بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
روى البخاري ومسلم عن عَائِشَةُ رضي الله عنها: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)
** قوله: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فَرَخَّصَ فِيهِ) الظاهر أن الشيء المرخص فيه ما رواه أَنَسًا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِهَا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ الآخَرُ: إِنِّى أَصُومُ الدَّهْرَ فَلاَ أُفْطِرُ وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ وَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّي) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ
وقد يكون المرخص فيه ما روته عائشة -رضي الله عنها- عند مسلم من غسل الجنابة بعد طلوع الفجر في رمضان. (فرخص) أي للناس (فيه) أي في ذلك الصنع أو من أجله (فتنزه) أي تباعد وتحرز (عنه) أي عن ذلك الصنع (قوم فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-) أي تنزههم (فخطب فحمد الله ثم قال ما بال أقوام) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، أي ما حالهم؟ (يتنزهون عن الشيء أصنعه فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَة)
** قوله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ) فيه ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الخلق العظيم في عدم مخاطبة من صدر منه هفوة وبلغته، وكان إذا بلغه عن أحد شيء يقول (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا) ولا يقول ما بال فلان لئلا يلحقه في ذلك ما يبغضه عند غيره بل يحصل الانزجار عما كان منه بوقوفه ودخوله في العموم
وعن أنس بن مالك يحدث قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما كان يواجه الرجل بالشيء يكرهه، قال ودخل عليه يوما رجل وعليه أثر الخلوق (طيب من الزعفران ونحوه له لون ونهي عنه تجنبا للتشبه بالنساء) والنبي صلى الله عليه وسلم يأكل القرع وكان يعجبه القرع فلما خرج قال لو أمرتم هذا فغسله
** قوله: (فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) أي بعذاب الله وغضبه، يعني أنا أفعل شيئاً من المباحات وهم يحترزون عنه، فإن احترزوا لخوف عذاب الله، فأنا أعلم بقدر عذاب الله تعالى منهم، فأنا أولى أن أحترز عنه... إشارة إلى القوة العلمية (وأشدهم له خشية) إشارة إلى القوة العملية.
أي إنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وأن فعلي خلاف ذلك. وليس كما توهموا إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها، فمهما فعله - صلى الله عليه وسلم- من عزيمة ورخصة فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجلد في العمل قياماً بالشكر، ومهما ترخص فيه فإنما هو للإعانة على العزيمة ليعملها بنشاط.
وفي رواية للإمام أحمد: (والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا).
قال العلامة ابن رجب الحنبلي: فلما زادت معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بربه زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [ فاطر:28] فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله.
وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم) فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي)
ففي هذه الأحاديث كلها الإنكار على من نسب إليه -صلى الله عليه وسلم- التقصير في العمل للاتكال على المغفرة؛ فإنه كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد، فإذا عوتب على ذلك وذكرت له المغفرة أخبر أنه يفعل ذلك شكرا؛ كما في الصحيحين عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تتفطر قدماه فيقال له: تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: (أفلا أكون عبدا شكورا).
وقد يواصل -صلى الله عليه وسلم- في الصيام وينهاهم ويقول: (إني لست كهيئتكم؛ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني)
فنسبة التقصير إليه -صلى الله عليه وسلم- في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش؛ لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدى وأفضله، وهذا خطأ عظيم؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (خير الهدى هدى محمد).
ويقتضي -أيضا- هذا الخطأ: أن الاقتداء به في العمل ليس هو أفضل؛ بل الأفضل الزيادة على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدا؛ فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته وحث عليها، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [ آل عمران: 31 ] .
فلهذا كان صلى الله عليه وسلم يغضب من ذلك غضبا شديدا لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به.
** قال الشعبي: إن الله يحب أن يعمل برخصة كما يحب أن يعمل بعزائمه.
فليس ذلك الحديث دليلا على تحريم الأخذ بالعزائم؛ لأن ذلك لو كان حراما لأمر الذين خالفوا رخصته بالرجوع من فعلهم إلى فعله .. فتنزيههم عما رخص فيه النبي كان تعمقا.
** قال أهل العلم: في الحديث ذم التعمق والتنزه عن المباح شكاً في إباحته، وفيه الحث على الإقتداء به -صلى الله عليه وسلم- وأن الخير في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة أو الرخصة، فإن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت أولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذٍ مرجوحاً كما في إتمام الصلاة في السفر، وربما كان مذموماً إذا كان رغبة عن السنة كترك المسح على الخفين.
** إننا أمام فارقة عظيمة لجيل رائع وبون شاسع من قرون الخيرية عن غيرهم ممن جاءوا بعدهم، قوم هانت في عيونهم الرخصة، وقوم اليوم يبحثون عن رخصة الرخصة إلا من رحم ربي
** دوافع الرخصة عند النبي: "التخفيف – والمحبة والشفقة – ومراعاة المستويات - وتغيير القناعات – معرفة وخبرة بالنفوس – خوف المالات – إعلاء الديمومة والاستمرارية على العنفوان والتقطع – إبصار الوافد الجديد على البيئة – مزيد فهم وارتباط بالله ومنهجه - يخلص المسلم من شعوره بثقل تكليفه
** قوله: (ومن رغب عن سنتي فليس مني) وبهذا يتبين على أن الأفضلية هي بمتابعة هديه -صلى الله عليه وسلم- والتأسي بسنته وليست بكثرة العمل وهذا هو القول الفصل
يعلمنا الترخص أن نهتم بالكيف دون الكم، وأن نضبط الفعل المختصر والقليل، ونحسن الأداء فهو مغنم وغاية، وأن نقوي العلاقة بما لا يثقل الكاهل، وأن نحصل الأجر بأقل العمل، وأن لا نبخس الحق الدنيوي أمام الأخروي، وألا نضيع الأمانات والحقوق والرغبات الأسرية والشخصية لثقل التكاليف المزاحمة للأوقات المستهلكة لها فتأمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد