بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمد لله الذي جعل الخوف منه مفتاحا للهداية، ووقى أهله من الضلال والغواية، وجعلهم في الآخرة أهل الأمن والرحمة، وأصحاب السرور والنضرة، فجنة الفردوس مأواهم، لخوفهم من ربهم ومولاهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة:17]
قال ابن الوزير: أما الأمان فلا سبيل إليه، بل الخوف واجب، وهو شعار الصالحين.
وقال ابن القيم: الخوف علامة صحة الإيمان، وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه.
وقال أيضا: فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معائبه، وتدارك فارطه، واغتنام بقية أنفاسه، فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم، وإلا فلا خير له في حياته، فإن العبد على جناح سفر، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها كانت الصبابة أجل وأفضل، وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه، ونزولا له إلى أسفل، فالمسافر إما صاعد وإما نازل.
ومن أقواله: من حصلت له اليقظة بلا غفلة واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك، فإنه لا أحلى من الحضور في اليقظة، فإنه ينبغي أن يخاف المكر، وأن يسلب هذا الحضور واليقظة والحلاوة، فكم مغبوط بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبح يقلب كفيه ويضرب باليمين على الشمال
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبعض الناس يقول: «يا رب إني أخافك، وأخاف من لا يخافك» وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحد، لا من يخاف الله، ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخس وأذل من أن يخاف، فإنه ظالم، وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه.
وقال بعضهم: العاقل لا يخرج عن هذه الأحرف الثلاثة (الأول) أن يكون خائفا لما سلف منه من الذنوب (الثاني) لا يدري ما ينزل به ساعة بعد ساعة (الثالث) يخاف من إبهام العاقبة لا يدري ما يختم له.
وعن عبد الله العمري الزاهد قال: إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله، بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهى عن المنكر خوفا ممن لا يملك لك ضرا ولا نفعا، من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين نزعت منه الهيبة، فلو أمر بعض ولده لاستخف به.
وروي أن عبد الله بن محيريز رأى على خالد بن يزيد بن معاوية جبة خز، فقال: أتلبس الخز؟! قال: إنما ألبس لهؤلاء وأشار إلى الخليفة، فغضب وقال: ما ينبغي أن يعدل خوفك من الله بأحد من خلقه.
وقرأ الحسن قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام:44] فقال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا.
وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
والشهوات لا تنقمع بشيء كما تنقمع بنار الخوف، فالخوف هو النار المحرقة للشهوات، فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات، وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى.
قيل: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها.
وقيل: الناس على الطريق ما لم يزل الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.
وقيل: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وقال أبو حفص: الخوف سراج في القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه.
وقيل: الخشية ملاك الأمر، من خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر.
وقيل: ما للعبد صاحب خير من الخوف والهم فيما مضى من ذنوبه وما ينزل به.
وعن عمرو بن عثمان المكي قال: اعلم أن العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغه، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد.
قال عمر –رضي الله عنه- عند الموت: والله لو أن لي طلاع [ملأها] الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه.
ويروى عنه أنه قال: لو مات جمل ضياعا على جانب الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه يوم القيامة.
وكان رحمة الله عليه يدخل يده في دبرة البعير ويقول: إني لخائف أن أسأل عما بك.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أك شيئا، ليت أمي لم تلدني.
وقال أنس: خرجت مع عمر فدخل حائطا فسمعته يقول ــ وبيني وبينه جدار ــ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ! والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك.
وعن ابن عمر –رضي الله عنه- قال: ما رأيت عمر غضب قط فذكر الله عنده أو خوف أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا وقف عما يريد.
وكان عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- يقول: وددت أن الله غفر لي ذنبا من ذنوبي ودعيت عبد الله بن روثة.
وبكى عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه- فبكت امرأته، فقال: ما لك؟ قالت: بكيت لبكائك، فقال: إني قد علمت أني وارد النار، وما أدري أناج منها أم لا.
وعن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
وقال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيا، فقلت: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيا.
وقال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره.
وعن مزيد بن حوشب قال: ما رأيت أخوف من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وقال شيبان لهارون الرشيد عندما قال له الرشيد عظني فقال: لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف، قال الرشيد: فسر لي هذا، قال: من يقول لك أنت مسئول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم، فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد