بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دعا رائد الدرس اللُّغوي في القرن السابع الإمام محمد ابن مالك (ت672ه) في كتابه «التسهيل» المتأخرين إلى تحصيل الثقة بأنفسهم في تحرير مسائل العلم وتطوير أفكاره، وذكرهم بأن مواهب العلم ليست حكرًا على أحد: «وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف، ويصدُّ عن جميل الأوصاف» فالاتكاء على قرائح المتقدمين بأنهم باتوا لا يخفى عليهم شيء من دقائق العلم ونقطه، تحجير لفضل الله على عباده.
كانت شجاعة الأولين وانطلاقهم في البناء والتركيب المعرفي لأنهم لم يسبقوا بما يوثق أفكارهم وأقلامهم، أما ركود المتأخرين وخوفهم من مسالك النقد والتحرير فهو نتيجة سلوكية لما استقر في نفوسهم من «المتابعة أبدا» وهي حالة نفسية رصدها نتائجها ابن عاشور(ت:1393) ورآها عاملا أساسيا في تكبيل أفكار المتأخرين.
لم يدر في خلد المتقدمين حين أسلموا قلم العلم لزملائهم وتلاميذهم المتأخرين أن يحنطوا تلك الأقلام تسليما واكتفاء بما سطره الأوائل، بل كان أملهم أن يكمل الركب المسير مجددا مسالك العلم مذللا وعورة ما واجهوه من كدر المعارف وإغلاقها، وقد قال الأخفش سعيد بن مسعدة(ت:215) حين أقرأ الناس كتاب أستاذه سيبويه(ت:180) «مات سيبويه وهو أعلم مني بالكتاب وأنا أموت اليوم وأنا أعلم منه بالكتاب» عقل يتلقى الكمَّ المعرفي ممن سبقه ويطور وينقح ويجلو الصدى ويمهد الطريق.
وكان ابن عاشور(ت:1393) يرقب هذه القضية وهو يشاهد ركائب الطلاب المقبلين على جامع الزيتونة في القرن الماضي ينهلون العلم ويستظهرون متونه غير أن خمولهم في النقد والتطوير قد خيم على منهاجية التلقي وأحكم التقليد بنات أفكارهم فسجل في كتابه «أليس الصبح بقريب» ص (287) ما يجب أن يكون عليه التلاميذ: «فإني أعلم عظمتهم وجلالتهم، ولكني لا أعتقد فيهم العصمة أبدًا، يقرأون كما نقرأ، ويفهمون كما نفهم، وأنا من الجانب الذي أجلهم به وأنظر إليهم منه نظر المبهوت؛ ذلك لأنهم هم الذين فنّنوا العلوم، وقعدوا القواعد، وأتوا في الزمن الوجيز، بالمطلب العزيز، بفضل إقبالهم على العلم، وانقطاعهم عن زخارف الدنيا، ونصحهم لمن بعدهم، من ذلك الجانب نفسه أقول إنهم غرسوا لننمي، وأسسوا لنشيد، وابتدأوا لنزيد»، ورأى «أن نعمِدَ إلى ما أشاده الأقدمون فنهذِّبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده» (1/7).
وشرط أعمال النقد والتطوير أن يكون صاحبه مؤهلا للتعقيب، دقيقا في الفحص والتنقيب، ملما بتلابيب العلم مدركا للقواعد الناظمة والمآلات الحاكمة والاعتراضات المتزاحمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين