بسم الله الرحمن الرحيم
هناك ثلة من المفكرين يسعون إلى أسلمة العلمانية، وذلك من أجل الحصول على مشروعية لاستيرادها أو جواز عبور لمرورها، وبطاقة إقامة لها في العقل المسلم، ولذلك تحاول تعريفاتهم وتنظيراتهم أن تردم الهوة، أو على الأقل تقوم بتمويهها بين الإسلام والعلمانية.
فالعلمانية عند نصر حامد أبو زيد ليست مروقاً أو كفراً أو إلحاداً وإنما هي : التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، وليست ما يروج له المبطلون من أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة. باختصار إن العلمانية عند نصر حامد هي التأويل. وسوف نجد أن التأويل يحتل المساحة الرئيسة في الفكر العلماني.
وإذا كان نصر حامد يبرئ العلمانية من الإلحاد ويعتبرها الفهم الحقيقي للدين فإن محمود أمين العالم يذهب إلى أكثر من ذلك عندما يأمل أن تكون العلمانية منطلقاً صالحاً للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم ومستجدات الواقع. ذلك لأن العلمانية عنده هي: رؤية وسلوك منهج. وهذه الرؤية تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان، وتعبر عن طموحه " الثنائي " الروحي والمادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته وازدهاره.
ولكن إذا كان كل المنظرين للعلمانية إسلاميين وعلمانيين يتفقون مع أمين العالم على أن العلمانية تعبر عن الطموح المادي للإنسان وتتطرف في هذا إلى حد التأليه للمادة، فإنه لا أحد يتفق معه على أن العلمانية تعبر عن الطموح الروحي للإنسان، فالعلمانية لا تعترف بالروح أصلاً، وإذا اعترفت بها فإنها تحولها إلى مادة وتتعامل معها على هذا الأساس، إن العلمانية تُهدِر الجانب الروحي في الإنسان، وتُهدر المقاصد الروحية له، وتُلغي كل ما تطمح الروح إليه من خلود وعبودية وسعادة دائمة.
أما د. حسن حنفي فالعلمانية عنده مصطلح وافد، وبما أنه كذلك فإن الرفض هو ما سيواجَه به، فلماذا لا ندع إلى الإسلام الحقيقي، والإسلام الحقيقي هو إسلام علماني في جوهره لا حاجة له إلى علمانية زائدة عليه مستمدة من الخارج .
نلاحظ أن حسن حنفي لا يرفض مضمون العلمانية، وإنما يرفض المصطلح لأنه بضاعة المستعمر، ولكن المضمون أيضاً بضاعة المستعمر، ولا يكفي أن نلبسه لباساً إسلامياً، أو نعطيه صبغة ذاتية. إن الثقافة الغازية يراد لها أن تتمكن في ذواتنا ولكن من أجل التخلص من عقدة النقص نضفي عليها غطاءً إسلامياً، وتبريراً فكرانياً، ونطلق على الإسلام بأنه دين علماني في جوهره.
إنها نفس النتيجة التي يصل إليها د. عابد الجابري فالمصطلح مثقل بالأفكار والمعاني الغربية الوافدة، والتي تدفع إلى ردة فعل لدى الإسلاميين تجعلهم يسارعون إلى رفضه، والمصطلح البديل لديه هو: الديمقراطية والعقلانية فالديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد والجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة والسياسة عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج ثم يضيف الجابري: بأنه لا الديمقراطية ولا العقلانية تعنيان بصورة من الصور استبعاد الإسلام . فهو أيضاً لا يرفض مضمون العلمانية وإنما يرفض الشعار لأنه شعار مزيف ملتبس يجب استبعاده من قاموس الفكر العربي . والعقلانية الجابرية باعترافه هي على النقيض من سيرة السلف الصالح لأن عقلانيتهم تقوم على مبدأ أن الدنيا قنطرة الآخرة وهو منطق قد أدى وظيفته يوم كان العصر عصر إيمان فقط، وليس عصر علم وتقنية وأيديولوجيا وهو ما يعني إذن أن الإيمان يتناقض مع العلم والتقنية .
ولكن يقال هنا بأن الديمقراطية والعقلانية " المطلقة " كلاهما مصطلحان وافدان والخلاف بشأنهما بين الإسلاميين والعلمانيين لا يقل عن الخلاف بشأن العلمانية. ولذلك لم يحاول حسين أمين أن يرفض المصطلح بل إن المصطلح ومضمونه لا يناقضان الإسلام، لأن العلمانية تولي الحياة الدنيا اهتماماً أكثر مما تفعل المسيحية ولذلك وقعت في صدام معها، أما الإسلام فإنه يهتم بالحياة الدنيا ويعطي لكل من الدارين نصيبهـا { يَاأَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ} و{ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِن الدٌّنيا} {قل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ, يَعلَمُونَ } .
ولكن نسي أنه ينقض رؤيته هذه عندما يعرف العلمانية بأنها: محاولة للاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية ، ذلك لأن الإسلام يرفض أن يستقل العقل عن الوحي في أهم الأسئلة التي تواجه الإنسان، إنها الأسئلة المصيرية الكبرى التي تتعلق بالغيب.
وعلى كل حال يسعى أغلب العلمانيين العرب لكي يؤسلموا العلمانية، ويجعلوها متحالفة مع الدين، أو أن الدين علماني في جوهره الكلام على العلمانية لا يعني ألبتة نفي الدين بما هو إرث وتاريخ وتجربة أي بما هو حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها وتجاوزها ولكن لا يخلو هذا التنظير في كثير من الأحيان عن التناقض فعلى سبيل المثال: يقول د. فتحي القاسمي إن العلمانية تصور وضعي لمختلف أنشطة الإنسان بعيداً عن التأويلات المفارقة ثم يقول مباشرة وليس في ذلك بالضرورة تحامل على الدين، ثم يقول في نفس الصفحة لقد جعلت العلمانية الدين في وضع جديد، يسوده الحرج، ولم تلغه، وإنما قيدت مجال نشاطه.
إن كلام القاسمي هذا يعبر عن سذاجة أو استيذاج للآخرين، لأن آخر الكلام ينقض أوله فعندما تكون العلمانية تصور وضعي، والدين قرار إلهي، والعلمانية تصور مادي، والدين فيه مساحة واسعة للغيب، أو ما يسميه " التأويلات المفارقة " فكيف لا تكون العلمانية في هذه الحالة متحاملة على الدين؟
وكذلك عندما يطرح الدين رؤيته الشاملة للوجود، ومنهجه الكامل للحياة، فتحد العلمانية من هذه الرؤية وترفض هذا المنهج، وتضع الدين في وضع حرج، وتقيد فاعليته، كيف لا تكون متحاملة على الدين في هذه الحالة؟ وكيف لا تكون - العلمانية - كذلك وهي بنظر القاسمي نفسه تَعتَبر المقولات الثابتة للدين متطرفة مهترئة لا يصدقها العقل .
وبالرغم من هذا التناقض الواضح يظل هؤلاء يصرون على أن الإسلام دين علماني كما طرح حسن حنفي والجابري ونصر حامد أبو زيد وحسين أحمد أمين وعبد المجيد الشرفي وفتحي القاسمي ومحمد أركون وطيب تيزيني وطارق حجي ولكن كيف يكون الإسلام ديناً علمانياً عند هؤلاء؟
أ - لأنه اهتم بالحياة الدنيا كما سبق ورأينا عند حسين أحمد أمين ، ولأنه لم يعرف في تاريخه كنيسة أو نظاماً كهنوتياً، ولم يحكر المعرفة والنظر على أحد . ولأن النبي ? كان ملِكاً وعاش ملكاً، ومات ملكاً، وحبب إليه من الدنيا ثلاث النساء والطيب والصلاة وانخرط في الواقع الدنيوي المعيش. وقال للناس: " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " .
ب - ولأنه قاصر على الأخلاق والقيم، وليس فيه نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي عند طـارق حجي ، أو بتعبير طيب تيـزيني ومحمد سعيد العشماوي لأنه دين الهداية والرحمة، وليس دين العلم والتشريع ، أو بتعبـير آخر للتيزيني لأن القـرآن يقـول كل شيء ولا يقول شيئاً لأنه كتاب مودة وأخلاق . أو لأن القرآن على حد تعبير محمد أركون مجازات عالية ومن الوهم اعتقاد الناس بتحويل هذه التعابير المجازية إلى قانون فعال، أو شريعة واقعية .
ج - ولأنه تخلص من أقوى أعراض المقدس: الأسرار والمعجزات، وأعلى من قيمة العقل حتى تُكُلِّم عن معقولية الشريعة وهذا يعني أن بوادر العلمنة تكمن في داخله .
د - ولأن الإنسان هو محور الكون في القرآن، فقد ذُكر في خمس وستين آية، والدنيا ذُكرت في مائة وخمسٍ, وعشرين مرة، وهي ليست إفلاساً كما يصورها المغالون وإنما هي مليئة بالطيبات والخيرات، والقطوف الدانية. .
هـ - " ولأن أسس التشريع في الإسلام انطلاقاً من مصادره الكبرى تتوفر على قسط كبير من الأريحية والقابلية للتشكل والتلون بما يسعد الإنسان في الأرض حتى وإن بلغ ذلك حد تعطيل المفروض من الأحكام، وتجميد نصوص شرعية . إن هذا النص لا يختلف عما قرره أركون وطيب تيزيني آنفاً وهو مـا يعني أيضا أن القرآن كل شئ فيه متحرك ومتموج ومفتوح ومليء بالاحتمالات .
و - ولأن الرسـول ? " لو قُدّر له أن يعيش بين ظهرانينا حيناً من الدهر، وفي وسطنا المُعلمَن لعدل كثيراً من المواقف ولنسخ العديد من أقواله، لأنه كان مؤمناً بجدلية العلاقة بين المفاهيم الدينية التشريعية، والواقع البشري النسبي والمتطور على الدوام، ولكننا ما نزال نرتطم بالرافضين لذلك . ولا يزال النص يسيطر على حساب الفكر .
ز - " وما قام به علماء المسلمين عبر العصور من اجتهادات جريئة وطريفة يدل على أنه يمكن في الإسلام علمنة المقدس بما يلائم وضع المسلمين، ولا يتناقض ذلك مع مقاصد الشرع، وما دام في إطار المصلحة " . فالاجتهاد في الإسلام ممارسة عقلانية ذات طابع علماني تنويري يجعل الشريعة والأحكام ناسوتية لأن العقل هو الذي يؤسسها ويصبح أولى من النص، مما يجعل الحقائق متعددة كما نرى في كثرة الاختلافات والمذاهب .
ونتساءل هنا: كيف لا تتناقض علمنة المقدس مع مقاصد الشرع؟
إن الإجـابة عند فتحي القاسمي نفسه لقد سبقنا الفقهاء والأصوليون إلى تطويع جريء للشريعة، ولكننا منذ عصر النهضة إلى الآن لم نجترئ على إحداث سنة ثقافية إسلامية جديدة داخل المنظومة الإسلامية قادرة على فرقعة كثير من الثوابت التي أضفيت عليها قداسة لم تزدها عصور الانحطاط والتخلف إلا ترسخاً، فهل ذلك يكون بواسطة العلمانية؟ . وخصوصـاً إذا كـانت العلمانية هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهـره، والدينية طـارئة من صنـع التاريخ، وتظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور .
ونعيد السؤال الذي أجاب عنه فتحي القاسمي ولكن بطريقة تكشف موطن التناقض والمغالطة فنقول: هل يمكن في الإسلام فرقعة كثيرٍ, من الثوابت دون أن يتناقض ذلك مع مقاصد الشريعة؟ ذلك ممكن في العلمانية فعلاً كما يأمل فتحي القاسمي، لأنه في العلمانية كل شيء يجوز!! كل شئ يجوز أقترحه تعريفاً للعلمانية، وليس فيه من جديد إلا طريقة التعبير، لأنه مضمن لدى من يزاوج بين العلمانية والنسبية كمراد وهبة على سبيل المثال.
ح - ولأن التاريخ الإسلامي يفيض بالعلمنة ففيه الشعر الماجن والدنيوي، والتراث يفيض بالدنيوية وتصوير الحيـاة الاجتماعية، وخصوصاً حياة القصور على أنها مملوءة بالملذات والشهوات، والإقبـال على الدنيا ، والخـمر كان شائعـاً ومنتشراً في مجمل العالم الإسلامي ، وانتشار ظاهرة الزندقة في أوساط المسلمين واستفحالها حتى وُصِم بذلك بعض الخلفاء مثل الوليد بن يزيد [88 هـ 126 هـ] والمهدي [158هـ، 169 هـ] وإعلان الزنادقة لآرائهم بكل شجاعة وصراحة دون خوف. .
إن كـل هـذا يؤكد بنظر الخطاب العلماني على أن الإسلام أجاز لأبنائه في التنظير والممارسة بعض أشكال العلمانية ، ويؤكـد أن العلمنة في المجتمع الإسلامي القديم ليست بدعاً، أو رجماً بالغيب، وإنما واقع عايشه المسلمون واستأنسوا به أكثر من استئناسهـم بالشريعة !.
5 - تعقيب:
المقولات العلمانية السابقة والتي من خلالها يتوصل العلمانيون إلى القول بأن الإسلام دين علماني، ويقبل العلمنة تتركز حول المحاور التالية:
أولاً: أن الإسلام اهتم بالحياة الدنيا.
ثانياً: جعل الإنسان مركزياً في هذا الكون.
ثالثاً: تخلص من المقدس.
رابعاً: تخلص من المعجزات.
خامساً: الاستدلال بالتاريخ.
سنُعرض عن الرد على المحور الخامس لأنه قائم على البحث في القمامة، ولا يجدي شيئاً، ويكفي أن نقول: لو أن الأمة بأكملها أعرضت عن الإسلام واختارت العلمانية، وانغمست في الدنيوية فإن هذا لا يعني أن الإسلام دين علماني، لأن الحكم على الإسلام لا يأتي من خلال قبول الناس له أو عدم قبولهم، وإنما يأتي من خلال مبادئه ومثله ورؤيته التي يطرحها في مصادره.
ونناقش المحاور الأربعة الأولى بعون الله - عز وجل - فنقول:
أولاً: لقد أولى الإسلام بالفعل عناية بالحياة الدنيا ولكن بقدر، ويبدو أن الإسلام يبالغ في الاهتمام بالحياة الدنيا إذا ما قُورن بالمسيحية المزوّرة التي دعت إلى الرهبنة، وتطرفت في قمع الفطرة الإنسانية المحتاجة إلى البلاغ في طريق الآخرة.
ولكن المغالطة العلمانية تقوم على الإغفال والإبراز:
فيستدل العلماني بأن الدنيا ذُكرت في القرآن 115 مرة وهذا يعني أن الدنيوية " العلمانية " لها أصولها القرآنية وهذا هو الإبراز، أما الإغفال فيقوم على طمس وتجاهل أن الدنيا عندما ذُكرت في القرآن غالباً تذكر بالذم والامتهان والتحذير من بهرجها وزخرفها، وأن المستدل بالآيات يغالط دون أن يخجل بل إنه عندما يقول: إن الدنيا ليست في القرآن مصدر إفلاس كما يصورها المغالون، يعلم أنه يتجافى عن الحقيقة وهي إلى جواره، لأنه لو تأمل في الآيات التي قام بإحصائها لوجد أن القرآن هو الذي يحكم على الحياة الدنيا بأنها {مَتَاعُ الغُرُورِ} و {هَشِيمًا تَذرُوهُ الرِّيَاحُ} وليس المغالون.
إن الأصل في دعوة القرآن هي الآخرة {وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدٌّنيَا إِلَّا لَهوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ} والدنيا بُلغة إلى الآخرة، ووسيلة لا بد من الأخذ بها، ولا بد من الإعمار والقيام بالأمانة، ولكن الآخرة في النهـاية هي الغاية وهي الجوهر. {وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِن الدٌّنيَا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ وَلَا تَبغِ الفَسَادَ فِي الأَرضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ} ولكن الآخرة هي المراد والمقصد { وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} إن الأصل في دعوة القرآن الابتعاد عن الانخراط الأعمى في الدنيوية من شهوات وملذات، والاكتفاء بـ َالطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ، والحلال الذي فصله الله - عز وجل - في كتابه.
ثانياً: وأما أن الإسلام دين علماني لأنه جعل الإنسان محور الكون، فالمقدمة صحيحة، والنتيجة كاذبة، فالإنسان فعلاً هو محور الكون في القرآن الكريم فهو " الخليفة { إني جاعل في الأرض خليفة} وهو حامل الأمانة {إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
ولكن ههنا مغالطة أخرى أيضاً تقوم على الإغفال والإبراز:
الإبراز هو الإشادة بالموقف الإيجابي للقرآن من الإنسان، والإغفال هو تجاهل موقف القرآن من الإنسان المنحط والمغرور. الإنسان المحور في القرآن الكريم هو الإنسان الذي حُبِي بالعقل والعلم {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا} وشُرّف بالتكليف {وَمَا خَلَقتُ الجنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ} وكرم بالرسالة {قَد جَاءَكُم رُسُلٌ} وأُجيب على كل أسئلته حتى لا يتخبط في الظلام، واُمر بالعبادة لتشبع روحه، ودُعي إلى التفكر والنظر ليشبع عقله، ورُخّص له التمتع بالطيبات ليشبع جسده، وحُذّر من الإسراف والانحراف حتى لا تنزو نفسه، وتجمح غريزته، ويعسر عليه حينئذ حفظ الأمانة التي رضي بحملها.
الإنسان في القرآن يمكن أن يسمو حتى يقترب من الملأ الأعلى، ويصبح أسمى من الكون، وأشرف من كل ما فيه، ويصدق عليه عندئذ قول الحق - عز وجل -: { وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ} و {لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ,} ولكنه يمكن أيضاً أن ينحط ويهوي في مدارك الشقاء حتى يصبح في {أسفل سافلين} ويقول: {يَالَيتَنِي كُنتُ تُرَابًا} ويصبح أسوأ من البهائم { أُولئكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلٌّ }هذا ما يغفله الخطاب العلماني ليكرس مركزية الإنسان في الكون، وسيادته المطلقة فيه كما أرادت العلمانية الغربية في مرحلة من مراحلها.
إن الإنسان في القرآن الكريم ليس مخلوقاً ساقطاً خاطئاً منذ البداية كما هو في الرؤية المسيحية ، وليس هو ذلك الإنسان المتمرد الجبار العنصري النازي الذي أرادته فلسفة التنوير كما طرحها ماكيافللي ونيتشه وداروين ومارسها هتلر وستالين وموسوليني. إنه في القرآن الإنسان المتوازن الذي استُخلف في الكون، ووُكِلت إليه عمارته، وأُمر بالعبادة والتقوى والعمل الصالح.
ثالثاً: وأما القول بأن الإسلام تخلص من المقدس فهو أمر في غاية العجب! كيف ذلك؟ وأين الأدلـة؟ والمقدسات في الإسـلام كثيرة فالكتاب الكريم مقدس، والبيت الحرام مقدس، والنبي ? مقدس، والمسجد مقدس، والعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج مقدسة، والجهاد مقدس، وهكذا فالمقدس يحتل مساحة واسعة في الرؤية الإسلامية لا يمكن اختراقها، والمسلم مأمور بالدفاع عن مقدساته حتى أن روحه لا تساوي شيئاً في سبيلها {إِنَّ اللَّهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرءَانِ وَمَن أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ }
إلا إذا كان المقصود هو التخلص من المقدسات الخرافية التي كانت سائدة عند الفراعنة، واليونان، كتقديس الكواكب والنجوم، وظواهر الطبيعة، واتخاذ آلهة للقمر، وآلهة للشمس، وآلهة للمطر وغير ذلك فإن الإسلام بالفعل جرّد الطبيعة من هذه القداسة الخرافية والوهمية.
ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الإسلام في الوقت الذي سلَب فيه من الطبيعة قداستها الزائفة، إلا أنه لم يجرد الطبيعة من مغزاها الروحي والرمزي، لأنه رأى في الخليقة كلها المتمثلة في السماوات والأرض وما بينهما والشمس والقمر والكواكب واختلاف الليل والنهار، والرياح اللواقح، والغيث النازل، والسحاب المسخر، والبحار المالحة، والأنهار العذبة، والجبال الأوتاد، رأى في كل ذلك آيات بينات لله - عز وجل - في الكون، وبصائر للإنسان .
إن الطبيعة في القرآن ذات مغزى كوني تستوجب احترام الإنسان لها وتقديرها، لأجل صلتها الرمزية بالله جل شأنه، وتعامُله معها يجب أن يقوم على أساس العدل والتناغم والانسجام لأنه خليفة مؤتَمَن عليها، وضعها الله - عز وجل - تحت مسئوليته ليستفيد منها، وهي إلى جانب ذلك كتاب مفتوح منظور، إلى جانب القرآن الكريم الكتاب المقروء وفي كل منهما آيات بينات، ودلالات مشاهدات، ودروس واضحات يأخذ منها الإنسان الموعظة والعبرة .
إن هذا التجريد الإسلامي تجريد إيجابي ينفي الخرافة، ويستبقي الدلالة، بعكس التجريد العلماني فإنه يقوم على سلب المغزى الكوني والدلالي من الطبيعة، وقطع العلاقة الرمزية بينها وبين الخالق - عز وجل - ، وبالتالي تصبح الطبيعة - في الرؤية العلمانية - بلا غاية، وبلا هدف، وكذلك بلا حماية أو رعاية، فينتج عن ذلك عدم احترام الإنسان لها، وخيانته للأمانة التي أوتمن عليها، وتصبح علاقة الإنسان مع الطبيعة قائمة على الانتقام أو اللامبالاة، وهو ما يؤدي أو سيؤدي إلى كوارث كونية تنتظرها البشرية برعب لم يسبق له مثيل، كالتلوث البيئي والنفايات النووية والأوزون وأخطار أسلحة الدمار الشامل.
وحتى فيما سمي بلاهوت الأرض أو لاهوت الطبيعة فإن علاقة الإنسان مع الطبيعة علاقة صراع وقهر وسيطرة، وليست كما هي في الإسلام علاقة تسخير وحب وتقدير. إن الإسلام يحول بين الإنسان والطغيان الذي يساوره بسبب غرور العلم أو غرور القوة ويذكره دائماً { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرٌّجعى } .
رابعاً: والقول بأن الإسلام تخلص من المعجزات لا يقل عجباً عن سابقه، فإنا إذا غضضنا الطرف عن المعجزات الحسية التي رويت بالتواتر المعنوي لسيدنا رسول الله? مثل الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه ?، وحنين الجذع، فإن القرآن الكريم نفسه يفيض بالحديث عن المعجزات كانفلاق البحر، وانقلاب العصا، وانبجاس الماء من الحجر لسيدنا موسى - عليه السلام -، وشفاء المرضى، وإحياء الموتى، والكلام في المهد لسيدنا عيسى - عليه السلام -.
إن إنكار كل هذه المعجزات أو التعسف في تأويلها ليس إلا لوناً من أو ألوان الصلف والمكابرة والجحود.
والآن بعد أن كشفنا المغالطات التي يبني عليها الخطاب العلماني رؤاه وتصوراته ونتائجه يمكننا أن نقول: إن العلمنة ليست فقط رؤية غير إسلامية للوجود، بل إنها تقف موقفاً مناهضاً للإسلام نفسه، ولذلك فالإسلام يرفض العلمنة ومآلاتها النهائية ما ظهر منها وما بطن ، يرفضها نظراً وعملاً لأنها الدنيوية المحضة، والدهرية الخالصة، والمادية المطلقة، وهي مقولات جاء الإسلام لمحاربتها، وإنقاذ الإنسان من ظلماتها وأزماتها.
ونختم بالقول: إن الأسلمة وليست العلمنة هي التي تحرر الإنسان من الأساطير والخرافات، والأرواح الشريرة، والشعوذة التي يُظَن أنها تتحكم في مصير الكون ، وتحرره كذلك من الأنانية والنفعية والمادية، وتقيم توازناً بين الجوانب المختلفة في كيانه وعندما يتحرر الإنسان على هذا النحو فإن وجهة حياته وسيرها يكونان نحو تحقيق طبيعته الأصلية، تلك الطبيعة المتوائمة مع طبيعة الكائنات، ومع الوجود كله ألا وهي الفطرة، وهو كذلك يتحرر من العبودية لدوافعه الحيوانية النزاعة إلى ما هو دنيوي، وإلى ما من شأنه أن يكون ظلماً وتعدياً على جوهر كيانه وعلى روحه، ذلك أن الإنسان بما هو كائن مادي يغلب عليه نسيان طبيعته الحقة، فيجهل هدفه الحقيقي الذي من أجله خُلق، وبالتالي يزيغ عنه .
هذا التحرير للإنسانية قد تحقق بالوحي، وهو يتجلى في أكمل صوره في الرسالة الخاتمة التي ضَمِنت للإنسانية التحرر والتقدم والرقي. كل ما علينا أن نتمثل هذه الرسالة ونتفاعل معها بكل ثقة وطمأنينة ونقبل عليها طائعين مختارين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد