بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
المجددون العصرانيون لا يجمعهم حزب أو مؤسسة، ولكنهم مجموعة من الناس يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا، فهؤلاء منهم العلمانيون، ومنهم الزنادقة والملاحدة، ومنهم عملاء الصليبيين، كما أن منهم المبتدعين، والمسلمين المخدوعين بدعوة التجديد العصري الذين يظنون أنهم يقولون بما يفعلون أو يقدمون خدمة جليلة لدينهم في ظل هذا العصر الذي بات يسيطر عليه الصليبيون في الحقيقة.
وهؤلاء المجددون العصرانيون قد يوافقهم في بعض أقوالهم من ليس منهم ولا يسلك طريقهم في الجملة، ونحن في هذا المقام لا يعنينا أن نبحث عن الضوابط التي يتحرك من خلالها المجددون العصرانيون فيما يطرحونه من رؤية تجديدية، أو اجتهادات يرونها تمثل التجديد في العصر الحاضر.
والقاسم المشترك الذي اتفق عليه جميع هؤلاء: هو الدعوة إلى ما يسمى بالتجديد العصري، وهو النظر إلى علوم الغرب واجتهاداتهم في أمورهم وأحوالهم على أنها تمثل المعرفة الحقيقية التي ينبغي اتباعها كشرط أساس للتوافق مع هذا العالم، أو إحراز التقدم في مجال العلوم والتقنية، وهذه النظرة يترتب عليها متابعة الغرب وتقليده فيما يطرحه من موضوعات وتصورات وقيم وحلول.
ومن خلال ما هو مطروح في الكتب والمقالات، وما هو منشور على الشبكة العالمية التي يوجد بها عشرات المقالات ومئات الصفحات عن التجديد العصري يتبين أن هناك عدة ملامح واضحة لهذا المنهج نرصدها في هذه السلسلة إن شاء الله تعالى، ومنها:
أولًا: تقدير العقل تقديرًا كبيرًا حتى يتجاوز به حده فيعارضون به الشرع، فإذا دلَّ العقل عندهم على شيء كان هو المقدم، وما خالف العقل عندهم حقه التأخير، ولو كان من نصوص الشريعة الصحيحة الصريحة، ومن هذا الباب وجدناهم يتشككون في معجزات الأنبياء، ويؤولونها بما يخرجها عن ظاهرها، وكذلك تأويلهم للغيبيات: كالجن والشياطين تأويلًا يساوي الإنكار، ورد أحاديث أشراط الساعة أو تأويلها، ونحو ذلك من الأمور التي يظنونها مخالفة للعقل، وليس في ذلك مخالفة للعقل، لأن معنى مخالفة العقل أن تقام الأدلة العقلية على بطلان تلك الأمور ومخالفتها للعقل، وليس عندهم أدلة على ذلك.
كل ما عندهم في ذلك أنهم لا يقدرون على إثباتها بالعقل، فجعلوا عدم القدرة على الإثبات دليلًا على عدم ثبوتها في الواقع، وليس هذا صحيحًا، فإن الواقع المشاهد والحس الذي لا يدفع يكذبهم في ذلك، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود))[رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، (5203)]، فأي شيء في هذا يخالف العقل، تكلُّم الحجر والشجر؟ وهل قام دليل عقلي على أن الشجر والحجر لا يتكلم؟ كل ما هناك أنه لا عهد لهم بذلك، ولكن ليس في العقل ما يبطله، ألم يقل الله تعالى: **تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء: 44]؟ ألم يقل عن الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[البقرة: 74]؟ ألم يقل في حق عيسى عليه السلام عندما أشارت أمه إليه، وطلبت ممن يتشكك في طهارتها من قومها أن يستفسروا عن ذلك من عيسى، وهو كان بعد رضيعًا فقالوا مستغربين: **كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}[مريم: 29]، فقال عيسى عليه السلام فيما ذكره رب العزة في كتابه: **قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}[مريم: 30-31]؟ فأي شيء في ذلك يخالف العقل؟ إلا أن يكون عقلًا منكوسًا.
ثانيًا: العناية الزائدة عن الحد بالمصالح، حتى تجعل المصالح دليلًا شرعيًا مستقلًا بذاته تعارض به النصوص الشرعية، فيجعلون مطلق المصلحة أصلًا يفرعون عليه، والتعامل مع المصلحة بدون قيود هو الذي يساعد في ترويج القيم العصرية المخالفة للشريعة، فهم يرون مثلًا أن من المصلحة اتفاق الناس ونبذ التعصب فيما بينهم فيحملهم ذلك على الدعوة إلى وحدة الأديان، أو على الأقل إلغاء أحكام الولاء والبراء التي تضبط التعامل مع الكفار والمشركين، والنظر إلى الناس كلهم نظرة واحدة لا فرق في ذلك بين موحد وبين مشرك، وأن هذه الأمور تترك إلى الآخرة، وأما الدنيا فالتعامل فيها إنما يكون من منطلق الإنسانية فقط.
ولذا فإننا نجد الكتابات الكثيرة التي تتحدث عن الآخر (الكافر)، وتطالب بقبوله وإذابته في مجتمع المسلمين، وأنه لا يجب استبعاد المشركين، بل ينبغي أن نبحث عما يجمع بيننا وبينهم، ومن هذا المنطلق أيضًا نجدهم يدعون إلى الاقتباس من حضارة الكفر المعاصرة، ليس من حيث المنجز التقني فقط، ولكن من حيث الأفكار والقيم والمؤسسات الاجتماعية المعبرة عنها في صورتها الثقافية العامة من حيث العادات والتقاليد والأعراف.
فالأعراف تابعة للمصالح، ومن ثم فإن المصالح المتجددة تصلح لنسخ الأحكام السابقة التي لا تتلاءم معها.
ثالثًا: تقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي التفصيلي، بغرض التفلت من الأحكام الشرعية الواضحة، فتراهم يستنبطون من الحكم الشرعي مقصدًا، ويقولون هذا هو المقصد من تشريع ذلك الحكم، والمطلوب أولًا هو تحقيق القصد، وأما الحكم الوارد في ذلك فما هو إلا طريق من طرق تحقيق المقصد، وعليه فإنهم ليسوا مطالبين باتباع الحكم تفصيلًا، وإنما يلزمهم من ذلك تحقيق المقصد فقط، فيجعلون المقصد الذي استنبطوه هادمًا للحكم الأصلي.
وهذا لا شك ضلال في الفهم وخبل في العقل، فينظر بعضهم مثلًا إلى أن ارتداء المرأة للحجاب المقصد منه حصول العفة وليس خصوص الحجاب، فإذا أمكن تحقيقه بغير ذلك فلا يلزم لُبْس الحجاب، ويقولون مثلًا: إن الحدود وضعت كعقوبة زاجرة، وهذا هو المقصد وليس المقصد العقوبة نفسها، فإذا تحققت العقوبة الزاجرة بالسجن مثلًا لم يلزم إقامة الحدود، وكل هذا وأمثاله إنما هو مسارعة في متابعة الكفار المعترضين على الشريعة في هذه الأمور، فيعمدون إلى أي شيء يمكن من خلاله موافقتهم.
هذا وما زال لحديثنا بقية.
بدأنا في اللقاء السابق الحديث عن ملامح منهج التحريف عند العصرانيين، واستعرضنا من هذه الملامح:
تقدير العقل تقديرًا كبيرًا حتى يتجاوز به حده فيعارضون به الشرع، والعناية الزائدة عن الحد بالمصالح، وتقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي التفصيلي.
واستكمالًا للحديث نستعرض مزيدًا من تلك الملامح، والتي منها:
رابعًا: تعدد القراءات واختلافها:
ومن الأمور التي يلجأ إليها أهل التجديد العصري لتطويع الشريعة، بحيث يمكن تغييرها وتطويرها عند الحاجة: الحديث عن تعددية القراءة، وأن النص له مدلولات تختلف باختلاف القراءة، وأن لكل أحد أن يقرأ النص بطريقته، وخاصة في ضوء المعارف العصرية، ثم يفهم بحسب ما تؤدي إليها قراءته، ويصف هؤلاء ما يخالف قراءتهم من أقوال أهل العلم على أنها قراءات جعلت النصوص الشرعية رهينة لقراءتهم المتشددة، والمشبعة بالصراع السياسي، والاحتقان في التعامل مع المخالفين، ولذلك يظهر هؤلاء النقد الشديد للسلف تحت مسمى (نقد التيار السلفي).
وقد يحدث أن يتورط بعضهم فيكشف عن حقيقة الدافع لدعوى تعدد القراءة من غير أن ينتبه لذلك، فيذكر أن (المجتمعات العربية والإسلامية هي مجتمعات متدينة، ويغدو الحديث عن التقدم والنهضة والحضارة بغير استحضار الدافعية الدينية عن طريق ممارسة قطيعة مع الإرث الثقافي والفكري والاجتماعي؛ يغدو أمرًا غير قابل للتطبيق).
ويقدم من وجهة نظره الحل الذي يجمع بين الدعوة إلى التقدم مع عدم القطيعة من الناحية الشكلية، مع الإرث الثقافي والفكري والاجتماعي، وهو (قراءة حضارية للنص، تخرج ما غيبه التاريخ، وتطرح قيم التواصل مع العالم المفتوح، وقيم الحرية والتسامح والنهضة والتقدم الإنساني، وتعيد مساحة المشتركات الإنسانية الواسعة).
والقراءة الحضارية هي بالطبع ليست قراءة الصحابة أو التابعين أو الأئمة الأعلام، فإن قراءتهم لم تظهر فيها مثل هذه المعاني النبيلة، بل كانت غائبة في بطن التاريخ، ولذا فهي في حاجة إلى من يخرجها الآن، وهم بالطبع المجددون الذين يقومون بالتغيير المطلوب في الأحكام الشرعية باستخدام مثل هذه الألفاظ، غير أنَّا نقول: إن اختلاف الناس في الفهم والاستنباط من النصوص أمر واقع لا يدفع، لكن هذا لا يعني ضياع الحق، أو أنه لا يمكن الاهتداء إليه، أو أنه يمكن لكل أحد أن يفهم بطريقته الخاصة، ويعمل بما فهم من غير معقب.
فالذي يدركه كل أحد بلا عناء أن الفهم منه صواب ومنه خطأ، وأن معرفة الخطأ من الصواب ممكنة وواقعة، لأن الله تعالى لم يكلف عباده بشيء لا يعرف خطؤه من صوابه، ومن ثم فإن الحديث عن تعددية القراءة لا يصلح مسوغًا لتجاوز مدلولات الشريعة.
ولعل هؤلاء الذين يبشرون بتلك القراءات المتعددة هم من عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم)[رواه مسلم في مقدمة صحيحه، (7)]، وفي رواية: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون, يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم, فإياكم وإياهم, لا يضلونكم ولا يفتنونكم)[رواه مسلم في مقدمة صحيحه](8).
وقال معاذ رضي الله عنه: (يوشك قائل أن يقول: ما للناس أن يتبعوني وقد قرأت القرآن، ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة)[رواه أبو داود، (216)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 4611].
خامسًا: تاريخية الشريعة:
من الأشياء التي يدندن حولها أصحاب التجديد العصري ربط النصوص الشرعية وفهم العلماء لها بالتاريخ، فيجعلون ما ورد من ذلك مرتبطًا بالتاريخ مفسرًا به، فيجعلون قطع يد السارق مثلًا إنما كان حلًا لعدم وجود سجون في ذلك الزمان، ويجعلون الجهاد لرد عدوان المعتدين فقط، ولا يجعلون من أغراض الجهاد في الإسلام نشر الدعوة، ويجعلون الحديث عن أهل الذمة مرتبطًا بظروف الحرب التي نشأت بين المسلمين وغيرهم، وليست أحكامًا عامة، ويجعلون هذه الأمور ونحوها وكأنها (نشأت في سياقات تاريخية مكتنـزة بالتأزم والصراعات السياسية، والحدة في التعامل مع المختلف الفكري والمذهبي والسياسي).
وهذا ولا شك ينتهي بأصحابه إلى جعل الشريعة خاصة أو صالحة لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما قرب منه من الزمن فقط، وأما ما تلا ذلك من العصور فلم تعد تصلح له الشريعة.
وتختلف عباراتهم في ذلك ما بين مصرِّح شديد التصريح بذلك، وما بين متستر، وما بين متخير لألفاظه منتق لها، لكن الجميع يدور حول ربط النصوص الشرعية وفهم سلف الأمة لها بفترة تاريخية، وفي هذا المجال نجد من يعترض على قول الإمام مالك: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، لأن ذلك من أدلة عموم الشريعة ونفي ربطها بالتاريخ كما يزعم هؤلاء، فيطالب أحدهم بـ (قراءة الدين الإسلامي قراءة معرفية، فتخرج النص المقدس مخلَّصًا من التاريخ غير المقدس، والذي اختلط به كثيرًا، لدرجة التناقض وعدم الانسجام بين روح ومقاصد الإسلام وبين الصورة التاريخية التي تصرُّ السلفية التقليدية على استعادتها كجزء لا يتجزأ من الدين في حدود قول الإمام مالك: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)، وانطلاقًا من تاريخية الشريعة يصبح من الأمور الملحة في التجديد العصري تجاوز الفهم النصوصي، وإحداث القطيعة معه، والانتقال في فهم الإسلام إلى التأويل النصوصي والنقدي للكتب والنصوص الشرعية.
سادسًا: الرطانة بالعربية:
من القواسم المشتركة في حديث ما يسمى بالتجديد العصري مجموعة من الألفاظ والتراكيب يزين بها هؤلاء كلماتهم، وهي أمور غير متفق على المراد بها، ويختلف في فهمها الكثيرون، ولا تعبر عن مدلول عام، وإنما تعبر عن توجه وفهم قائلها، ومع ذلك يتعاملون معها كما يتعامل المسلمون مع نصوص الشريعة المحكمة.
وإذا فتشت هذه الألفاظ والتراكيب لم تجد غير الدعوة إلى التغيير في أحكام الشريعة استنادًا إلى تلك التعبيرات، ولا بأس هنا من نقل بعضها، فمن ذلك: (الاهتمام بقضايا النهضة والحضارة وضرورة التنمية والانفتاح على الآخر، والتعددية، والاعتراف بالآخر الفكري والسياسي والمذهبي والديني والتواصل معه).
ولو ذهبنا مثلًا نبحث في المقصود بالاعتراف بالآخر الديني، وماذا يعني التواصل معه، لتهنا في شعاب وأودية هذا الكلام، وقلْ نحو ذلك في كثير من تلك الألفاظ، ثم ما المرجعية في الاعتراف بالآخر الديني والتواصل معه؟ هل الشريعة أم شيء آخر؟ وإذا كانت الشريعة فعلى فهم الصحابة والتابعين وأئمة الفقه أم على فهم "التجديد العصري" الذي يجعل أكثر ما جاء في النصوص من قبيل المخلفات التاريخية؟ ثم يعاد الكلام بأسلوب آخر، فيقال إن: (التنوير الإسلامي يسهم في تكوين مجتمع مدني تعددي، يؤمن بالحريات والديموقراطية، والتنوع السياسي والفكري والمذهبي، ويكرس أولويات النهضة وإقامة مجتمع حضاري متقدم)، وخذ ما شئت من مثل هذه الألفاظ!
ومع تأكيد القوم على التمسك بهذه الأمور حتى يعبرون عنها بلفظ الإيمان؛ لا نجد في المقابل تمسكًا أو تأكيدًا للتمسك بالنصوص الشرعية، أو بفقه السلف، أو الانفتاح على المسلم المتمسك بمنهج السلف، بل نجد التأكيد على (نقد التيار السلفي وتفكيك بنيته التقليدية)، وحتى النقد ليس متوجهًا إلى مدرسة معينة قد يكون لها بعض الأخطاء، وإنما النقد متوجهًا للتيار السلفي بكل مدارسه ومذاهبه، أي: أن اتباع السلف لم يعد خيارًا صالحًا في هذا العصر.
ونستكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى الحديث عن بقية ملامح تحريف الشريعة عند العصرانيين.
على مدى الحلقتين الماضيتين استعرضنا أهم ملامح منهج التحريف عند العصرانيين، ولإنعاش ذاكرة القارئ نذكر بالعناوين الرئيسية لتلك الملامح، وهي: تقدير العقل تقديرًا كبيرًا حتى يتجاوز به حده فيعارضون به الشرع، والعناية الزائدة عن الحد بالمصالح، وتقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي التفصيلي، وتعدد القراءات واختلافها، وتاريخية الشريعة، والرطانة بالعربية.
واستكمالًا لتلك الملامح نذكر منها أيضًا:
سابعًا: الخروج على مصادر الحُجة:
الحجة الشرعية التي يتحاكم إليها المسلمون كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ما دلَّ عليه هذان المصدران، وهذه الحجج لا يمكن للمسلم الخروج عليها، ثم يكون بعد ذلك محتفظًا بإسلامه، وفي التجديد العصري كانت هناك حاجة إلى الخروج، ولأنه لا يمكن حدوثه مع الالتزام بمصادر الحجة الشرعية؛ فقد حدث التعامل مع ذلك بطريقة ملتوية بحيث لا يبدو الأمر في ظاهره أنه خروج، فمن ذلك: نصب التعارض بين الأدلة الشرعية حتى يسهل ترك ما يراد تركه منها، ومن الأمثلة الشهيرة في ذلك نصب التعارض بين الكتاب والسنة في حكم قتل المرتد، وقالوا: إن قتله لا يرد في القرآن، ولأجل ذلك قالوا: إن المرتد لا يُقتل، وفعلوا مثل ذلك مع رجم الزاني المحصن.
ولو نظرت لوجدت أن هذه الحدود مما يأباها الغرب ويستبشعها، فالغرض الحقيقي هو متابعة الغرب، مع أن هذه من الأمور التي أجمع عليها أهل العلم إجماعًا يقينيًا، ومن ذلك: تضعيف الأحاديث الصحيحة التي لا تلائم التجديد العصري، فكان اجتهادهم هو الأصل المحكم الذي تُضعَّف لأجله الأحاديث أو تُصحح، فالأحاديث الدالة على جهاد الطلب في فقه التجديد العصري عدوان لا ينبغي، ومن ذلك وضع شروط للعمل بالسنة مثل ما يطلب بعضهم في نصوص السنَّة الخاصة بمسائل السياسة والحكم أن تكون نصوصًا قطعية، حتى يمكنهم التفلت من كثير من تلك النصوص، والأحكام المتعلقة بالسياسة مثلها مثل غيرها من الأحكام التي لا يشترط فيها التواتر أو القطعية.
ومن ذلك تقسيمهم للسنَّة: إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية، وجعل كل ما تعلق بمسائل السياسة من السنة غير التشريعية، أي: السنة غير الملزمة للمسلمين بعد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه أمور في غاية البطلان والكذب على الدين.
ثامنًا: اختراع علل الأحكام:
كثير من الأحكام معللة، وقد قال أهل العلم: إن الحكم المعلل يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا، وانطلاقًا من ذلك يعمد أهل التجديد العصري إلى اختراع علل للأحكام اختراعًا من عند أنفسهم، حتى يتوصلوا من ذلك إلى نفي الأحكام عند انتفاء علة وجودها تطبيقًا للقاعدة السابقة، فيجعلون مثلًا علة تحريم الربا أن القروض كانت في ذلك الوقت للفقراء بقصد العيش منها، لذلك حرمت، لأنها قروض استهلاكية، أما القروض الإنتاجية التي يأخذها الأغنياء بقصد استثمارها، فالعلة فيها غير متحققة، لذلك هي عندهم ليست حرام.
فمن البيِّن أن هذا الكلام القصد منه تسويغ النظام الربوي العالمي الذي يسيطر عليه اليهود، لكن إذا تركنا ذلك فأين نجد هذه العلة المزعومة؟ إننا لا نجدها إلا في أذهانهم، أما في الشريعة فنجد أن الله تعالى يقول: **يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة: 278]، ثم يتوعدهم بقوله: **فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة: 279]، ثم من قال: إن القروض في ذلك الزمان كانت قروضًا استهلاكية فقط، مع أن أهل مكة كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أهل زراعة، وكان الربا عندهم داخلًا فيما يقال عنه قرض استهلاكي وقرض إنتاجي.
تاسعًا: التيسير والتخفيف:
النفس تستروح للتخفيف والتيسير، وقد جاء ديننا بالتيسير فما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرها، لكن هنا ضابط مهم جدًا كما ورد في الحديث: (إلا أن يكون إثمًا)[متفق عليه، رواه البخاري، (3296)، ومسلم، (4294)]، وأهل التجديد العصري جعلوا التخفيف والتيسير غاية من غير الالتزام بأية ضوابط، فالمطلوب عندهم التخفيف، حتى غدا الأمر تفلتًا وانفلاتًا.
عاشرًا: تقليل شروط الاجتهاد:
الاجتهاد في الدين يتطلب تحصيل عدة علوم متنوعة تمكن الحاصل عليها من الفهم الصحيح والاجتهاد فيما يتجدد من الأمور، وقد كان العلماء قديمًا لا يتصدرون للإفتاء والاجتهاد إلا بعد الوصول إلى درجة عالية من ذلك، وحتى يقرُّهم على ذلك من هم أسبق منهم علمًا، وذلك حفاظًا على الدين من أن يعبث به الجاهلون أو أنصاف المتفقهين.
ويحاول المجددون العصريون التقليل من هذه الشروط والأوصاف حتى يكون ذلك مسوِّغًا لهم فيما يحاولونه من تغيير الشريعة، فليس المجدد عندهم العالم بالقرآن والعالم بالسنة، العالم بلغة العرب التي هي لغة الكتاب والسنة، العالم بأصول الفقه والاستنباط، العالم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وإنما المجدد عندهم الشخص المستنير العقلاني المنفتح على الآخر الذي يتعامل مع النصوص بنظرة حضارية بعيدًا عن التزمت والانغلاق، الذي ينظر إلى المقاصد، ولا يقيد نفسه بالنصوص، والذي يسبح في فضاء العقل الواسع بعيدًا عن الالتزام بمنهج الصحابة والتابعين وأئمة الدين.
هذه أهم الملامح التي يشترك فيها دعاة التجديد العصري، والتي نتج عنها فساد عريض في فهم الدين وفقه الشريعة، ولا شك أن ما ذكر هنا وما لم يذكر لا يقول به كل واحد من هؤلاء، وهذا صحيح، لكن نظرًا لأن هذا الاتجاه اتجاه مائع غير منضبط بضوابط صحيحة فيدخل تحت عباءته ويتدثر بردائه الكثيرون، لذا نقول لهم: أخرجوا من بينكم الزنادقة والملاحدة والعلمانيين، لكنهم لن يستطيعوا، لأن القواعد التي ينطلق منها الجميع واحدة.
ومن الجدير بالذكر أن أهل التجديد العصري رغم ما يشيعونه في كلامهم عن قيم التسامح والحرية، والاعتراف بالآخر والتواصل معه، والبحث عن المشتركات الإنسانية، إلا أن موقفهم العملي مع من يخالفهم في توجهاتهم من المسلمين المحافظين على دينهم المقتفين لآثار الصحابة والتابعين وأئمة الدين مغاير لذلك أشد المغايرة، مما يجعلهم أصحاب نظرة أحادية في هذا الجانب، فمن وافقهم فهو متحضر، عقلاني، متنور، متفتح، يتمتع بقيم الإسلام التنويري، يدرك متغيرات الزمان والمكان، يفهم البيئة المحيطة به، يتعامل مع الآخر بأفق متسع، ونحو ذلك من مثل هذه الألفاظ، ومن كان مخالفًا لهم فهو ظلامي، متحجر، متزمت، واقف مع حدود الألفاظ، ضيق العطن، لا يفهم روح الشريعة، تغيب عنه مقاصدها وتستتر خلف النصوص، ليس له القدرة على الغوص إلى أعماق المعاني.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد