بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحاجة إلى الهداية - عبدالله بن سعيد الشهري
“إنسان اليوم في حالة فرار من التفكير”. (مارتن هايدغر)[1]
“لا أستطيع أن أتصالح مع الحياة إن لم يكن هناك هدف في حياتي”. (سيمون دو بوفوار)[2]
“العلم قصة بلا نهاية تتصف بمنتهى الإثارة. لكن ومع الأسف، فنحن بني الإنسان محدودون بالزمن، ونحتاج إلى إجابات حاسمة لأسئلتنا”. (برونو جيديردوني)([3])
يجهد كل واحد منا لأن يجعل من حياته قصة ذات مغزى، والوقود الأول لهذا السعي هو الفزع من أن تكون حياتنا بلا قصة، أو أن تكون قصة بلا معنى. إن استعارة القصة استعارة جبارة لمقاربة طبيعة سعي الإنسان في هذه الحياة، بل ليس من قبيل المبالغة أنها أمثل استعارة تفي بهذا الغرض. في تقديمه لكتابه القيم: القصص التي نحيا بها The Stories we Live by، يقول دان بي مكأدامز، عالم النفس الفذ، وأحد أهم مطوري علم نفس الشخصية: “إن أردتَ أن تعرفني، فعليك أن تعرف قصتي، فإن قصتي هي التي تحدد من أكون. وإذا أردتُ أن أعرف نفسي، وأن أتبصّر معنى حياتي، فسيتعين عليّ أيضًا أن أتعرف إلى قصتي الخاصة”[4]. ولكي نقدّر قيمة هذه النقطة، لنتأمل حالة الإنسان العدمي كما يصفها نيتشه، وذلك باعتبارها النموذج الأقصى لقصة بلا معنى. “العدمي”، يقول نيتشه، “هو من يحكُم للعالم كما هو بما كان ينبغي، ويحكم على العالم الذي قد كان ينبغي بأنه معدوم. إن وجودنا (أفعالنا، معاناتنا، إراداتنا، مشاعرنا) وفقًا لهذه النظرة بلا معنى: إن مرثية العبث هي مرثية العدمي”[5].
“حين يؤخذ كل شيء في الحسبان”، يقول المؤرخ الحربي الروسي كارل فون كلاوزفيتز في واحد من أشهر نصوصه تداولاً، “ليس هناك شيء في الحياة أهم من العثور على المنظور الصحيح الذي ينبغي أن تُشَاهَد الأشياء من خلاله ويُحكم عليها منه، ثم الثبات على ذلك المنظور”[6]. “إن الملاحظات المستمرة في ممارسة علم النفس الإكلينيكي”، يقول ويليام شيلدون، “أعطتنا نتيجة أن هناك ما هو أعمق وأكثر جوهرية من الجنس، وما هو أعمق من التطلُّع إلى القوة الاجتماعية، وما هو أعمق من رغبة الامتلاك. ما زال هناك تطلُّعٌ كلي عام في بنية الإنسان، ألا وهو التطلُّع إلى معرفة الوجهة الصحيحة”[7].
إن من أكثر الحقائق إثارة للانتباه بشأن بني البشر هي قدرتهم على تدبر عالمهم الداخلي، واستعمال لبنات التجارب الماضية التي يقومون باسترجاع دروسها لبناء ذواتهم المستقبلية. إننا بلا شك نملك قدرات لا تضاهى مقارنة بباقي الكائنات المعروفة حتى يومنا هذا، غير أن واحدة من أهم الحقائق عن بني البشر تتمثل في أن إحراز أعلى مستويات الثروة والصحة والحكمة لا يضمن لهم أبدًا الاستقلال المطلق. جميعنا نعلم أن الثروة ستتلاشى مع الوقت، والصحة ستتآكل مع تدهور حال الإنسان، والحكمة ستنحسر مبتعدة مع حلول الهرم والشيخوخة. إن ذلك يكفي بكل تأكيد لإثبات ضعفنا الفطري. إننا نحتاج أن نفقد شيئًا حتى نحصل على شيء آخر بدلًا منه. أحد التأملات الفلسفية المستبصرة في الصفات العاجزة والزائلة للطبيعة الإنسانية يقدمها نجم الدين الطوفي، عالم إسلامي من القرن الرابع عشر، حيث كتب يقول:
“…المخلوق كالإنسان لا يخلق شيئًا لا أفعاله ولا غيرها؛ لأنه قد تقرر أن العلم بالشيء من لوازم خلقه، فلو خلق الإنسان فعله مثلًا لعلمه جملة وتفصيلًا، كمًا وكيفًا وغاية، لكن اللازم باطل؛ إذ نرى الإنسان يتكلم كلامًا لا يعلم عدد حروفه ولا كلماته ولا خواص تركيبه ومعانيه، ويمشي مشيًا لا يعلم عدد خطواته ولا ما تنتهي إليه غايته”([8]).
ومن بين القيود القاتلة الأخرى ذاتيتنا وفخرنا غير المبرر، واللذان لا يبقي عليهما لهاثنا خلف الضروريات المجردة فحسب، وإنما سعينا أيضًا وراء الرفاهيات الزائدة والحاجات الثانوية[9]. بل إن المسألة في نظر ميشيل مونتين أسوأ من ذلك بكثير:
“إن الزهو مرضنا الطبيعي الأصلي، وإن أضعف المخلوقات وأكثرها تعرضًا للأرزاء هو الإنسان؛ ومع ذلك هو أكثرها شموخًا وكبرياًء. يرى نفسه غارقًا في الأوحال، ومع ذلك تتسامى به مخيلته فتحله فوق الثريا وتجعل السماء تحت أقدامه”[10].
تتطلب رحلتنا صوب الحقيقة التخفف لأقصى حد من ذاتيتنا الضئيلة، والانتباه إلى المشهد الأعظم للوجود. لتشاهد الغابة أولًا توقف بعيدًا عن آحاد الأشجار، ثم اقصدها بعد ذلك وقم بالاستكشاف. “إن مشكلة البشر الأساسية”، كما لاحظ ولسون، “هي ميلهم إلى الانحباس في التفاهات اليومية للحياة، في العالم الخانق لمشاغلهم الشخصية، وهم ينسون في كل مرة يفعلون هذا العالم الأعظم للدلالة الأوسع التي تحيط بهم”[11]. بمجرد أن ننتبه للمشهد الأكبر ويجذبنا إحساس للبحث عن معنى الحياة، فإننا – سواء أحببنا ذلك أم لا – ندخل إلى المنطقة الإدارية لمملكة أخرى تسمى ’الدين‘،[12] وهذا مؤيد، كما يقول محمد دراز، بـ “الحقيقة التي أجمع عليها مؤرخو الأديان” وهي أنه ما من:
“جماعة إِنسانية، بل أمة كبيرة، ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكر في مبدأ الإِنسان ومصيره، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه، ودون أن تتخذ لها في هذه المسائل رأيًا معينًا، حقًا أو باطلًا، يقينًا أو ظنًا، تصور به القوة التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها، والمآل الذي تصير إِليه الكائنات بعد تحوُّلها”[13].
عند بلوغ هذه الذروة، الدين الحق – والحق فقط – هو الذي يملك القدرة على استنقاذ البشرية من مستقبل مشؤوم. بيد أن ثمة مشكلة تحتاج إلى حل: إن كان الدين قد تعرض للتشويه، وإن كان العلم لا يستطيع التخلص من الخطأ التجريبي وقابلية الإنسان للانحراف، فكيف نعثر على الحقيقة؟ قبل أن ننطلق في بحثنا عن الحقيقة، نحتاج إلى معرفة الطريق الذي ينبغي أن نسلكه، فإن طرق الحياة كثيرة، وكل واحد منها قد يقود إلى حقيقة ما؛ بعضها قد يمتد بلا نهاية إلى الأمام، أو يتوقف على شفا وادٍ عميق مظلم يسمى اللّامكان. إن إحدى أكبر المعضلات الوجودية، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق، هي تعدد الطرق والخيارات مع علمنا بأنه ليس أمامنا إلا العيش في هذه الحياة لمرة واحدة فقط. عندما التقت أليس بقطة شيشاير، في قصة مغامرات ‘أليس في بلاد العجائب’، القصة الخيالية الشهيرة التي كتبها لويس كارول، سألتها: هل يمكن أن تخبريني أي طريق ينبغي أن أسلك من هنا؟‘؛ فأجابت القطة: ’إن هذا يعتمد بشكل كبير على المكان الذي تريدين أن تذهبي إليه؟‘؛ فأجابت أليس: ’إن ذلك لا يهمني كثيرًا….‘؛ فقالت القطة: ’إذن لا يهم أي طريق تسلكين‘. يُبرز هذا الجزء من القصة أهمية تحديد الاتجاه في الحياة، ويعتمد ذلك بشكل كبير على مدى كوننا، كبشر، ندرك كأفراد وجماعات حاجاتنا الفورية واختياراتنا على المدى الطويل. كتب شوماخر منبهًا على أهمية الوجهة وخطورة البدايات: “إذا انطلق المرء من بداية خاطئة أو سطحية، فقد يستخدم في المراحل اللاحقة من التقصّي أكثر الطرق دقة ولكنها لن تُصلح الوضع أبدًا”[14].
لأجل أن تكون حقيقة ما مطلقة، ينبغي أن تكون متاحة من حيث المبدأ للجميع، لا أن تكون مقصورة بطبيعتها على فئة خاصة أبدًا. لذلك، إن كنا نعني بالحقيقة المرتبة الأساسية والفكرة النهائية التي يحتاج إليها البشر جميعًا، فلا بد أن تكون متيسرة وجلية ومتاحة لمدارك البشر كافة[15].
سيحتوي كل دين على وجه من أوجه الحقيقة، لكنها مهمة الباحث النزيه، كما كانت دائمًا، أن يجد طريقة الحياة التي تؤلف من هذه العناصر كلًّا كاملًا متناسقًا وموجهًا. إن شيئًا من هذا القبيل هو وحده الذي يملك القوة لاجتذاب قلوب الملايين من الناس من مختلف الفئات والمشارب والأعراق والأمم. إن دينًا بهذه الميزة الجاذبة هو وحده المهيأ لأن يصبح أسرع الأديان انتشارًا في العالم. وحين يتعلق الأمر بهذا المقياس، فإن دينًا واحدًا فقط يبرز للعيان: الإسلام. “إن صعود الإسلام على المسرح العالمي قد أثار أسئلة أساسية حول تهميش الدين في الغرب”([16])، كتب نيل أورميرود، بروفيسور الإلهيات ومدير معهد الإلهيات والفلسفة والتعليم الديني بالجامعة الكاثوليكية الأسترالية. ما الميزة التي تجعل الإسلام كذلك؟ والتي جذبت أفواجًا عديدة من الناس لاعتناقه منذ أحداث 11 سبتمبر؟([17])؟ ما الذي يتفرد به ليحمل الناس على “الانضمام لمجتمع مغاير ومنافر للمجتمع الغربي الأكبر الذي ينتمون إليه؟”([18])؟
إن ما نشهده الآن له خلفية تاريخية. ضمن كوكبة من الباحثين والكتَّاب، توقع ويليام مونتجومري، المؤرخ المعروف للتاريخين العربي والإسلامي أن “الإسلام بالتأكيد منافس قوي على موقع الصدارة في تقديم إطار العمل الأساسي لدين المستقبل الأوحد”([19])، مكذبًا زعم صامويل زويمر في 1916م بأن “الإسلام دين آخذ في الفناء” وأنه “ومنذ البداية قد كان يحمل بداخله جراثيم الموت” وأنه “لا صفات القرآن ولا صفات نبي القرآن تحمل في طياتها الوعد أو القوة لحياة باقية”([20]).
ويذهب بول ششوارزيناو (1923-2006م) ، أحد أبرز المفكرين اللاهوتيين الألمان، إلى تصور حقبة ‘ما وراء مسيحية’ يسود فيها ‘دين عالمي’، مناشدًا العالم بأنه “قد أزف الوقت للبشرية لتتلمَّس طريق العودة إلى الدين الأول للإله الواحد والوحيد”[21]. وبالإضافة لاعتقاده أن القرآن وثيقة مؤتمنة على سيرة عيسى عليه السلام ومكانته ودوره، يتوقع أيضًا أن رسالة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام سوف تتبلور في نهاية الزمان في دين واحد: الإسلام؛ وبعبارته: “في نهاية الزمان، سوف نجد أنفسنا جميعًا أمام إسلام يعُم الكوكب”[22]. إن توقع ششوارزيناو مطابق لإخبار القرآن عن سيادة الإسلام، رغم كل التضحيات والعقبات التي ستعترض سبيله، مؤيدًا من الله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، ونبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر”[23].
في كتابه الأكثر رواجًا: ‘صدام الحضارات’، قدَّر صموئيل هنتينجتون أنه وبحلول 2025م، سيكون الإسلام “دين قرابة 30 بالمائة من سكان العالم”، كما توقع أن “نسبة المسلمين في العالم سوف تستمر في الازدياد بشكل دراماتيكي”[24]. يكتب دي نيكولاس كريستوف في صحيفة النيويورك تايمز: “يبدو الإسلام، بحساب النسب المئوية، أسرع الديانات الكبرى نموًا في العالم اليوم”[25]. وفي تقرير نشرته التيليغراف: “الإسلام هو الدين الأسرع نموًا في العالم”[26]. وفي التايمز: “المسلمون هم القسم الأسرع نموًا من بين سكان أوروبا”[27]. وفي تقرير حديث نشرته وكالة أنباء سبوتنيك نيوز في نوفمبر 2018م، أجرت الباحثة في علم الأعراق البشرية، ميري توفينن، من جامعة يوفاسكولا جامعة في مدينة يوفاسكولا الفنلندية، دراسة دينية اجتماعية كشفت عن تحول متزايد للعديد من النساء الفنلنديات إلى الإسلام بحثًا عن الإشباع الروحي. (عنوان التقرير: ‘نساء فنلنديات يعتنقن الإسلام طلبًا للروحانية’). كما رصد التقرير أيضًا أن “منظر النساء الفنلنديات المرتديات للحجاب في الأماكن العامة أصبح مألوفًا”، وأن هذا عائد في المقام الأهم إلى “اعتناق النساء الفنلنديات للإسلام بمحض اختيارهن”. وتعتقد الباحثة ميري توفينن أن هذه الظاهرة “مطّردة بالتوازي مع النزعة العالمية لنمو الإسلام في الغرب في الوقت الذي تنكمش فيه ديانات أخرى أو تثبت عند حد معين”[28].
مجددًا: ما قوة الجذب التي اختص بها الإسلام، رغم كونه أكثر دين متهم بالتخريب والإرهاب، حتى يعتنقه هذا الطيف المتنوع من البشر؟ حقًا، إنه لمن دواعي العجب أن تصبح التهم الموجهة إليه سببًا من أسباب التفات الناس إليه ثم اعتناقهم له؛ وقد لاحظ عدد من المحللين بعد واقعة الحادي عشر من سبتمبر بثلاثة أعوام أن الإسلام لم ينحسر كما كان متوقعًا، وإنما أدت ’الحملة ضد الإرهاب‘ إلى مضاعفة عدد المتحولين إليه[29]، مما يؤكد أن المسألة تتخطى الانطباعات الشكلية إلى سمات إسلامية بنيوية. لا يمكن تفسير هذا في ضوء اعتبارات ظاهرية للإسلام، مهما كان تأثيرها ونوعها، لأنها ببساطة لن تصمد صمود التهم الموجهة إليه. لا بد أن نبحث في مكان آخر، لابد أن يكون متعلقًا بشيء بنيوي في جوهر الدين الإسلامي؛ فما عساه أن يكون؟ وكيف؟
قبل المواصلة، هناك فكرة خاطئة عن معنى الإسلام لا بد أن يقضى عليها في مهدها. لا بد من التأكيد على أن الإٍسلام لم يكن في يوم من الأيام دينًا بالمفهوم التقليدي الشائع للدين. إن كلمة ’دين‘ في العديد من الأعراف الغربية والشرقية لا تتقاصر دون تعريف الإسلام فحسب، وإنما تختزل حقيقته أيضًا إلى مستوى لا يعرفه المسلم الحقيقي. إن الحديث عن الإسلام حديث عن طريقة حياة كاملة، عن نظام فكري واجتماعي وأخلاقي وفقهي وقضائي واقتصادي وسياسي وتنظيمي شامل. وبكلمات علي عزة بيغوفيتش، وتحت فقرة بعنوان ’ليس الإسلام مجرد دين‘:
“يمثل الإسلام في تاريخ تطور الأديان نقطة تحول لا جدال فيها، فهو يختلف عن غيره من الأديان والمذاهب والفلسفات جميعًا؛ لقد جاء الإسلام بمدخل يعكس فلسفة جديدة كل الجدة. تتطلب هذه الفلسفة من الإنسان أن يحيا – في وقت واحد – حياته الجوانية والبرانية، الحياة الأخلاقية والحياة الاجتماعية، الحياة الروحية والمادية معًا؛ وبدقة أكثر تقتضي هذه الفلسفة من الإنسان أن يتقبل بوعي كامل وإرادة كاملة جميع جوانب هذه الحياة باعتبار أنها تحقق إنسانيته، وتؤكد المعنى الحقيقي لحياته في هذه الدنيا”[30].
ليس الإسلام أمرًا شخصيًا، أو كيانًا قابلًا للعزل، أو مجرد أثقال من الشعائر والطقوس المقدسة. إنه نظام شامل يقصد الاحتياجات البشرية الأساسية على مستويين من الوجود، الدنيوي وغير الدنيوي. هذا ما أرجو أن يجده القارئ ظاهرًا بجلاء على مدار ما تبقى من هذا الكتاب.
يشارك القسم الأكبر من هذا الكتاب في محاولة للقضاء على الفوضى التي حاقت بحياة الإنسان حين فقد معنى سعيه في هذا العالم. الإنسان في النهاية، كما أوضح فيثرستون، لا يمكن أن “يتوفر على شخصية أو سمة مميزة” إلا “حين يحقق درجة عالية من الاتساق في سعيه، وحين يسعى في الواقع إلى أن يضفي شكلاً ما على حياته بالبحث عن غاية أعظم بدلاً من ترك حياته تنجرف وراء نزواته”[31]. ورغم تأكيد فيثرستون على قيد “الاتساق” بصفته مطلبًا للحقيقة من منظور بشري، إلا أن بول فييرابند، فيلسوف العلم المعروف بأطروحاته المثيرة للجدل، يمثل طائفة من المشككين في أهمية هذا القيد. كان سيغدو استشكال فييرابند مقبولاً لو لم يكن القيد المذكور، كما قرر أوغورمان O’Gorman، هو “أحد الاعتقادات الراسخة في الحس المشترك والتي تقوم على الحدس القائل بأن أي تفسير غير مترابط أو متسق يفشل في التفسير”[32]. هكذا كانت ومازالت طبيعة السعي البشري للعثور على معنى ذي مغزى، إذ لا يمكن للحقيقة أن تكون مجردة عن ملامح تميزها، ولا يمكن لملامحها أن تكون مميزة إلا بقدر أساسي من الاتساق؛ ذلك الاتساق الذي يقتضي “حقائق بعضها منسوج ببعض” بحيث أن “نزع إحداها عن الأخرى سيخلّف أطرافًا مثلومة”، وفجوات لا يمكن ترقيعها “إلا إذ وقع العبث بالحقائق المجاورة أيضًا”[33].
* * * * * * *
مع ذلك هناك اعتراض بأن الإلحاد، بصفته أسوأ نقيض متصور للإسلام، يتمتع هو الآخر بدرجة من الاتساق لولاها لما كان خيارًا مشروعًا للعديد من الناس. لكنه اعتراض مضلل؛ إذ ليس كل اتساق داخلي لنظام ما دليل على صواب نتائجه عقلانيًا أو حسنها أخلاقيًا. غاية ما هنالك أنه دليل على خلوه من بعض التناقضات التي من شأنها أن تؤخر نتائجه المرغوبة أو تُعدمها. من هنا ينشأ غلط مناصري الإلحاد حين يرون أن اتساق نظامه الداخلي – فيما يبدو – دليل على صوابه أخلاقياً وقيمياً. غني عن القول أن هذا غير صحيح، ولا يزيد في أحسن الأحوال عن كون النظام قد طوع نفسه لغرض حامليه حتى أخذ هذه الصورة أو تلك. هنا تكمن أهمية الاتساق الخارجي كمعيار مكمّل للاتساق الداخلي، وحين يتعلق الحكم بهذا المعيار فإن الإسلام يتفوق تفوقًا هائلاً لا على الرؤية الإلحادية واللادينية فحسب، وإنما على كل نظام منافس يتوخى الشمول المتكامل.
رغم تباين السياقات في النقاش التالي، إلا أنني سأستعين في توضيح هذه الفكرة بمقاربة توظف الاعتبارات التي اقترحها كل من ألفرد نورث وايتهيد لطبيعة الدين العقلاني الفعّال وجورج مونبيوت لطبيعة النظام السياسي والأخلاقي الناجع؛ آملاً أن تنجح هذه المقاربة في بيان فرادة الإسلام باعتباره رؤية كونية worldview ونموذج عمل أو ممارسة praxis.
نبدأ بوايتهيد والذي يصف الدين العقلاني بأنه دين:
“أعيد تنظيم معتقداته وشعائره ليصبح العنصر المركزي في ترتيب متناسق للحياة – ترتيب من شأنه أن يكون متسقًا في علاقته ببيان الفكر، وفي علاقته بتوجيه التصرف إلى غاية موحدة تفرض إقراراً للأخلاق”[34].
فالدين العقلاني لابد أن يكون موضوعًا لافتراض جوهري هو النظر للحياة ككل متسق يتيح للفكر فهمه والتعبير عنه، ويؤدي إلى قيادة أنشطتنا بـ “غاية موحّدة” تحتّم بُعدًا أخلاقيًا فيها. بعد وايتهيد بنحو 90 عام، وفي سياق أكبر لمشكلات أكثر تعقيدًا، يقترح مونبيوت اعتبارات مهمة من أجل النهوض بنظام سياسي أخلاقي قادر، كما يؤمِّل، على ‘تفسير المعمعة’ الراهنة للإنسان ورسم ‘سبيل للخروج منها’. “إن السردية التي ننشئها مستنيرة بقيمنا ومبادئنا”[35]، يقول مونبيوت، “لا بد أن تكون بسيطة ومفهومة”، ولكي تحدث الأثر المطلوب فإنه ينبغي “أن تلائم أكبر عدد ممكن من الناس”، كما يجب أن “تتجاوب مع الحاجات والرغبات العميقة” و “أن تفسر المعمعة التي نحن فيها، والسبيل الممكنة للخروج منها”، كما يجب أولاً وقبل كل شيء “أن تكون متجذرة بقوة في الحقيقة”[36].
في ضوء هذه المقاربة المركبة، أرجو أن أتمكن فيما يأتي من إعانة القراء على تقدير طبيعة الحلول التي يدّخرها الإسلام للبشرية كدين عقلاني منقطع النظير ونظام سياسي أخلاقي من نوع فريد.
أصل هذا المقال هو المبحث الأول من ’الفصل الثاني‘ من كتاب « المخرج الوحيد: ملحمة الخلاص بين قلق السعي ومدد الوحي »، والصادر حديثًا عن مركز تكوين، 2020م.
[1] Heidegger, M. (1966) Discourse on Thinking, Harper & Row, p. 45
[2] سيمون دو بوفوار وجان بول وسارتر وجهاً لوجه، هازل رولي، ترجمة/محمد حنانا، دار المدى، ص٧٠.
([3])Guiderdoni, B. (2001) Reading God’s Signs. In Faith in Science: Scientists search for truth, Edited by W. Mark Richardson and Gordy Slack, Routledge, London and New York, p.73.
[4] McAdams, D. (1993) The Stories We Live By: Personal Myths and the Making of the Self, Guilford Press, p. 11.
[5] Nietzsche, F. (1968) The Will to Power. A new translation by Walter Kaufmann and R. J. Hollingdale. Edited with commentary, by Walter Kaufmann, Vintage Books, p. 318.
[6] Clausewitz, Carl von (2007) On War. Translated by Michael Howard and Peter Paret. Oxford University Press, p. 254.
[7] Eaton, C. (1985) Islam and the Destiny of Man, p. 199
يلاحظ أمرٌ مهم في ملاحظة شيلدون، وهو خطأ فرويد في إرجاع مجمل الدوافع السلوكية للإنسان إلى المخزون الجنسي، وخطأ إميل دوركايم في تضخيم مركزية العامل الاجتماعي على حساب العامل الوجودي الأعمق والأهم للإنسان، والمتمثل في قضية المعنى.
([8]) الإشارات الإلهية، نجم الدين الطوفي، دار الفاروق، 2002م، ج 3، ص 360.
[9] لاحظ آدم سميث، كما لاحظ غيره على نحو صحيح، أن الإنسان منخرط باستمرار ومع مرور الوقت في عملية تحويل ضرورات العيش إلى كماليات. يقول سميث: “أصبح صيد الحيوانات البرية والبحرية، والذي كان أهم الوظائف البشرية في المرحلة البدائية للمجتمع، في أكثر أحواله المتقدمة واحدًا من أمتع الممارسات المسلية، فهم يطلبون من أجل المتعة ما كانوا يطلبونه من أجل الضرورة. ومن ثمة ففي المرحلة المتقدمة للمجتمع، الفقراء المعدمون هم فقط من يطلب من المهن ما يطلبه غيرهم من أجل التسلية”.
انظر: Smith, A. (2007) An Inquiry into The Nature and Causes of The Wealth of Nations Harriman House, p. 66.
[10] تيارات الفكر الفلسفي من القرون الوسطى حتى العصر الحديث، أندريه كريسون، ترجمة: نهاد رضا، منشورات بحر المتوسط ومنشورات عويدات، 1982م، ص31.
[11] Wilson, C. (1971) The Occult: A History, Random House, p. 21
[12] يقول هيجل: “إننا متى تفلسفنا عن الدين، فإننا ننخرط في التفكير الديني”. انظر: Hegel, G. W. (1988) Lectures on The Philosophy of Religion: The Lectures of 1827, One-Volume Edition, University of California Press, p. 105.
[13] بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، محمد دراز، ص38.
[14] Schumacher, E. (1977) A Guide for the Perplexed, Vintage, p. 16
[15] راودت بول ديفيز فكرة مشابهة ولكن في سياق تأملاته في الكونيات. يؤكد ديفيز أنه: “عاجلاً أم آجلاً سوف نتقبل جميعًا شيئًا ما على أنه مُعطى نهائي، سواء كان الله، أو المنطق، أو مجموعة من القوانين، أو أي أساس آخر للوجود”. Davies, p.(1993) Physics and the Mind of God, Penguin, p. 15
([16])Ormerod, Neil (2007) In Defense of Natural Theology: Bringing God into the Public Realm, Irish Theological Quarterly; 72; 227.
([17]) صرح بعض المحللين بأن “الحملة ضد الإرهاب” قد أدت إلى زيادة عدد المتحولين إلى الإسلام (انظر: صحيفة النيو يورك تايمز، 19 يوليو 2004م).
([18])Lang, J. (1997) Even Angles Ask, p. 137
([19]) Islam and Christianity Today، لندن، 1983م، ص 11.
([20]) The Disintegration of Islam, 1916, New York, p. 7
[21] انظر: Hofmann, M. (2001) Religion on the Rise, p. 149.
[22] المصدر السابق، ص149.
[23] مسند أحمد، ط. الرسالة، رقم 1695. قال محققو المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[24] Samuel, H. (2003) The Clash of Civilizations, New York, p. 65-66.
[25] بتاريخ 15 أكتوبر 2006م.
[26] بتاريخ 25 ديسمبر 2005م.
[27] بتاريخ 18 أكتوبر 2003م.
[28]‘Finnish Women Convert to Islam in Search of Spirituality, Logic’ – Researcher. Monday, 21/11/2018.
< https://sptnkne.ws/kc8q > ؛ الدخول إليه في 22/12/2018م.
[29] نيو يورك تايمز، 19 يوليو 2004م.
[30] الإعلان الإسلامي، علي عزة بيغوفيتش، ترجمة/ محمد عدس، 2009م، ص93.
[31] Featherstone, M. (2000) Undoing Culture: Globalization, Postmodernism and Identity, Sage Publications, p. 60
[32] مقتبس في: ثلاث محاورات في المعرفة، بول فييرابند، ترجمة/ د. محمد السيد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2017م، ص23.
[33] Glover, J. (2001) Humanity: A Moral History of the Twentieth Century,Yale University Press, p. 280
[34] Whitehead, A. (1927) Religion in The Making: Lowell Lectures, 1926. Cambridge University Press, p. 20
[35] نعم السياق أجنبي، إلا أنها محاولة تشخيصية لا أكثر للمشكلات التي يسعى الإنسان الحديث إلى مقارعتها لوحده، تمهيدًا لبيان دور الإسلام الجذري في إزاحة عبء الحلول الفاشلة عن عاتقه.
[36] Monbiot, G. (2017) Out of the Wreckage: A New Politics for an Age of Crisis. Verso, p. 13
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد