بين عودة هولاكو ومسرحة التاريخ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في أوانها تأتي هذه المجموعة المسرحية التي أبدعها الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، فيما بين عام 1998م إلى عام 2001م، كعمل استشرافي انبثق من جوف التاريخ المستمر لأمتنا، بهدف"ترشيد"و"تفعيل"، شرايين الوعي، حتى لا يكرر الغد أخطاء"الأمس".. وسرعان ما تنامى الواقع الملبد.. ليتجسد الفعل المسرحي مصدقاً ظن الشيخ الكاتب... حيث امتدت مساحة السقوط التاريخي، لتنصبّ على الغد المتشابك ويؤدي الرمز كل دلالاته الحية، في دنيا الناس، ويأبى الظالمون إلا كفوراً.

تجمع المسرحيات الثلاث التي تنتظمها هذه المجموعة، مائدة السقوط وأزمة الهزيمة ومأساة التراجع.

أولاها:"عودة هولاكو".. عن سقوط الدولة العباسية... وانهيار دار الخلافة تحت سنابك الغزو المغولي الهمجي عام 656هـ.

وثانيتها:"القضية"عن استسلام أبي عبد الله الصغير ملك غرناطة آخر ملوك العرب في الأندلس سنة 789هـ الموافق 1491م.

وثالثتها:"الواقع""صورة طبق الأصل"عن مسرحة تاريخ القدس في الحروب الصليبية إبّان سقوطها عام 486هـ 1093م.

وتكمن مسرحة التاريخ في كمون روح الفقد والمراجعة، وبروز الوعي الإحيائي الذي يشكل الفائدة الفنية الدالة في القراءة المعاصرة للتتابع الإسقاطي، والمقصد الرمزي الذي يؤكده التوثيق والتحقيق في بسط جغرافيا الواقعية السياسية التي تعلمنا كل يوم أن التاريخ كثيراً ما يعيد نفسه، ومثلما قال العقاد:

من جانب القبر لسان بدا *** ينطق بالحق لا يستحي

 

هذا هو التاريخ لو أنني *** صورته يوماً على المسرح

 

نجد الدكتور محمد حسن عبد الله، في دراسة فنية، حول هذه المجموعة المسرحية يؤكد أن التوازن والتشابه بين ما كان، وما هو كائن الآن، هو الهدف الأساسي في هذا التكوين الفني، الذي يعمد إلى تحضير المسرح السياسي الذي يتجاوز التاريخ إلى الوعي بالحاضر، في عملية من"الشحن السياسي"بما يقيم جدلاً حياً بين زمن المسرحية... وزمن الكتابة... وزمن الفرجة المسرحية.

والكاتب الشيخ د.سلطان القاسمي... لا يعمد إلى الموقع التاريخي في هذه المجموعة بقدر ما يتسنم الموقف السياسي حيث يكون التاريخ"نصاً"والواقع"فصاً"يمكن أن يتحسسه الناس وأن يراه الناظرون رأي العين... فالجذر التاريخي الضارب في عمق الأيام... تمتد فروعه لتؤتي ثمارها الحلوة والمرة، بحسب الأرض التي يمتح منها... والتي اختارها الكاتب من المناطق الخرقاء التي لا تنبت زرعاً ولا تمسك ماء، حيث المحيط الموطأ للامتطاء من خلال القابلية للاستعمار، على حد تعبير الفيلسوف الجزائري مالك بن بني... فالانشقاق والاستهانة من القادة بقوة شعوبهم، ومن ثم مجافاتها وإهمال مصالحها، وهيمنة النفعية والاستغلال، وسيطرة روح الأنانية والابتزاز، وتغلغل الفساد والانحلال، واختلال التركيبة المجتمعية، وسيادة الوهن من حب الدنيا وكراهية الموت، مما أفرز حالة عامة من العمى السياسي، والبلادة الوطنية، وموت الانتماء وتآكل الفاعلية الشعبية التي ذبلت بفعل الواقع الراهن العبثي المضلل الذي ظللها وهي خاضعة مكرهة... فعاشت الأمة في حالة جزر متواصل، حتى انتهى بها حتماً إلى السقوط الكبير.

تجليات ورموز

وفي مسرحية"عودة هولاكو"تبرق أمامنا هذه الإسقاطات:

1 الخليفة ضعيف في مواجهة العدو، وهو معزول عن شعبه.

2 اختراق البطانة المحيطة به بالعملاء والمأجورين.

3 شق الصف الإسلامي كان أول أهداف الغزو المغولي.

4 المؤامرات السرية مع العدو الزاحف.

5 مؤسسة الحكم غارقة في الملذات والملاهي، والشعب تطحنه أحزانه وتغريه مشكلاته.

6 عجز السلطة عن اتخاذ القرار، لأن عالمها من الحكم قد انتهى عند حدود جلدها.

7 بروز الدور الخطير للعميل الأول... كحكومة ظل تعمل لحساب الأعداء تمت بمهارة واقتدار.

ومن مسرحية"القضية"تتجلى هذه الرموز.

1 تتابع العملاء فرداً بعد فرد، وجماعة إثر جماعة.

2 اصطراع ملوك الطوائف، اصطراع الديكة، في أنانية عمياء عن حرب الاستئصال المحيطة بهم جميعاً.

3 فسيفساء الممالك، أذهبت ريح الأمة في بأس بيني شديد.

4 معاناة البطل الموحّد"يوسف بن تاشفين"زعيم المرابطين.. وهكذا كل زعيم ترمي به الأقدار في حقول الأشواك.

5 الفتنة تعمل عملها الأسود، حتى الاصطراع على مواطئ الأقدام.

6 الاتفاقيات السرية للقادة المنهزمين، ما هي إلا عقود إذعان، لا يجب أن يعلمها الشعب!.

7 الثبات حتى آخر رجل... هو الطريق الوحيد للعودة.

8 ومن مسرحية"الواقع"تسطع هذه الدروس:

1 المعارك الكبرى لابد لها من قائد كبير.

2 قوافل الزمارين والطبالين تحول الهزائم والنكبات إلى ملاحم وانتصارات.

3 موقع القدس من الإسلام والمسلمين، أظهر مؤشر دال على حقيقة واقعهم... نصراً وهزيمة.

4 النجدة بعد فوات الأوان.. أكبر عنوان على المروءة الكاذبة.

5 ثورة الحجارة.. دليل البشارة.

6 بيت المقدس لا يسترد إلا بقوة السلاح والروح الإسلامية الصادقة.

7 راية الإسلام قبل راية العروبة.

8 الوحدة الإسلامية هي العاصمة من كل قاصمة.

بعيداً عن الاختناقات

وتتبقى أمامنا عشرات الدروس والعبر من هذا العمل المسرحي الذي حاكه الأمير الدكتور القاسمي بلغة عربية فصحى، ملتزماً فيه بالقيم والمبادئ التي يجب أن تتعبأ بها روح الأمة... حتى في زمن الهزائم الكبرى والانكسارات التاريخية..."ولقد مرت بالأمة الإسلامية فترات أشد قسوة مما نحن فيه، فلتكن هذه المسرحيات دافعاً لعدم اليأس وحافزاً نحو التوحيد والنضال"، على حد تعبير الكاتب د.سلطان القاسمي، كما يذكر لهذه المجموعة المسرحية أنها لم تسقط في وهدة المباشرة أو السطحية، شأن الكثير من الأعمال الأدبية التاريخية، التي يلح فيها الرمز على الكاتب، فتفر حقائق التاريخ من فتحات ثوبه الفني، مما يفقد العمل لذة التلقي ومتعة الاستقراء، وحلاوة التأويل والتحليل.

لكن الكاتب كان واعياً غاية الوعي بالوقوف بالتاريخ عند عتبة الأحداث وأفعال الناس، ثم استفرغ طاقاته الفنية وقدراته الإبداعية، في تعصير هذا التاريخ عبر حوار درامي يتسم بالحركة المنسجمة مع خيط كل مسرحية وما تبغي له من تحريك الشخوص، وتفعيل البناء المسرحي بكل أدواته، في تشكيل عمل له لغته، وتنسيق مشاهد لها وجهها الظاهر للجمهور الناظر، ولها خلفيتها للرؤية المحللة حيث نجح الكاتب الأمير، في انتشال نفسه من الاختناقات الخاصة بفعل الماء الزائد عن حاجته في"اللفظ"، والقيد الزائد على حاجته في"الحركة"والوضوح الزائد على حاجته في"الفكرة".

وثمة نجاح آخر يجب أن نؤكده، وهو نجاح د.القاسمي في الإثبات الفني أن الكاتب سيظل أبداً ضمير عصره... هذا على مستوى الكتابة، أما على مستوى التناول، فقد نجح في اختراق جدار المنظور، وتجاوز مسلمات الزمان والمكان، في دمج أحداث متزاحمة، وتجارب متباعدة، وصور ومواقف مختلفة في الأزمنة والأمكنة... حتى أخرجها في هذا العمل الفني وقد تكسرت فيها عقارب الساعات، وألغيت فيها المسافات... لتصل بمهارة وأمانة بالمشاهد والقارئ إلى المغزى المطلوب.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply