بسم الله الرحمن الرحيم
"على أهل الحق أن يكون الحق راسخاً في قلوبـهم عقائد، وجارياً على ألسنتهم كلمات، وظاهراً على جوارحهم أعمالاً، يؤيدون الحق حيثما كان وممن كان، ويخذلون الباطل حيثما كان وممن كانº يقولون كلمة الحق على القريب والبعيد، على الموافق والمخالف، ويحكمون بالحق كذلك على الجميع، ويبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نشره بين الناس وهدايتهم إليه بدعوة الحق، وحكمة الحق، وأسبابه ووسائله، على ذلك يعيشون، وعليه يموتون... " اهـ
[الإمام عبد الحميد بن باديس - رحمه الله -].
من السنن الربانية في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغيرº الصراع بين الحق والباطل، والتدافع بين الناس، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، وليميز الله الخبيث من الطيب، وليُعلم الصادق في إيمانه من الكاذب. وقد مضت سنة الله في ذلك في الغابرين، وها هي تشق طريقها في الحاضرين لتنفذ بعد ذلك إلى اللاحقين.
ومن أجل تحقيق ذلك ليعاينه الناس معاينة، وليعيشوه معايشة ليقفوا على أبعاده، ولتتجلى لهم حكم الله في خلقه وشؤون عباده من انكشاف طبائع النفوس ومعادن الرجال وإدالة بعضهم على بعض، كان لابد أن يمثل الحق فريق وهم أهل الخير والإصلاح من أنبياء ومرسلين، وعلماء ودعاة يذودون عن الدين بمهجهم وأرواحهم ليبلغوه للناس غضاً طرياً كما أنزل، يبعدون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل المرجفين، ويقابلهم على الضفة الأخرى فريق الشر من الأكابر والمجرمين والملأ المحيط بـهم الذين يمكرون بالليل والنهار ويعملون بطرف خفي وآخر جلي بكل ما أتوا من وسائل ودسائس ومكر وخداع لكي لا يظهر الحق وأهله، بل ليعلو الفساد والشرذمة المتنفخة أوداجهم من فتاته.
وفي ظل هذا الصراع المحموم يتنافس الفريقان لكسب ود الأمم والشعوب التي تمثل الميدان الذي تتحقق فيه حكم الله البالغات، فيحاول كل فريق أن يجذب إلى صفه أنصاراً وأعواناً ليتقوى بـهم على خصمه ولينقذهم من الضلال والهلاك وفق ما يحمله من مبادئ وتصورات، ويدخل في تلك القطاعات الكبيرة عناصر مؤثرة وفاعلة مثل الكتاب والمثقفين وأصحاب المال والأعمال علاوة على السواد الأعظم من الناس الذين تنحاز منهم فئات لهذا الفريق أو ذاك، وأخرى غير مكترثة بـهذا الصراع ولا هي ملتفة إليه.
وقد تجلى شيء من هذا الأمر أيما جلاء وتكشفت بعض حجبه وأسراره في أحداث الجزائر والمحنة التي ألمت بـها في سنواتـها الأخيرة، وكان ممن آتاه الله بعض أثارة من علم مدرك لهذا الأمر ومذكر به في وقت كان البعض الآخر يظن أن ما يطمح إليه من غايات وأهداف هو قاب قوسين أو أدنى. وقد كان الشيخ علي بن حاج - فك الله أسره وأسر جميع إخوانه - من أصحاب الفئة الأولى، فقد قال في آخر خطبة خطبها في مسجد ابن باديس في القبة بالجزائر العاصمة قبل اعتقاله بيومين عام 1991 بعد أن تلا قول الحق - جل وعلا -: ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين))، قال فيما معناه: هذه الثلاثة أيها الإخوة هي التي يريدون تنفيذها علينا. وقد كان الذي ذكر سجناً وقتلاً وتعذيباً وتشريداً وغير ذلك مما هو معلوم لدى الخاص والعام، وهذا ليس رجماً بالغيب وإنما هو استنباط من قانون عام وتاريخ طويل يحكم أمر الدعوات وهي تشق طريقها من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل ليكون الدين لله وليتفيأ الناس من ظلال عدله الوارفة.
فلم يكن مستغرباً ولا مستبعداً عند الشيخ أن يلحقه شيء من الأذى في سبيل المبدأ الذي يدافع عنه، كلا لم يكن مستغرباً عنده ذلكº ما هو مستغرب ومحل حيرة واستهجان هو سكوت قطاعات كبيرة ممن يلبسون لباس الإسلام والدعوة إليه أو ممن تدثروا برداء المعارضة التي يفترض أن تقف لتصرفات السلطة التعسفية بالمرصادžž، والذين يرفعون في الوقت نفسه شعار الدعوة إلى تحقيق السلم في الجزائر وإنجاز حل يخفف من حدة الأزمة ووطأتـها، عما يتعرض له من ضيق وعنت وتغييب في بعض الأوقات إلى الحد الذي أشيع فيه أنه قد قضى نحبه، أو إلى الحد الذي تتناقل فيه وسائل الإعلام طلب الشيخ من أسرته الذهاب إلى امرأة - وهي رئيسة حزب العمال (لويزة حنون) وعضوة البرلمان - وذلك لما لها من مواقف سابقة وقفت فيها إلى جنب المظلومين من أمثال الشيخ رغم ما بينها وبينهم من فروقات أيديولوجية في الطروحات والرؤى، لتذكر المسؤولين بما يتعرض له من مضايقات ومن حرمان أهله وذويه من زيارته. حزنت وتألمت والله لما وقعت عيناي على هذا الخبر وقلت: أين هم أولئك الذين يدّعون الدفاع عن الشعب ومكتسباته؟ وأين نحن من قضية الشيخ يوم نقف بين يدي الديان ونحن في حال أيسر وأخف بكثير مما عليه الشيخ وإخوانه؟ لِمَ لم يُسلط الضوء الكافي على ما يتعرض له وجعل ذلك على سلم أولويات من يريدون إخماد نار المصاب الذي تمر به الجزائر؟ أم أن قضيته من الخطوط الحمراء التي يجب أن تتدحرج إلى النقطة التاسعة أو العاشرة في سلم نقاط من يرفعون شعار السلم لأن هذا الأمر يزعج السلطة الفعلية ويعكر صفو ود الخطوات التي قطعت معها.
كيف لا يستغرب الشيخ وأمثاله بعد هذا سكوت تلك الفئات عن محنته وهم الذين يحفظون حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم أخ المسلم لا يخذله ولا يسلمه"، وحديثه القائل: "المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم"، وحديثه الآخر: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، وغير ذلك من الأحاديث والآثار. نعم قد يختلف المسلم مع أخيه وقد لا يتفق معه في كثير من الرؤى، أما أن يسلمه أو يخذله أولا يدافع عن الظلم الذي يتعرض له فهذا هو محل الاستغراب ومكمن الاستهجان وإلى الله المشتكى.
فلقد مر الشيخ ولا يزال بظروف صعبة مثل الأمراض التي لا تبارحه، والضيق الجسدي والنفسي والعزلة التامة التي يتعرض لها من قبل جلادي الزمرة المتنفذة في شؤون الحكم، فها هو يصف بعضاً من ذلك الحال في إحدى الرسائل التي بعث بـها إلى بوتفليقة: "فالعزلة الخانقة أشرفت على عامها السادس، والتضييق علي فيها متواصل. فأنا في سجن داخل سجن داخل سجن، مما أثر في صحتي الجسمية والنفسية، بل أعتبر ما عانيته طوال هذه المدة تعذيباً رهيباً، حتى أن المحكوم عليهم بالإعدام يتمتعون بحقوقهم أفضل مني. إذ لا تسلم لي الأوراق والأقلام - مثلاً - إلا بعد فوضى وإلحاح، وأحياناً الدخول في إضراب عن الطعام قد يستمر لأسبوعين أو ثلاثة، فحالي يرثى لها ولا أحسد عليها كما ذكرت وشهدت، ورسائل الاحتجاج عند النائب العام إن أردت معرفة مسيرة التجاوزات في حقي. لكني أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه" اهـ.
أفلا يستحق منا الشيخ أن تعقد الندوات المستمرة للتذكير بحاله، ومتابعة المنظمات الإنسانية للاستفسار عما فعل بمصيره وقضيته عندما يتوجهون إلى الجزائر أو عند كتابتهم التقارير عن الأوضاع الأمنية وحقوق الإنسان في الجزائر، ثم أفلا يستحق الشيخ إنشاء موقع على الشبكة الدولية يعرف المسلمين والمهتمين بشؤون الجزائر والدعوة والدعاة فيها ببعض ما يتعرض له لكي لا تنسى قضيته، ولكي نبرئ ذمتنا من الواجب الذي أوجبه الله علينا. هذا شيء بسيط من الأمور التي يمكن أن نقوم بـها حيال شخص نذر نفسه لخدمة المشروع الإسلامي في أرض الجزائر، وفوق ذلك لابد أن تبتهل الألسن وترتفع الأيادي للتضرع لقيوم السموات والأرض ليخفف عن الشيخ ويثبته وأهله ويفك أسره وأسر جميع إخوانه.
إن محنة الشيخ علي وما يتعرض له ما هي إلا نموذج ومثال لما تعانيه قطاعات كبيرة من الفئات التي انضوت تحت لواء الصحوة والتي لم تدرك طبيعة المعركة ولا حقيقة الصراع وطول المسيرة، فلذلك تراها تلتف - وقت الرخاء - حول أصحاب المواقف الواضحة والصريحة التي لا مداهنة فيها ولا ركون، وما إن يتعرض أصحاب تلك المواقف إلى شيء من الأذى إلا وتجد تلك الجموع التي كانت تتداول الأشرطة أو المنشورات وتزيل الكتب والبيانات وتتطاير بـها، وعلى رأسهم بعض من كان يحتل مواقع قيادية قبل وقوع المحنة أو وقت اشتدادها، قد ولت ونسيت بعض ما أوجبه الله عليها من واجب النخوة والرجولة في أقل الأحوال من الوقوف إلى صف المظلوم والدفاع عما يحل به، لكي تقوم بأدنى الواجبات حيال من كفاها أكبر المهمات ودفع عنها أكبر التبعات من لحوق الفتنة بـها وبغيرها إذا هي تخلت عن أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما كشفت المحنة عن فئات من أهل التحزبات والتنظيمات الذين يريدون الغنم ويدفعون بغيرهم إلى الغرم ليتحمله القطاع الكبير من الشباب من أهل المنهج الصفي النقي الذين يندفعون لساحات الوغى ليس بدافع التنظيم أو الشيخ أو الحزب لتحقيق عرض قريب، بل بدافع الحمية لهذا الدين والذود عنه بكل ما يملكون من غال ورخيص للفوز بمرضاة الله وإعلاء كلمته والتمكين لدينه وأوليائه. نعم إن المحن والرزايا فيها من الحكم الشيء الكثير الذي لابد أن يكون عوناً لأهل الخير الثابتين لكي ينهلوا من معينها الزلال، لينطلقوا بعد الكبوة إلى وثبة تتدارك فيها الأخطاء ويستفاد فيها من الهنات.
وختاماً أقول: صبراً يا أبا عبد الفتاح فالله الموعد ولن يترك أو يتر المخلصين من أمثالك من عملهم شيئاً إن شاء الله، وهآنذا أسوق بعض ما خطت يمين أحد رواد الإصلاح في الجزائر وأديبها النحرير الشيخ البشير الإبراهيمي - رحمه الله - عقب اعتقال الأستاذ العقبي عام 1936 من قبل السلطات الغاشمة آنئذ، لنتذكر جميعاً أن التاريخ يعيد نفسه وأن الأيام بعضها من بعض، وأن الليل لابد له من فجر يعقبه مهما طال ذلك الليل واشتد سواده:
"لسنا نجهل هذا [أن لا تكون قوة الباطل إلا مزيداً في قوة الحق] من سنن الله فلم نشك لحظة منذ وضعنا قدمنا في طريق الإصلاح الديني ورفعنا الصوت بالدعوة إليه في أن الله سيديل للحق من الباطل، وأنه يبتلي أولياءه بالأذى والمحنة ليمحصهم ويكمل إعدادهم للعظائم. ولم نزل على يقين تتجدد شواهده أنَّ في المصائب التي تصيبنا في سبيل الإصلاح شحذاً لهممنا وإرهافاً لعزائمنا، وتثبيتاً لأقدامنا، وإلفاتاً للغافلين عنّا إلى موقعنا من الأمة وموقفنا من أعدائها، وقد ألفنا هذه المكائد التي تنصب لنا حتى ما نبالي بـها، وأصبح حظنا من "الكشف" أن نعلم من أوائلها أواخرها، ومن مقدماتـها نتائجها.. وإننا لنبتهج بالمصيبة تصيبنا في سبيل الإصلاح أضعاف ما يبتهج غيرنا بالطيبات والمسار، ونعد كبيرها - مهما أعضل وآذى - صغيراً هيناً، وخفيها - مهما أفظع وبغت - ظاهراً جلياً، ونأسى لإغبابـها عنا كما يأسى الممحل للجدب، ونرتقب إلمامها بساحتنا كما يرتقب غيرنا النعم والخيرات، لعلمنا أن المعاني التي تتركها في نفوسنا هي المعاني التي نصبو إليها، وأن تمرّسنا بـها باب من أبواب الرجولة وسبيل من سبلها".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد