بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أحدُ مؤذِّني جامعِ بني أميةَ الكبير بدمشق، كان مشهورًا ببرِّه لوالدَيه، وشدةِ إحسانِه لهما.
وهذه قصةٌ تكاد تكون ضربًا مِن الخيال، ولكنها حقيقة، وهي سحرٌ من جميل المقال، وإليكموها:
في يومٍ ربيعيٍّ جميلٍ مِن أيام الغوطة الشرقية، استيقظ الأبٌ باكرًا ونفسُه تتوق لأكل حلوى القطايف، التي اشتهر ولدُه أبو عليٍّ بحبِّها وبديعِ تحضيرها.
فأعدَّ الأبُ نفسَه وقرَّر الصدورَ مِن بلدة دوما إلى دمشقَ لدار ولدِه أبي علي؛ ليزورَه ويأكلَ عندَه القطايف.
وبعدَ عدَّةِ ساعاتٍ وصل الأبُ لبيت ولده بحيِّ العقيبة بدمشق، مقابلَ بقالية (دبس وزيت) المشهورة، وفاجأ ولدَه أبا عليٍّ وهو يطرق بابَه، ويقول له: (يا ابني يا أبو علي برضايي عليك حضِّر لي أكلة قطايف(.
سُرَّ الولدُ بأبيه وضاقتْ به الأرضُ حُبورًا، إلا أنه في الوقت نفسِه ضاق ذرعًا وسُقط بيدِه، لضيق الحال ذلكَ اليومِ وقلَّتِه.
ماذا يفعل؟! وكيف يُلبِّي طلبَ أبيه ورغبتِه؟!
هرع أبو عليٍّ إلى مخدعِه وعمد إلى خزانته، وأخرج منها أثمنَ ثوبٍ عندَه وأجدَّه، وهو ما يُسمى بـ: (القنباز)، مع الشال الثمين الذي يُلفُّ فوقَه حولَ الخصْر.
أخفى أبو عليٍّ الثياب، وودَّع والدَه ليُعدَّ له ما لذَّ مِن أنواعِ القطايف وطاب.
فبعضُه بالقِشْدَة والجوز، وبعضُه صغيرٌ بحجم العصفور، وبعضُه أكبرُ بحجم الستاتي، (جمع: ستيتية، يقولها أهلُ الشام على طائر القُمري).
خرج أبو عليٍّ يبحث عن بائعِ ملابسَ متجوِّلٍ، فوجد واحدًا يعرفه بحيِّ العمارة، فأعطاه الثوبَ وقال له: بعْه وألقاك في الحي بعدَ برهةٍ لآخذَ ثمنَه.
أخذ البائعُ الثوبَ والشالَ الذي يُشبه الحرير، فوضعه على ساعده وأضحى يصيح: (مَن صاحب الحظِّ السعيد، الذي سيشتري هذا الجديد).
ووالد أبي عليٍّ جالسٌ بالبيت قد أصابه الملل، فقال لأهله امكثُوا سأتجوَّل بحيِّ العُقيبة، ولعلي أُصلي بجامع التوبة.
وكان البائع ما زال يصرخ ويصيح ماشيًا مِن حي العمارة إلى العقيبة، فرآه والدُ أبي عليٍّ عندَ جامع التوبة، فاستوقفه ليرى ما معه مِن المبيع، فراع نظرَه وانتباهَه الثوبُ البديع، فقال بنفسه: والله لا يليق هذا القنباز والشال إلا بأبي عليٍّ ولدي، وسأشتريه مهما كان ثمنُه وأُعطيه ما معي.
فاشترى الثوبَ بعينه وذهب إلى البيت، ودخل غرفةَ أبي عليٍّ ووضع الثوبَ والشالَ في خزانة ولده بموضعٍ وجده فارغًا.
اجتمع أبو عليٍّ بالبائع وأخذ المال، ووفَّى به ثمنَ القطايف وذهب بها إلى الدار، وأعدَّ السفرةَ لوالده طالبًا من الله غفرانَ الأوزار.
وبعدَ انتهاءِ الطعام وسرورِ الأهل جميعا، قال الأبُ لولده: يا أبا علي اذهب إلى خزانتك وانظر الهديةَ التي أتيتك بها.
قام أبو عليٍّ وفتح الخزانةَ ونظر داخلَها فصار يبكي، والأبُ يقول متعجِّبًا: ما بالُك يا ولدي؟! لماذا لا تُسمعني صوتَك ورأيَك، أو أنَّ الثوبَ ما أعجبَك !
وأبو علي يقول: بلى بلى سررتُ يا أبتي، ولكنني مِن شدة السعادة والفرح بالثوب أبكي ...
نعم يا إخوتي القراء، هذه القصةُ سمعتُها مِن ابنِ أخِ أبي علي، وهو ما زال على قيد الحياة حفظه الله، وأكرمنا وإياكم ببرِّ الوالدَين بتوفيق الله.
عرفتْ زوجةُ أبي عليٍّ بما جرى، فقال لها: حذارِ أنْ تُخبري والدي بالقصة؛ وذلك رعايةً لمشاعره، كي لا يضيقَ صدرُه ويحسبَ أنه أثقل على ولده !
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد