أحب إلي من نفسي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت مظاهرة كبيرة اختلط فيها الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والشاب والفتاة، وجمعت الناس من مختلف الميول والاتجاهات، وقد اجتمعت القلوب وتوحدت المشاعر على أمر واحد وهو نصرة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وتوحدت الأصوات بشكل تلقائي على قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فأصغت الآذان بلهفة وشوق لهذا الهتاف، وقرت العيون بهذا الجمع الذي لم تشاهده منذ عدة سنوات، وتجمع الجميع في أكبر الساحات، وبدأ مهرجان خطابي، كل طائفة تريد أن تشرف بشرف الذود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكرمها ربها لتحشر مع صالحي المؤمنين. قال - تعالى -:...فإن الله وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4) (التحريم).

ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "إنما وليي الله وصالحو المؤمنين". (رواه مسلم)

وأردنا أن نساهم معهم بحسن الاستماع وأمسك أحدهم بمكبر الصوت وهتف: وا محمداه، ثم قال: الحمد لله أننا آمنا برسول البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أُرسل إلينا جميعاً: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا (الأعراف: 158).

وأكد هذا المعنى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا (سبأ: 28).

فهو - صلى الله عليه وسلم - رسولنا ورسولهم، فعلمنا نحن به وسمعنا نداءه فآمنا: ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا (آل عمران: 193).

وعلموا هم به فكفروا واستهزؤوا به: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون 30 (يس).

وهذا هو ديدنهم مع كل دين ورسول فقد قالوا إننا قد استهزأنا بالمسيح قبل محمد ماذا في ذلك؟ وصدق ربي: ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون 30 (يس).

فقدماً إلى الأمام في نصرة الرسول الكريم، فإن الله معكم ومع الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنا كفيناك المستهزئين 95 (الحجر).

ثم هتف: وا محمداه.

وهتف الجمع الحاشد بهتافه فاهتزت الأرض وتمايلت الأشجار وكأنها تشاركهم هتافهم.

وصعدت للمنصة امرأة في الأربعين من عمرها ترتدي اللباس الإسلامي وطرحتها مكتوب عليها بخط واضح: "أحب إليَّ من نفسي"، ثم نظرت للجموع نظرة حب وقالت: "طاب ممشاكم وتغمدكم الله برحمته، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحق نصرتكم، إذ تشمل تعاليمه وسننه كل حياتنا، وله تأثير عظيم علينا، فمنذ الصباح ونحن نستيقظ بترديد كلماته: "أصبحنا وأصبح الملك لله"، ونتحرك بحركته، فنتوضأ كما كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، ونتجه إلى نفس القبلة التي كان يتوجه إليها، ثم نصلي كما كان يصلي، وكأنه هو من يصلي، ونختم صلاتنا كما كان يفعل - صلى الله عليه وسلم -، وفي أكلنا وشربنا، نتبع هديه - صلى الله عليه وسلم -، وعند خروجنا نقدم أيماننا، ونردد ما علمنا من دعاء، ونتعامل مع الناس بتوجيهاته ونتعامل مع أنفسنا بإرشاداته ونصل الرحم كما أمر ونوقر آباءنا وأمهاتنا كما أوصى، ونبتعد عن الفحش في الأقوال، ونتواصى بالكلمة الطيبة.

 

إشراقة النفوس:

وعند النوم نرقد جهة اليمين وندعو بحفظ الله لنا كما كان يدعو، فهو إشراقة أنفسنا وهوى فؤادنا - صلى الله عليه وسلم -، هم استهزؤوا برسولهم، ونحن لا نتجرأ أن نرفع أصواتنا فوق صوت الرسول: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول (الحجرات: 2)، لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا (النور: 63).

هم استهزؤوا برسولهم ونحن بحمد الله نلقي - عليه السلام - يومياً في صلاة الفروض فقط تسع مرات: السلام عليك أيها النبي.

وغادرت السيدة المنصة ثم صعد رجل تبدو على قسمات وجهه الحكمة ويسير بتؤدة وطمأنينة. أمسك الميكرفون وأدار عينيه في الحضور وكأنه يريد أن يحتويهم جميعاً ثم قال: إن الله برحمته أراد لنا الخير فكانت قضية نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي التي فجرت فينا نخوة الغيرة والكرامة بعد طول موات، فقد توافدنا من كل صوب وجهة لنؤدي بعض حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا، فهو رحمة لنا: واخفض جناحك للمؤمنين 88 (الحجر).

بالمؤمنين رءوف رحيم 128 (التوبة).

فمن معين هذه الرأفة والرحمة أخذ يتردد على مسامعي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين" (رواه مسلم).

وقول الله - تعالى -: النبي أولى" بالمؤمنين من أنفسهم (الأحزاب: 6).

وطرحت على نفسي سؤالاً: هل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليَّ من نفسي حقاً؟ وكانت الإجابة بالنفي، وأنا أسألكم هذا السؤال: بحق الله عليكم هل محمد - صلى الله عليه وسلم - أحب إليكم من أنفسكم؟ كان السؤال، مفاجأة لنا جميعاً وكان الرد مخيباً لجميع الآمال، فقد كانت بالنفي وتحريك الرؤوس بأسى وحزن. وأردف الرجل قائلاً: إذن من هنا نبدأ.. كيف يكون - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من أنفسنا؟ ولن أطيل عليكم، فقد هُرعت إلى كتاب الله أبحث عما قدمته الأنفس لأنماط مختلفة من البشر في أزمنة مختلفة حتى أضع هذه النفس في مكانها الصحيح فرأيت عجباً، وفي نفس الوقت كان البحث عما قدمه لنا جميعاً - صلى الله عليه وسلم - فأنصت الجميع، وكأن على رؤوسهم الطير، فقال:

هناك أنفس لم تأت لأصحابها إلا بمصيبة: "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى" هذا قل هو من عند أنفسكم" (آل عمران: 165).

ونفوس أخرى فتنت أصحابها.

" قالوا ألم نكن معكم قالوا بلى" ولكنكم فتنتم أنفسكم " (الحديد: 14).

ونفوس أخرى قادت أصحابها إلى الضلالة: "وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون 69 " (آل عمران).

ونفوس أخرى قدمت لأصحابها سخط الله: " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم " (المائدة: 80).

ونفوس أخرى كذبت على أصحابها: "انظر كيف كذبوا على أنفسهم " (الأنعام: 24).

ونفوس أخرى تكبرت وعتت: "لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا "21 (الفرقان).

ونفوس أخرى ظلمت نفسها: "فمنهم ظالم لنفسه" (فاطر: 32).

ونفوس أخرى قدمت لأصحابها مقت الله ومقت أنفها: "إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم " (غافر: 10). ولذا يحذرنا - صلى الله عليه وسلم - من النفس التي بين جوانحنا فيعلمنا أن نقول في الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي".

ويحذرنا - سبحانه - منها أيضاً: "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي " (يوسف: 53).

فمنَّ - سبحانه - على البشرية بنبي كريم رحمة للعالمين: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "107 (الأنبياء).

 

أسوة حسنة:

فجعله حماية لأنفسنا من أنفسنا، وقد جعله - سبحانه - الشق العملي التطبيقي للقرآن الكريم، فكان - صلى الله عليه وسلم - قرآناً يمشي على الأرض، ونال رضا الله وكان فضل الله عليه عظيماً. وجعله لنا أسوة نقتدي آثاره حتى لا نخطئ الطريق: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (الأحزاب: 21).

وجعل - سبحانه - طاعة الرسول دليلاً على طاعته: "من يطع الرسول فقد أطاع الله " (النساء: 80).

وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - طريق إلى محبة الله ورحمته ومغفرته وصلاح البال: " وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون 56 "(النور: 56)، "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم " (آل عمران: 31)، "والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم "(2) (محمد).

وفي الآخرة تأتي كل نفس تجادل عن نفسها: "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " (النحل: 111).

ولكنها لا تملك لنفسها الشفاعة، فيشفع لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو - عليه السلام - بيقين أقرب وأحب لأنفسنا من أنفسنا وقد جعل - سبحانه - طاعته أقصر الطرق إلى الجنة: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم "52 (الشورى).

وبطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يشتري منا - سبحانه - هذه الأنفس التي تصبح باتباع النبي الكريم أنفساً مطمئنة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " (التوبة: 111).

أشرقت وجوه المستمعين بعد أن علتها ابتسامة امتنان وتقدير. وجاء دور الشباب فكانت الكلمة لشاب يعلو وجهه صفاء الإيمان وبدأ بقوله: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " (الأحزاب: 40). وبالفعل هو أغلى من الأب والولد والناس أجمعين، فوجبت له الطاعة. فبقدر سعادتي بهذه المشاعر المتآلفة المتحدة الطيبة بقدر حزني لبعدنا عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

وأردت أن أعقد محكمة لمجتمعاتنا الإسلامية يكون - صلى الله عليه وسلم - هو الحكم فيها، فرأيت الكثير من التجاوزات التي بسببها سنذوب خجلاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

فهناك من لا يصلي الفجر في وقته، وآخر عاق لوالديه، وأخرى لا ترتدي اللباس الذي أمر به - صلى الله عليه وسلم -، وتلك لا تحسن التبعل لزوجها، وهذا يخون، وهذا يكذب، وكأننا غفلنا عن قول الله - تعالى -: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا 36 (الأحزاب)، وليعقد كل فرد منا لنفسه محاكمة ويتعلم ويسأل عن حكم رسول الله في أمره، فهو الفيصل حتى لا ينطبق علينا قول الله: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون 48 (النور).

فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبر على إيذاء الكفار والمشركين وكان دوماً يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". أما مخالفة أمره أو معصيته فكان يغضب لها ويظهر ذلك في حمرة وجهه وتغيره - عليه الصلاة والسلام -.

ومثال ذلك "رماة جبل أحد" فإن معصيتهم لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت سبباً في هزيمة المسلمين في أحد، لنستفيد من الدرس ويكون لنا عبرة، ونريد أن ننظر لأنفسنا في مرآة الحق ولا نكون ممن قال عنهم - سبحانه -: "ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين "47 (النور).

 

سعادة وسكينة:

فلابد أن يكون هناك في القلوب رضا وتسليم بأمر الله وأمر رسوله، وكلما ازداد حبنا لله ورسوله كانت ترجمة ذلك أن يميل هوانا إلى طاعته - صلى الله عليه وسلم - فنشعر بسعادة وتنزل علينا السكينة وتلزمنا الطمأنينة ونعيش جنة الطاعة في الدنيا.

وفي رواية: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".

فإن أردنا بحق أن ننصر محمداً - صلى الله عليه وسلم - فليكن كل منا محمداً في أقواله وأفعاله حتى لا تهلكنا براءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن عصاه: "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " 216 (الشعراء).

فكم من العصاة سيشقون بهذه البراءة في الدنيا والآخرة، وكم من الطائعين وقد شملتهم رحمة الله وحبه وشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.. فاعملوا أحبائي على نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإحياء كلماته وأفعاله.

وأختم حديثي ببراءة منا جميعاً إلى الله فيما عمل هؤلاء القوم وما يدبرون، ونسأله - سبحانه - برحمته هدايتنا والمسلمين أجمعين إلى اتباع رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -".

انتهت الكلمات والجموع كما هي لا تبرح ولا تريد أن تبرح حتى تنصر الرسول وتنتصر بالرسول - صلى الله عليه وسلم -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply