بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الله جلّ ذكره وتقدّست أسماؤه، قد سمى نفسه بأحسن الأسماء وأجلّها، وأعلاها وأكملها (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها(.
ومن جملة ذلك أنه سبحانه سمى نفسه بالكريم، ووصف نفسه سبحانه بأنه ذو الجلال والإكرام، فسبحانه ما أكرمه وما أعظم فضله على عباده.
وقد علم الله عز وجل أن بعباده إليه حاجة، وأنهم مفتقرون إليه، لا غنى لهم عنه، يريدون فضله، ويطمعون في عطائه ونواله، ويرغبون في القرب منه والزلفى لديه، ففتح لهؤلاء العباد أبواباً كثيرةً مُشرعةً ليدخلوا منها إلى فضله وإحسانه، وإلى رحمته ورضوانه.
نعم.. عَلِم الكريم أن عباده الصالحين يحبون القرب منه والزلفى لديه ففتح لهم الأبواب الموصلة إلى رحمته وبين لهم الطرق المؤدية إلى جنته.
وعدَّدها، ونوَّعها، لئلا يمل هؤلاء المحبون ويكلّوا فينقطعوا، وسَّهلها، لئلا يتثاقلوا ويتركوا فيُحرموا.
وهذا من رحمته وتيسيره لعباده، إنه هو البر الرحيم .
والناظر في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يجد هذه الطرق أكثر من أن تُحصَر، ومن رام عدّها رام أمراً عسيراً، ولكن حسبنا أن نعمل بما نعلم، وأن نتذاكر فيما بيننا فيما لا نعلم، وأن نجتهد في ذلك فمن اجتهد وجد
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّث أصحابه عن الزكاة، فسأله الصحابة عن الإبل والخيل فأخبرهم بحقها وأجرها ثم سألوه عن الحُمُر وهي الحمير فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنزل الله علي في الحُمُر شيئاً إلا هذه الآية الفاذة الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره)
وهذا الجواب تقعيدٌ مفيدٌ لمسألة عظيمة ذاتِ شُعب متكاثرة، فبيّن صلى الله عليه وسلم للسائل أن الله عز وجل، قد جعل على نفسه أن يعطي كل ذي حق حقه، فمن عمل صالحاً فسوف يراه، ومن عمل سيئاً فسوف يراه، وما ربك بظلام للعبيد.
وفضل الله واسع، وعطاؤه جزيل، فربما عمل العبد عملاً يظنه يسيراً ولكنه عند الله عظيم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما كلبٌ يُطيف بركيّة قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها "أي حذاءها" فاستقت له به فسقته فغفر الله لها).
سبحان الله، امرأةٌ زانية معروفة بالبِغاء، عملت عملاً صالحاً أخلصت لله فيه فغفر الله ذنوبها؟
سبحانه هو الغفور الرحيم ..
فما ظنكم بمن رحم مؤمناً مسكيناً ففرَّج عنه كربَهُ، أو نفَّس عن همَّهُ، أو قضى عنه دَينَه، أو أطعمه وسقاه؟
ومثل هذا ما أخرجه مسلم عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين).
وفي رواية: (مر رجلٌ بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة).
ولا عجب.. فإن ذلك الرجل وتلك المرأة لم يتعاملا مع مخلوق يعتريه الضعف والفقر والبخل، وإنما كانت معاملتهما مع خالق كريم عظيم، يحب من عباده أن يتقربوا إليه بالأعمال ولو قَلّتْ لينميَها لهم ويدخلهم بها جنات النعيم.
وسأشير في هذا المقام إلى أنواعٍ من طرق الخير، لا يجمعها بابٌ ولم يُراع في عدِّها تبويبٌ ولا ترتيب، وإنما هي أعمال صالحة تُذِكِّر بما عداها، وتدل على ما سواها، وتزيد المؤمنين إيماناً وتبعث في نفوسهم الهِمم ليرتقوا إلى أعالي القِمم، فسلعة الله غالية ..
ومَنْ طَلَبَ الحسناءَ لم يُغلِهِ المهرُ
فمن ذلك ما أدرك به الصحابيُ الجليلُ بلالُ بنُ رباح رضي الله عنه المنازلَ العاليةَ في جنات النعيم.
فقد جاء في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ سأل بلالاً فقال: يا بلالُ، حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؟
لماذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم؟
إنما سأله ليعلم الأمر الذي أوصله إلى أعالي الجنان.
قال له: (يا بلال حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعتُ دفَّ نعليك بين يدي في الجنة) فقال بلال: يا رسول الله ما عملتُ عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليتُ بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.
وفي رواية لابن خزيمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بلالاً رضي الله عنه فقال : (يا بلالُ، بمَ سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت البارحة الجنةَ فسمعت خشخشتك أمامي).
فما أسعد بلالاً إذ جاءته البشارة، لا بدخول الجنة فقط وإنما بكونه سابقاً إليها.
يا له من عملٍ عظيمٍ يورثُ صاحبه الجنة مع سهولته ويسره على من أراده.
ومن الأعمال الصالحة: ذلك العمل الذي غفل عن عظيم أجره بعض المسلمين، ألا وهو الذهاب إلى المسجد والرجوع منه، فبعض المسلمين يظن الأجر إنما يكون على الذهاب إلى المسجد، أما الرجوع من المسجد فلا أجر فيه، لكن هذا الظن خلاف الصواب.
فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجلٌ من الأنصار، لا أعلم أحد أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة فقيل له: لو اشتريتَ حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي.
فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال الرجل فقال: (قد جمع الله لك ذلك كله) أخرجه مسلم.
وربما كان العمل واجباً على العبد بمقتضى الطبع والفطرة والعادة، ومع ذلك فقد جعل الله لصاحبه أوفر الثواب وأوفاه، ولعل أقرب مثال على ذلك إنفاق الرجل على زوجه وعياله، فإنه واجب عليه لا مِنّة له فيه، ولو لم يقم به لناله الذم وربما العقاب، ومع ذلك جعل له لمن قام به محتسباً الأجرَ العظيمَ والثوابَ الكريم.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك. أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك).
فالحمد لله الذي جعل لنا في ما لابد لنا منه أجراً، ويا لخسارة أولئك الذين ينفقون أموالهم ثم لا يحتسبون أجرها وبِرَّها.
إنها دعوة لكل مسلم أن يخلص نيته ويستحضر احتساب الأجر في جميع أحواله لئلا يُحرم فضل ربه سبحانه.
ومن هذا الباب ما جهله أو غفل عنه بعض المسلمين من ثواب من أحسن إلى بُنيَّاته واحتسب في ذلك الأجر، فمن فعل ذلك كانت بنياته ستراً له من النار كما جاء في الصحيحين حديث عائشة رضي الله عنها.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) أخرجه مسلم والترمذي وفيه: (من عال جاريتين كنت أنا وهو في الجنة كهاتين).
وقد جاءت إلى عائشة رضي الله عنها مسكينة جائعة تحمل ابنتين لها، فتصدقت عليها عائشة رضي الله عنها بما كان في بيتها وهو ثلاث تمرات!
فأعطت المرأة كل واحدة من البنتين تمرة ورفعت الثالثة إلى فمها لتأكلها، ولكن البنتين الجائعتين أكلتا تلك التمرتين وطلبتا تمرة أمهما.
فرحمتهما الأم وشقت التمرة نصفين واعطت كل واحدة نصفا.
فتعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيع هذه المرأة فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنعت المرأة فقال: (إن الله قد أوجب لها الجنة) أخرجه مسلم.
فحريٌ بنا يا عباد الله أن نعمل بما نعلم، وأن نتعلّم ما لم نعلم، والله عنده أجر عظيم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين .....
أما بعد أيها المسلمون،،
فإن العبد المؤمن إذا سمع الآيات والأحاديث التي يُذكر فيها عظيمُ فضل الله وعظيمُ ما أعده للعاملين من عباده، فإن نفسه تتوق إلى العمل الصالح، وقلبه يشتاق إلى ما أعده الله لمن أحسن عملاً (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون (*) فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون).
وذلك النشاط وتلك القوة التي تنبعث عند سماع الذِكر دليلٌ على الإيمان ومحبة الرحمن، فمن صفات المؤمنين أنهم (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فبشَّرَهم الله بالخير وذكرهم بأشرف الذِكر فقال (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).
فما أسعد ذلك العبد الذي يستمع القول فإذا بك تجده أول العاملين به المشمرين إليه الثابتين عليه.
فأَجِلْ أيها المسلم المحبُّ نظرك، وتلفَّتْ يميناً وشمالاً، لترى فئاماً من عباد الله كيف يتقربون له ويتحببون إليه، فمنهم من يقوم الليل، يحرِم نفسه لذة النوم والراحة لأنه سمع قول الصادق المصدوق: (وصلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).
ومنهم من يصوم الهواجر صابراً على الجوع والعطش والتعب، لأنه سمع قول من لا ينطق عن الهوى (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
وثالثٌ لسانه رطب بالقرآن.
ورابعٌ لا يفتر من دعوة الناس إلى الخير.
وخامسٌ قد بذل جهده في تعليمهم وإفتائهم.. وهكذا في صفوة من المتعبدين، الطالبين فضل رب العالمين.
فتأمل أنت يا عبدالله حالك.
كيف حالك؟
وأين أنت من تلك الأعمال؟
وأين أنت في أولئك الرجال؟
أم أن نصيبك سماعُ أخبار الأخيار وقيام حجة الله عليك؟
أترضى أن تكون رفيق قومٍ
لهم زادٌ وأنت بغير زادِ
اللهم اهدنا صراطك، وأعِنّا على ذكرك وشكرك ومن عبادتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ،
وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد