الشرق الأوسط/ صدمة الرسوم الدانماركية الفاحشة التي أهانت نبي الإسلام وسخرت منه، وحطت من شأن كل ما يمثله ينبغي ألا تمر من دون أن نتوقف عند وقائعها، ونستخلص دروسها، لأنها تشكل نموذجاً للكيفية التي تتعامل بها بعض الحكومات والنخب في الغرب مع الإسلام، وللكيفية التي ترد بها الأطراف الإسلامية على الإهانات التي توجه إلى عقيدتهم ونبيهم.
خلاصة الوقائع على النحو التالي: في الثلاثين من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي نشرت صحيفة «يولاندز بوسطن»، وهي من أوسع الصحف اليومية انتشاراً في الدانمارك، 12 رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد - عليه الصلاة والسلام -، أقل ما توصف بها أنها بذيئة ومنحطة إلى أبعد الحدود، ومع الرسوم نشرت الصحيفة تعليقاً لرئيس تحريرها عبر فيه عن دهشته واستنكاره إزاء القداسة التي يحيط بها المسلمون نبيهم، الأمر الذي اعتبره ضرباً من «الهراء الكامن وراء جنون العظمة»، ودعا الرجل في تعليقه إلى ممارسة الجرأة في كسر ذلك «التابو»، عن طريق فضح ما اسماه «التاريخ المظلم» لنبي الإسلام، وتقديمه إلى الرأي العام في صورته الحقيقية (التي عبرت عنها الرسوم المنشورة).
كان لنشر الصور الكاريكاتورية وقع الصاعقة على المسلمين الذين يعيشون في الدانمارك (180 ألف نسمة، يمثلون حوالي 3% من السكان البالغ عددهم 5.4 مليون شخص)، كما كان له نفس الصدى في أوساط ممثلي الدول الإسلامية في كوبنهاجن، فعقد 11 دبلوماسياً منهم اجتماعاً بحثوا فيه الأمر، وقرروا مطالبة الصحيفة بالاعتذار للمسلمين عن إهانة نبيهم، ولكن رئيس تحريرها رفض الاعتذار، فطلبوا مقابلة رئيس الوزراء الدانماركي لإبلاغه باحتجاجهم على نشر الصور، فرفض مقابلتهم بدوره، وأبلغهم من مكتبه بأن الأمر يتعلق بحرية التعبير التي لا تتدخل فيها الحكومة، وقيل لهم إن بوسعهم اللجوء إلى القضاء إذا أرادوا.
حين علم بالأمر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو وجه خطابات إلى رئيس وزراء الدانمارك والمسؤولين في الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي دعاهم فيها إلى التدخل لوقف حملة الكراهية ضد المسلمين، واتخاذ موقف حازم إزاء الإهانات التي توجه ضد نبيهم، وكان محور الردود التي تلقاها - خصوصاً من رئيس الوزراء الدانماركي - أن قضية حرية التعبير تمثل ركناً أساسياً في الديمقراطية الدانماركية، الأمر الذي اعتبر رفضاً لاتخاذ موقف إزاء الحملة، في الوقت ذاته تحرك سفراء الدول الإسلامية في جنيف، وقدموا شكوى إلى مفوضية حقوق الإنسان في العاصمة السويسرية، اعتبروا فيها موقف الصحيفة الدانماركية محرضاً على العنصرية والكراهية للمسلمين، فقررت المفوضية تحري الأمر، وإعداد تقارير عن الموضوع يفترض أن ينتهي إعدادها يوم 24 من الشهر الحالي.
أدرجت المسألة ضمن جدول أعمال القمة الإسلامية التي عقدت في مكة في السابع من شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبناء على ذلك عبرت إحدى توصيات المؤتمر عن القلق إزاء الحملات الإعلامية المسيئة إلى الإسلام ونبي المسلمين، وأشارت إلى مسؤولية جميع الحكومات عن ضمان احترام الديانات المختلفة، وعدم جواز التذرع بحرية التعبير للإساءة إلى الأديان والمقدسات.
بعد ثلاثة أشهر من التجاهل والصمت، وفي أعقاب التفجيرات التي حدثت في لندنº علق على قضية الرسوم الكاريكاتورية المفوض العدلي بالاتحاد الأوروبي فرانكو فراتيني قائلاً: إن نشرها لم يكن تصرفاً حكيماً، باعتبار أنه من شأن ذلك أن يشيع الكراهية، ويشجع على التطرف في أوروبا.
بينما الرسائل يتم تبادلها بين الأطراف المختلفة، انتقد 22 سفيراً دانماركياً أغلبهم عملوا في البلاد العربية موقف حكومة بلادهم من المسألة، وقام وفد من مسلمي الدانمارك يمثلون 21 مركزاً إسلامياً ومنظمة بزيارة إلى القاهرة، التقوا خلالها شيخ الأزهر والأمين العام لجامعة الدول العربية، وانتقد وزراء خارجية الدول العربية سلبية الحكومة الدانماركية إزاء الإهانة التي لحقت بنبي الإسلام، ووجد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنه لا مفر من اتخاذ موقف عملي يوصل رسالة الاحتجاج والغضب إلى حكومة الدانمارك، التي تعاملت مع الحدث بقدر لافت للنظر من عدم الاكتراث واللامبالاة، ولذلك قرر إعلان مقاطعة المنظمة لمشروع دانماركي يتمثل في إقامة معرض كبير تحت عنوان «انطباعات عن الشرق الأوسط» تغطي حكومة كوبنهاجن جزءاً من تكاليفه، ويفترض أن تسهم الدول العربية (الخليجية) في تغطية بقية النفقات، وبعث الدكتور أكمل الدين أوغلو رسالة بهذا المعنى إلى الجهة المعنية في كوبنهاجن أبلغها فيها بأن منظمة المؤتمر الإسلامي طلبت من كل الأعضاء مقاطعة المشروع احتجاجاً على موقف بلادهم الرسمي من إهانة نبي الإسلام.
أخيراً في أعقاب كل تلك التطورات، تطرق رئيس وزراء الدانمارك إلى الموضوع في بيان رأس السنة الميلادية، الذي بثه التلفزيون قال فيه: إن حكومته تدين أي تعبير أو تصرف يسيء إلى مشاعر أية جماعة من الناس، استناداً إلى خلفياتهم الدينية أو العرقية، وبهذه الإشارة المخففة، تصور الرسميون في كوبنهاجن أنه تمت تسوية الأمر، في الوقت الذي بدا فيه لكل ذي حس سليم أن الجرح أكبر وأعمق بكثير من أن يداوى بكلمات عامة وخجولة من ذلك القبيل.
من ناحية أخرى كانت بعض المنظمات الإسلامية في الدانمارك قد رفعت قضية ضد الصحيفة التي تبنت الإساءة البذيئة للنبي محمد - عليه الصلاة والسلام -، ولكن المدعي العام رفض القضية معتبراً أن نشر الرسوم الكاريكاتورية تم في إطار حرية التعبير التي يحميها القانون، وفي حين اختص رئيس تحرير صحيفة «يولاندز بوسطن» بالقرار، فإن صدوره شجع صحيفة مسيحية محافظة أخرى في الترويج «مجازينت» على إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية الاثني عشر، ومن ثم الترويج لحملة السخرية البذيئة من نبي المسلمين ودينهم.
ولا يزال الملف مفتوحاً، حيث قدم مسلموا الدنمارك طعناً في قرار المدعي العام، وثمة مشاورات حول الموضوع ما زالت جارية بين ممثلي الدول الإسلامية في جنيف ولدى منظمة اليونيسكو، وليس معروفاً بعد كيف سيكون موقف ممثلي تلك الدول من المسألة.
إن ما يثير دهشتنا واستياءنا ليس فقط أن يتطاول شخص أو منبر إعلامي على نبي الإسلام ومقدسات المسلمين، فالمتعصبون والموتورون والحاقدون والمغرضون موجودون في كل مجتمع، وهم كثر في الغرب، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالشأن الإسلامي، ومن أسف أن أصوات هؤلاء طغت على أصوات العقلاء والمنصفين من مثقفي الغرب، لكن ما يثير الدهشة والاستياء أيضاً وبدرجة أكبر هو مسلك الحكومة والقضاء في الدانمارك حيث يفترض أن تتنزه مواقفهما عن الهوى والغرض، وأن يكون تعبيرهما أكثر التزاماً بمعايير الإنصاف، وبمقتضيات المصلحة العامة.
فليس صحيحاً أن السخرية والطعن في نبي الإسلام ورموز المسلمين يعد من قبيل ممارسة حرية التعبير، لأن الذي تعلمناه في دراسة القانون أنه لا توجد حرية مطلقة إلا فيما يخص حرية الاعتقاد والتفكير، أما التعبير فهو سلوك اجتماعي يرد عليه التنظيم في أي مجتمع متحضر، وعند فقهاء القانون في النظام الأنجليسكسوني وفي النظم اللاتينية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية، فإن حرية التعبير يسبغ عليها القانون حمايته طالما ظلت تخدم أية قضية اجتماعية، ولا تشكل عدواناً على الآخرين، وللمحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة أحكام متواترة بهذا المعنى، والعبارة المتكررة في تلك الأحكام تنص على أن حماية حرية التعبير تظل مكفولة طالما تضمنت حداً أدنى من المردود الاجتماعي النافع، ونصها بالإنجليزية كما يلي:
A minimum of social redeaming value
إن كل القوانين تجرم سب الأشخاص والقذف في حقهم، حيث لا يمكن أن يعد ذلك نوعاً من حرية التعبير، لأن السب في هذه الحالة يعد عدواناً على شخص آخر، ومن ثم فأولى بالتجريم سب نبي الإسلام الذي يؤمن بنبوته ورسالته ربع سكان الكرة الأرضية، وحين حدثت في الأمر الدكتور أحمد كمال أبوالمجد وهو خبير قانوني دولي، أيد ما ذكرت، وأضاف أنه حتى إذا سلمنا بأنه لا توجد نصوص في التشريعات الدانماركية تعاقب على سلوك الصحيفة المشينº فإن هناك التزاماً أخلاقياً وسياسياً يفرض على المسؤولين في الدولة إدانة ذلك المسلك، انطلاقاً من الحرص على حماية المعتقدات الدينية، ودفاعاً عن فكرة التعددية الثقافية.
إضافة الدكتور أبوالمجد بأن عدم اتخاذ موقف صريح وحازم من جانب حكومة الدانمارك إزاء الطعن في نبي الإسلام يفتح الباب لشرور كثيرة من بينها: فتح الأبواب واسعة لإشعال حروب ثقافية لا مصلحة لأحد فيها، الأمر الذي يهيئ المناخ لإحلال القطيعة بين الشعوب والثقافات محل التواصل، والصراع محل التعاون، وليس معقولاً أن يكون ذلك ما تسعى إليه حكومة الدانمارك.
إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا لا تعلن حكومات الدول الإسلامية استهجانها واستنكارها لموقف حكومة الدانمارك بشكل صريح وحازم، أسوة بموقف منظمة المؤتمر الإسلامي التي دعت إلى مقاطعة المؤتمر الدانماركي عن الشرق الأوسط، ذلك أن مثل ذلك الطعن الجارح إذا وجه إلى أي رئيس دولة في منطقتنا لقامت الدنيا ولم تقعد، ولسحب السفير، وتهددت العلاقات الدبلوماسية فضلاً عن المصالح الاقتصادية للقطيعة، فهل نستكثر على نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - أن نغضب لشخصه ولكرامته بما هو دون ذلك بكثير؟ وألا يخشى إذا استمر الصمت الرسمي في العالمين العربي والإسلامي أن يخرج علينا من يطرح العنف بديلاً عن المعالجة الدبلوماسية الرصينة، فيفتي مثلاً بإهدار دماء محرر الصحيفة الدانماركية ورساميها، وتكون هذه شرارة فتنة جديدة لا يعلم إلا الله مداها؟
أخيراً فإن الواقعة تجدد سؤالاً آخر طالما طرحناه حينما كان يفتح باب الحديث عن عداء المسلمين المزعوم للغرب، هو: من حقاً يكره من؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد