بسم الله الرحمن الرحيم
فوجئت السلطة العثمانية بوصول جنود الروس القياصرة إلى حدود الأستانة، وقد نصبوا مدافعهم لرميها من مسافة عشرة كيلومترات فقط، فهبوا جميعاً وردوا المهاجمين.
بعد سنتين وصل السلطان عبد الحميد الثاني - رحمه الله - إلى الحكم (حكم بين 1876م و1908م)، وبعده بسنتين أخريين انعقد مؤتمر برلين في 13/6/1878م الذي تقرر فيه - على غرار وعد بلفور وإنشاء دولة اليهود في فلسطين - إنشاء دولة قومية للأرمن في شرق الأناضول.
وبدأ الروس والغرب بمساندتهم لإنشاء تلك الدولة تحديداً في الشمال الشرقي من كردستان الواقعة اليوم في الشمال الشرقي لتركيا، رغم أن نسبة الأرمن في تلك المنطقة لم تكن أكثر من 18.6% من مجموع السكان كما تقول وثائق اليوم، ولكن الروس والغرب كانوا يريدونها ممشى النفوذ في الجسد العثماني لتنفيذ بقية مقررات برلين الخاصة بتقسيم الدولة العثمانية، ولكن السلطان عبد الحميد الثاني - رحمه الله - جاء على قدر فأفشل الخطة الغربية، وبدد أحلام الأرمن في إنشاء دولة لهم تكون خنجراً في خاصرة الأكراد قبل الأتراك.
كما أخر عبد الحميد سقوط الدولة العثمانية أكثر من ثلاثين عاماً، ونجح بعدما كسب الأكراد ثانية، وجعلهم هم حماة ديارهم مع الولاء للسلطان، و"الأكراد جنود لمن يحسن قيادتهم" كما قال شيخ البلوش مولوي عبد العزيز ملا زادة - رحمه الله - عندما زار أكراد إيران.
من ضمن ما وصل إليه استنتاج السلطان عبد الحميد من أسباب وصول الروس والأرمن إلى الأستانة أن الروس استطاعوا أن يحيدوا الأكراد وإماراتهم خلال زحفهم، فبدأ بسياسة حكيمة لكسب الأكراد ثانية، فأصدر فرماناً يقضي بتشكيل الألوية (الخيالة) من القبائل الكردية في المناطق المتاخمة للإمبراطورية الروسية في شرق تركيا الحالية.
وأصدر التعليمات بأن تكون هذه القوة غير النظامية (التي سميت بالفرسان الحميدية) بمثابة قوة مساندة للجيش النظامي أثناء الحروب، فكان على كل فارس أن يبقى في الخدمة 23 سنة ولو بشكل متقطع، فتشكل 63 لواء، وكان في كل لواء ما بين ألف وألف وخمسمئة مقاتل مسلح.
وسمح بعودة نفوذ البدرخانيين أبناء بدرخان الكبير الذي كان - رحمه الله - ثاني شخصية كردية تأثيراً بعد صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله -، وقد أصبح ابنه عبد القادر خان رئيس ديوان (ما بين) للسلطان عبد الحميد مدة 14 عاماً.
والديوان هذا كان سكرتارية بين السلطان والرعية، وبهذه السياسة الحكيمة استطاع السلطان - رحمه الله - خلال أقل من عشر سنوات إعادة الأكراد إلى صفه، ووثق بولائهم وإخلاصهم لدينهم، فتقوى بهم، وقواهم حتى سمي "بابي كوردان" أي أبو الأكراد كما كتب فان برونسون الباحث الذي زار المنطقة الكردية مرات عديدة. (Van Bruinssen: Agha,Shekh and Stats on the Social and Political Organization of Kurdistan / Utrect 1978 p 235).
ومنظرو العلمانية الذين قاموا بانقلابهم الأول على السلطان عبد الحميد عام 1908م كانوا أتراكاً وأكراداً، فنامق كمال الرائد الأول كان تركياً، والدكتور عبد الله جودت كان كردياً، وهما المتأثران بمونتسكيو الفرنسي، وصاحبا مجلة "تنوير الأفكار".
وعند انقلابهما استعانا بمحمود شوكت العربي العسكري، وإبراهيم تمو الألباني، فهل أعاد رجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية التاريخ باستراتيجية حميدية؟
قال أردوغان للأكراد في ديار بكر "إن الكرد ظلموا، فلا ظلم بعد اليوم"، وعندما أصبح عبد الله غل رئيساً وجلس مجلس مصطفى كمال قال للأكراد: "أنا رئيس لكل تركيا وللأكراد أيضاً"، وقد سارا بهدوء على مسار أستاذهم الحميدي المصابر نجم الدين أربكان الذي زار بلاد الأكراد قبلهم، وقال "فقد رأيت في كل مدينة صغيرة وكبيرة في مناطق الأكراد سجناً ولم أر مدرسة ولا مستوصفاً".
فهل وصول 150 كردياً إلى البرلمان التركي جاء جزافاً أم استراتيجية حميدية ثانية، ونحن نرى في البرلمانيين الجدد من الأكراد السيد عبد الملك فراتي حفيد الشيخ سعيد بيران الذي أعدمه وأتباعه الكماليون في 1925م يوم ثار عليهم لإعادة الخلافة، وقد نصبت لإعدامهم 114 مشنقة بعدد سور القرآن، فها هو فراتي من الذين يثق فيهم أردوغان وحزبه.
نجح حزب العدالة والتنمية في إشباع الشعب حاجاته الأساسية (Physiological Needs) التي تتضمن الطعام واللباس، والسكن والزواج، والعيش الكريم عملياً وليس شعار "روتي، كبرا، مسكن بالأردية بمعاني الخبز، اللباس، والسكن" الذي رفعه حزب الشعب الباكستاني منذ ذو الفقار علي بوتو إلى يوم بينظير هذا.
بعدها أو معها ضَمِن حزب العدالة والتنمية للجميع بمن فيهم الأكراد حاجات الأمن (Safety Security Needs) على نظرية ماسلو، فكان من الطبيعي جداً أن يجد الأكراد وغيرهم في الحزب وزعمائه إشباع الحاجة الثالثة وهي حاجات الانتماء (Social affiliation Needs).
ولأن الحزب جاء بتوجه ديني وطني لا باستعلاء قومي جاهلي نجح بسهولة وسرعة في كسب الولاء المتمرد في أكرادٍ, ما أسلس انقيادهم إلى الدين، ثم كان من السهل أن يفوز حزب العدالة والتنمية بالسيطرة على الحكومة والبرلمان والرئاسة، وبالتالي التحكم في مجلس الأمن القومي في البلاد.
والغريب أنه بعد هذا التمكين الجماهيري قال أردوغان: "إن ثلث قادة الجيش سيحالون إلى التقاعد بعد سنة"، بشرى وإنذار كما كان إعلان خطة أخرى لتثبيت القدم، قاله بحزم دون انتفاش الغرور، ثم قال قولة الحازم في نفس الاتجاه: "علينا إعطاء فرصة استئناف الحكم لـ167 ضابطاً الذين أخرجوا من الجيش، وإعادتهم إلى وظائفهم".
كان ذلك في زمن حكم ائتلاف أربكان وتشيلر، وقد أحيلوا إجبارياً على التقاعد بسبب ميولهم الدينية، وهذا يعني أن حزب العدالة والتنمية يريد احتواء الجيش، وترويضه حضارياً على أرضيته الفكرية الإسلامية.
كل ذلك يجري متسارعاً متلاحقاً، والجيش التركي - وهو الحرس القديم للعلمانية المسلحة المترهلة في تركيا - يشعر أن فرص الانقضاض على السلطة لم تعد متاحة أمامه، وأن حزب العدالة قد كسب الرهان، واستلبه الهالة القدسية التي كان يفاخر بها الشعوب المسلمة، ويتبختر بها بين ساسة الغرب سادته، خصوصاً بعدما نجح أردوغان في اللجوء بحكومته إلى الاتحاد الأوروبي حماية لها من بطش العسكر.
فلم يكن أمام الجيش التركي إلا استرجاع صدى زمجرة ولو تمثيلاً، فكانت التصريحات النارية أولاً من جنرالاته قبل الانتخابات رغم اقتناعهم بأن المنبعث من زفيرهم ليس إلا دخان الانطفاء، وشعور الانكفاء.
أما بعد الانتخابات فقد شعروا ببدء العد التنازلي لانحدار سريع فكان لا بد من العودة إلى "لعبة توم وجيري الكارتونية" مع حزب العمال الكردستاني، وهو شبيه بقضية كشمير بالنسبة للجيش الباكستاني، فحشروا وولولوا أن قد نفد صبرنا بعد مقتل جنودنا الذين كنا ننعتهم بالغازي، ويزغرد الشعب لهم عندما كانوا يرسلون إلى القتال الداخلي، قالوها وهم يتحسرون على زمن يكاد يقترب من الضياع، فلم تكن في اعتقادي إلا هذه المناورة السياسية بحركة ارتجالية عسكرية لن تنتج إلا هديراً.
وعلى الجانب الآخر حزب العمال الكردستاني العلماني التوجه، والواقف على أرضية فكرية مشابهةº هو أيضاً شعر بعد الانتخابات البرلمانية التركية بأن جماهير الكرد قد تخلت عن شعاراتها المدغدغة للمشاعر القومية لاسيما أنه كان هو الآخر في عد تنازلي منحدر سريعاً نحو الانكماش بعد اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان، فكان لابد من عمليات داخل تركيا ليقول لأتباعه صبراً فما زلنا رفاق الدرب القومي، وإن التحق الجمع بالمساجد.
تراجعت شعبية حزب العمال الكردستاني خلال السنين الخمس عشرة المنصرمة في كردستان الشمالية، لكنه نجح في توظيف طاقات جديدة في أكراد العراق (أنشأ لهم حزباً بقيادة الدكتور فائق كولبي)، وبين أكراد إيران (أنشأ لهم أيضاً جناحاً باسم بزاك أي الحياة الحرة بزعامة رحماني)، لكن الحزب وأجنحته المختلفة لم يستطيعوا الصمود كثيراً في وجه عودة الجيل الجديد من الأكراد إلى الإسلام قيماً ودعوة تحرر، فكان لابد من عمليات عسكرية يقوم بها تزيد الغبش في الرؤية السياسية للجيل الكردي الناشئ على أمل كسب المزيد منهم، فتلك الحشود والتهديدات ليست سوى عمليات تجميل، لكن هل ستحقق النتيجة المرجوة لصالح الشيخوخة هذه؟
لا أعتقد ذلك.
فعسكرياً حزب العمال في معاقله الجبلية أقوى كماً ونوعاً بثلاثة أضعاف من ذي قبل، وحصونه الجبلية أقوى وأمنع من تورا بورا الأفغانية، وقد فشلت ثلاث محاولات سابقة بعدما أتى البارزاني عام 1992م و1996م بالجيش التركي عليهم مقدماً خدمات ثلاثين ألفاً من البشمركة دون جدوى، ثم أتى الطالباني بهم عام 2000م لمواجهة الحزب في معاقله في جبال قنديل دون أن يستطيعوا أن يتقدموا مئة متر من جبهاته، فكيف يصل اليوم الجيش التركي إليهم وقد أعلن البارزاني والطالباني أنهما لن يتقدماه ثانية لمحاربة حزب العمال؟
وكيف يصل الجيش إليهم وهم أقرب إلى الحدود العراقية الإيرانية من الحدود العراقية التركية؟ فالمشاة ميؤوس من نصرهم عليهم ولا أثر كبيراً للطيران ولا للصواريخ تسقط على قمم استعصت على غازات صدام حسين الكيمياوية؟ لذلك صرح بعض قادة الجيش التركي بأن "النصر غير مضمون".
ولئن كانت هذه مناورة سياسية يديرها معسكر العلمانية التركية والكردية في أقصى الحدود فما بال زعماء أكراد العراق وهم يبدون قلقهم على ضياع مستقبل إدارتهم في كردستان العراق؟
فهل يقرؤون بين سطور السياسة أن المستهدف هو المادة 140 من الدستور، والتستر على الإضاعة القومية لكركوك؟ أم يعتقدون أنهم هم وإدارتهم المستهدفون لأنهم تيقنوا أن جيش تركيا سيزحف على كركوك كما زحف على شمال قبرص فجعل تاريخها وجغرافيتها تركية؟
ولو تقدم الجيش التركي - لا سمح الله - إلى عمق كردستان العراق أليس لكم مئة ألف بشمركة؟ مئة ألف نراهم بين الحين والحين ترسلونهم أفواجاً خفيفة وثقيلة إلى ساحات الوغى لحماية الأمن والتجربة، ولكن إلى ديالى وصلاح الدين، وقد تم تعيينهم جميعاً باسم حراس الحدود، فأي حدود يحمون؟ حدودكم مع تركيا وإيران التي تقصف يومياً، أم أنابيب البترول في بيجي لصالح إسرائيل والاحتلال؟
هذه أيضاً مناورة أخرى في جبهة علمانية ثالثة تخفي تجاعيد أخرى في وجه قومية علمانية لم تنتج منذ مئة عام إلا تفككاً وتناحراً بين شعوب المنطقة، لقد آن أوان تقاعدها ولكن.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد