بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كنت أعرف منذ طفولتي أن النجم القطبي سيدلك على الشمال. كم كنت أحب النظر إلى السماء في ليالي ليبيا الصيفية المظلمة حيث لا سحاب ولا ضوء قمر ولا إضاءة اصطناعية تحجب رؤية ملايين النجوم الرائعة.
كنت أتأملها مستلقيًا على شاطئ البحر بجوار خيمتنا التي نصبها والدي، وكنت أعد كم من شهاب سقط تلك الليلة على صوت أمواج البحر المتوسط في شاطئ القره بولي.
وكأنك في الجنة، لولا خوفي من السرطانات التي تنشط ليلًا، فلا شيء كامل في هذه الدنيا.
ولكن قدر الله سبحانه وتعالى فراقي للأهل والأحباب، واستقراري في المعيش في روسيا، وقد قضيت آخر عشرين عامًا من حياتي في أقصى شمال روسيا، بل قل الكرة الأرضية. نعم، برد وصقيع وشتاء مثلج طويل وصيف ممطر قصير ونهار يكاد ينعدم شتاءً ولا تغرب شمسه صيفًا.
سبحان ربي! - هذا ما كنت أكرره دائمًا طول هذه السنوات. فرغم قساوة المناخ والطبيعة، إلا أن الشمال الإسكندنافي غاية في الروعة، يسحرك جماله، كل شيء فيه مدهش وفريد.
كنت أسافر بين مدينتي مورمانسك وبيتروزافودسك، وهما عاصمتي إقليمين شماليين، والمسافة بينهما ألف كيلومتر. كنت أقطعها بسيارتي وكثيرًا من الأوقات شتاءً.
فرغم خطورة الطريق المغطى بالجليد وهبوب العواصف الثلجية، بالإضافة إلى أنه موحش، فقلما تلتقي بسيارة واحدة كل ساعة أو ساعتين.
ولكن، كم بقيت لي ذكريات من هذه الطريق! فشتاءً أسافر ليلا، فالنهار لا يطول أكثر من سويعات قليلة، وأحيانًا أقل من ساعة.
وكنت أستغرق 15 ساعة في الطريق، أتوقف فيها أحيانًا لأنظر إلى السماء وأتذكر طفولتي. فالنجوم تتلألأ بروعة، الفرق فقط أن درجة الحرارة أقل من عشرين تحت الصفر. ونجمة الشمال التي يجب أن تدل على جهتها هنا هي في قلب السماء. ولكن، ما العجب؟ وكأنها تقول: "عن أي شمال تبحث وأنت فيه؟"
رأيت عدة مرات ظاهرة الشفق القطبي، رغم أن كثيرًا من سكان المنطقة اعترفوا لي أنهم لم يروها قط.
كيف أصفها؟ فعلاً، شيء عظيم، وكأن أعلامًا خضراء عظيمة ترفرف في السماء، وأحيانًا تكون لها ألوان مختلفة تخلب البصر.
وصيفًا، تلك الجبال والتلال والغابات والأنهار والبحيرات والشلالات التي تعد بالآلاف، وغزلان الرنة والوعول القطبية والثعالب وغيرها من الحيوانات والطيور التي تخرج أحيانًا إلى الطريق، فنتفرج عليها وتتفرج علينا.
تجولنا في الغابات لجمع الفطر وثمار الغابات ذات الألوان والطعم المختلف، ونهرب من الدببة إذا سمعت باقترابها منك.
وكأنك تعيش قصة خيالية من تلك القصص التي كانت تحكى لنا في الطفولة حيث البيت الخشبي في الغابة.
رغم قساوة الغربة والبعد عن الأقرباء، إلا أنني أشكر الله تعالى أن وهبني فرصة السياحة في أرضه والتمتع بخلقهِ الذي لا يضاهى! ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد