بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
زرت مدارس ابتدائية في نيوزيلندا وأستراليا وسويسرا وأميركا فعلمت سرًّ نجاح الدول وتفوقها، فعند زيارتي لمدرسة ابتدائية في نيوزيلندا سألت عن مدير المدرسة فأشاروا إلى الملعب المزروع وقالوا إنه هناك يلعب مع الطلبة، وحين أخذني دليلي إلى داخل الفصول لم أجد طلبة مسمرين على الكراسي وأمامهم معلمون يسابقون الزمن لإنهاء مواد سيختبرون بها، ومواد يحاولون حفظها، بل وجدت نشاطاً ومرحاً وحيوية، طلاب أحد الفصول وجدتهم متحلقين حول المعلمة وفي يد أحدهم طفاية حريق ومع الآخر ساعة يحسب بها الوقت، وآخر يحمل قصاصات من أقمشة وهكذا، والمعلمة تعرض كل قطعة قماش للنار لمعرفة مدى مقاومتها للحريق بمساعدة الطلبة، سألت عن السبب فطلبت المعلمة من قائد الطلبة وهو أحدهم أن يشرح لي: نريد أن نختار الملابس الرياضية المناسبة لنعممها على الفصل، وقد اخترنا اللون ونوع القماش وبقية العناصر المطلوبة، واليوم نريد أن نختار القماش الأكثر مقاومة للحريق.
كانت المدرسة تعج بالأنشطة وبعد ساعة حضر المدير ليخبرني أنه هو من يضع المناهج ويختار المعلمين وهو الذي يستطيع فصلهم إذا قصروا، الوزارة ترسم السياسة وتضع الأهداف والخطوط العريضة والمدارس لها صلاحيات واسعة، والشرط الوحيد هو حسن اختيار المدير الذي يتم اختياره بعناية من بين متنافسين على مستوى الوطن، يقول ذلك المدير: لسنا راضين تمام الرضا عن التعليم عندنا.. بعض الدول سبقتنا، وقريباً سيكون هناك تغيير شامل نتيجة دراسات وزيارت قام بها الفريق المكلف بالتطوير لدول سبقتنا في هذا المجال، ولدينا تعاون علمي وثيق مع تلك الدول.
المعلومة موجودة في بطون الكتب وداخل الأقراص المدمجة وفي ذاكرة الحاسبات، وحفظها دون تمحيصها والتأكد من صحتها والعمل بها ليس سوى إضافة المزيد من الحاسبات التي تنتظر من يبرمجها. الحفظ يجب أن يقتصر على مادة القرآن الكريم بشرط التدبر والعمل به والتركيز على الآيات التي تزيد المسلم محبة للعمل وإتقانه والمعاملة الحسنة للآخر، وإعمال الفكر لنلحق بركب الدول المتقدمة، يعززه في ذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن تعامله مع المختلف، ونصحح في مناهجنا كل ما لا يتناسب مع هذا العصر من اجتهادات الفقهاء الذين عاشوا في ظروف وأحوال صعبة تختلف عنا كثيراً.
التعليم لدينا بحاجة إلى إصلاح شامل وعاجل، إصلاح بحجم التحديات التي تواجهها المملكة من الداخل والخارج، فالإرهاب والمخدرات والجريمة والبطالة وداء السمنة يمكن مكافحتها وتقليل أضرارها بتعليم يعالج أهم أسباب الوقوع في تلك الآفات ويبعث الأمل ويقلل التسرب من المدارس، تعليم أثبت أنه القطار الذي تركبه الدول للحاق بركب الأمم المتقدمة، علينا أن نركز على الأمور التالية:
أولاً- سرّ نجاح المنشأة هو قائدها، ومدير المدرسة هو القائد والموجه وهو القدوة والمؤتمن على كل ما بداخل المدرسة من طلبة وطالبات، ولهذا لا بد من إنشاء معهد تعليم بمساعدة بيت خبرة عالمي يؤسس له كما أسس لمعهد الإدارة العامة من قبل، هذا المعهد يعطي دورات للمعلمين والمعلمات الجدد والقدامى ويرشح أفضل المتقدمين ليصبحوا قادة المدارس في الحاضر والمستقبل، ويكون ضمن دوراته دورة خاصة لقادة المدارس يحاضر فيها أفضل الكفاءات من الداخل والخارج، وفي نهاية كل دورة يتم ابتعاثهم ولو مدة قصيرة ليروا مدارس نموذجية داخل المملكة وخارجها.
في كل دول العالم المتقدم لا يتم اختيار المدير أو القائد بناء على أقدميته أو رغبته فقط، لكن توجد مواصفات مطلوبة لكل مؤسسة، يقول الجنرال كولن باول الذي كان وزيراً لخارجية الولايات المتحدة الأميركية وقبلها رئيساً للأركان: في اليوم الذي غادرت فيه منصبي كمستشار للأمن القومي سلمني أحدهم خطابا مغلفا وشخصيا وقال: لا تفتحه إلا بعد عشر سنوات، وبعد أن أكملت عشر سنوات فتحته فوجدته قد كتب "نبارك لك يا رئيس الأركان" وكنت في ذلك العام قد عينت رئيساً للأركان، ما يعني أن مسار رحلتي العسكرية كان مرسوماً بناء على التقارير والملاحظات والأداء، وهو ما يجب أن يكون في كل المؤسسات المدنية والعسكرية على مستوى الدولة.
ثانياً- ضعف المخرجات تشتكي منها الجامعات والقطاعان العام والخاص ما يحتم علينا مراجعة شاملة لأسباب ضعف المخرجات رغم ما يعطى للطالب من كم هائل من المعلومات، ما يعني غياب الممارسة والتطبيق، وعدم زرع العادات المفيدة بالتكرار حتى تصبح سلوكاً يميز أبناءنا، وقد اقترحت في مقال سابق أن يركز في تعليم المرحلة الإبتدائية على المهارات الأساسية ومنها القراءة والكتابة وبناء الشخصية ومهارات التواصل بين الطلبة وبينهم وبين معلميهم، ومن أهم أهداف المدارس الحديثة مساعدة الطالب على التميز وبث روح التعاون والتركيز على تعلم مبادئ القيادة التي تؤدي إلى الثقة بالنفس وارتفاع الأداء، وأن يقدر الطالب نعمة اختلاف الناس وتباين وجهات نظرهم للأمور وأنها يجب أن تكون محل التقدير لا الكره والاضطهاد، وأن الله أوجد الاختلاف رحمة للعالمين ولو شاء الله لجعلنا أمة واحدة على طريق واحد ومذهب واحد.
ثالثاً- الإصلاح الشامل للتعليم يعني شجاعة اتخاذ القرار رغم المعارضة الشديدة التي تواجه المسؤول من داخل الوزارة وخارجها، ومنها التفكير في اختصار المرحلة الابتدائية إلى أربع سنوات وإسنادها إلى المرأة وتغيير جميع الأساليب المتخذة في الوقت الحاضر، واختصار المواد والأخذ بما ذهبت إليه الدول التي تتبوأ المراكز الأولى في جودة التعليم ومنها فنلندا التي جعلت لكل فصل أكثر من معلمة بحيث يمنح كل طالب ما يستحقه من اهتمام.
أمامنا طريق طويل، لكنه ضروري للعبور بالوطن إلى برِّ الأمان، التعليم يعني أن نزرع اليوم ما سنجنيه بعد عشر سنوات، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فهل يواكب التعليم طموح القيادة وتطلعاتها؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد