصادية، بعدها عاشوا في النيجر ضمن "ثقافة " الهجرة المعتادة والسارية في أفريقيا، حيث القبائل - وهى الوحدة الأساسية في التنظيم الاجتماعي والسياسي أيضاً - تعيش مقسمة بين عدة دول، أو كل قبيلة هي في واقع الحال تعيش مقسمة في المناطق الفاصلة بين الدول دون اعتراف بالحدود والكيانات السياسية للدول، إذ هي في الأغلب قبائل رحل تعتمد في حياتها على الرعي والتنقل والترحال، وتحل أينما حل الماء ووسائل الحياة.
وقد وصل عدد السكان من قبائل المحاميد في النيجر إلى نحو 150 ألف مواطن، عاشوا ويعيشون في شرق البلاد حتى أصبحوا يمثلون 1.5% من السكان في بلد يعد ما قبل الأخير في ترتيب المجتمعات الأفقر في العالم لا الأقل تنمية فقط، وقد أصبح المحاميد "مواطنون" كاملوا الأهلية في مواطنتهم، كما أصبح لهم ممثلون في البرلمان بلغ عددهم 9 نواب، بما يشير إلى اندماجهم في الحياة السياسية وليس فقط الاقتصادية والاجتماعية في النيجر.
وبالنظر إلى صغر حجم المحاميد سكانياً فقد كان لافتاً أن يصدر القرار بطردهم أو ترحيلهم من البلاد جميعهم ودفعة واحدة تحت اتهامات بامتلاك السلاح، والسيطرة على مصادر الثروة المائية على حساب القبائل الأخرى، وبالاحتكاك معها، وأن يجرى التحرك ضدهم باستخدام أجهزة الأمن والمخابرات، والقوة العسكرية لتنفيذ قرار الطرد، وكأن النيجر باتت في حرب مع دولة مجاورة.
وإذ جرت وساطات وتدخلات كما رفضت تشاد السلوك الذي قامت به السلطات في النيجر خوفاً على استقرارها المزعزع أصلاً، كما إذ عرضت أحد البلاد العربية الأفريقية الاستعداد لتخفيف الضائقة المالية للنيجرº فقد جرى التراجع عن قرار الترحيل، وصدر إعلان حكومي بأن الحكومة ستدرس فقط ترحيل حالات المقيمين بصفة غير شرعية من المحاميد، والمقدر عددهم بأربعة أو خمسة ألاف لترحيلهم.. الخ، وهو ما تصور البعض انه أنهى القضية، وأن الأمور ستعود إلى سابق عهدها.
الذي يجرى بالدقة:
المتتبع لما يجرى في تلك المنطقة الممتدة من النيجر وتشاد، وأوغندا والسودان، وكينيا وإثيوبيا، وأرتيريا والصومالº يلحظ أن الملامح الجوهرية في تطور الأحداث تتمثل في تحول مضطرد "للنزاعات القبلية " المشتهرة في كل القارة الأفريقية -كما هو الحال بالنسبة للصراع بين الهوتو والتوتسى وقبائل الزولو وغيرها في جنوب أفريقيا، وكذا بين الشلك والنوير والدينكا في جنوب السودان - إلى نزاعات ذات طابع سياسي، وأن هذا التحول يجرى بشكل متصاعد على رؤية بمواجهة بين "العرب" والأفارقة، وفى الكثير منها تقوم على شق المسلمين بين "عرب" وأفارقة، مع توسع شديد في اتهام العرب بالهيمنة والإرهاب، والقتل والتطهير العرقي، والسيطرة على الثروات والسلطة، أو محاولة السيطرة عليها.
لقد بدا الأمر خلال ما كان يجرى – وما زال - في السودان من صراع بين الشمال والجنوب، وفى ذلك كان الشعار الرئيس الذي طرحه جارانج، واستند إليه في خطته لبناء "سودان موحد" هو أن العرب أقلية في السودان (وكان يسميهم بالجلابة تحقيراً لشأنهم)، وأن الأفارقة أغلبية تحكم من قبل تلك الأقلية الاستعمارية العربية - ولذلك لا يجب تقسيم السودان بل سيطرة الأغلبية عليه، وهو للأسف ما نظر إليه الكثيرين باعتباره دليلاً على عدم انفصالية جارانج، وأشاروا إلى إيمانه بالوحدة في السودان - في مواجهة الأقلية التي لم تستعمر فقط بل هي استأثرت بالسلطة، وحولت الآخرين إلى عبيد كانت تتاجر فيهم.
وفى الصراع في دارفور أصبح الأمر أكثر وضوحاً على صعيد التقسيم العرقي للمسلمين - بالمناسبة الأمر نفسه حادث في قضية الأكراد في العراق -، إذ هو لم يقتصر على اتهام العرب بالهيمنة، بل هو قام على تحويل النزاع القبلي على المراعى ومصادر المياه إلى صراع بين المسلمين وبعضهم البعض على أساس عرقي، إذ جرى الحديث بشكل مضخم عن "قبائل الجنجويد العربية" باعتبارها قبائل موالية للحكومة التي يسيطر عليها العرب في الخرطوم، في مقابل القبائل المسلمة من أصل أفريقي.
وفى النيجر وهى دولة أغلب سكانها مسلمينº جرى الآن اختراع ظاهرة "المحاميد العربية"، وتحويلها إلى قبيلة تملك الثروة والسلاح، وتعتدي على القبائل الأخرى..الخ، وهو بالدقة ما جرى في بداية مشكلة دارفور بالنسبة للجنجويد قبل أن يتطور الأمر إلى قصص وروايات التطهير العرقي وفق المحاولة السياسية الغربية الأشهر في نسج صورة "مشيطنة" لشخص أو لتجمع سياسي أو قبلي، ونسخها وإسقاطها على حالات أخرى مع تغيير الأسماء، وإبقاء الصفات.
وهكذا يتواصل الأمر الآن في تشاد سواء على صعيد اتهام حكومة تشاد للحكومة السودانية بتحرك المتمردين من أصول عربية ضد الحكومة المركزية - وهو ما وصل إلى إعلان الحرب على السودان -، أو على صعيد الاشتباكات التي جرت بين قبائل عربية وأخرى أفريقية وراح ضحيتها نحو 220 مواطناً تشادياً.
النيجر والمحاميد:
انتهت الأحداث في النيجر إلى تأجيل قرار الطرد - بعد أن دارت عجلة تنفيذه باستخدام القوات المسلحة -، وحصره في عدد أقلº غير أن الأمر في واقع الحال لم ينته، بل ما جرى كان البداية في إدارة عجلة الصراع لتتطور في محطة أخرى أشد تعقيداً.
فمن الآن فصاعداً قد زرعت بذور تحويل الصراع إلى حالة سياسية، كما أدخل فيه عنصر الصراع المسلح، وباستخدام القوة، وفى ذلك لا شك أن هناك من سيسعى إلى أن يطور الصراع نحو حالة طرد واسعة للاستيلاء على الثروات التي يمتلكها المحاميد، وعلى الأرض التي يقطنون فيها... الخ.
كما المحاميد أنفسهم لن يعودوا من الآن يشعرون بالاستقرار لا السياسي ولا الاقتصادي ولا المعيشي..الخ.
والأمر في واقع الحال مرشح بالامتداد والتطور إلى حالة أوسع على صعيد القبائل العربية في كل من تشاد والنيجر دفعة واحدة، ربما نكون قد دخلنا أيضاً على حالة مشابهة وأشد خطورة في كل من نيجيريا وكينيا بشكل خاص، والأولى تعيش بالفعل ومنذ مدة طويلة حالة صراع بالغة التعقيد بين المسلمين الذين يزيد عددهم عن المسيحيين، والمحرومين والممنوعون من السيطرة على الحكم والثروة النفطية، والذين كانوا أول من بدا تجارب تطبيق الشريعة في الولايات ذات الأغلبية الإسلامية بما يجعلها جاهزة لحريق أوسع وأكبر، وأعمق وأخطر.
والأمر في انتظار جولة جديدة من الصراع
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد