بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد يقول أحدهم: إما أن تقبل كل كلام ابن بطوطة في رحلته وتحكم بصدقه كله، وإما أن ترفضه وتحكم بخطئه وكذبه.
قلت: هذا التلازم العام باطل، وهذه الثانية المطلقة (صدق كله أو كذب كله) ساقطة. فقد تقع من العالم والفقيه والمؤرخ الأخطاء والأغلاط والأوهام والاختلاط، بل قد يقع من بعضهم بعض الكذب المتعمد وغير المتعمد. وكون العالم أو المؤرخ يقع في ذلك لا يعني بالضرورة أن كل كلامه من هذا الجنس والقبيل، فإثر ذلك من الظلم والبغي. فإنه إذا أصاب مرة واحدة فلا يجب أن يصيب في كل كلامه، وإذا أخطأ مرة واحدة في كلامه فلا يجب أن يخطئ في كل كلامه. ولا يوجد عاقل يزعم الصدق مرة واحدة فقط يستلزم الصدق في كل مرة، والخطأ أو الكذب مرة واحدة يستلزم الكذب أو الخطأ في كل مرة! وإنما يقول العلماء: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر". يعني نفي العصمة والصواب والصدق التام عن غير الأنبياء عليهم السلام، ولا يعني أبدا نسبة الكذب التام الغيرهم، فغيرهم يصيب ويخطئ ويصدق وقد يكذب. ومن أصاب مرة لا يلزم منه إصابته في كل مرة، وكذلك إذا أخطأ مرة لا يوجب ذلك أن يخطئ كل مرة. وتلك من الواضحات.
والاعتراض العلمي المفترض إيراده -بعد تقرير عدم عصمة ابن بطوطة وغير وعدم كون كل كلامه هو من الكذب والخطأ بالضرورة - هو: ما الدليل على كلام ابن بطوطة عن الحيدرية؟ وهل انفرد لوحده هذه المشاهدة هذه الهيئة الخاصة بهم؟ وما المرجح في قبول كلامه فيما حكاه عن الطائفة الحيدرية، وعدم قبول كلامه فيما حكاه عن ابن تيمية؟
الجواب عن ذلك:
أولًا: لماذا لا نشكك في حكاية ابن بطوطة عن الحيدرية؟ قال ابن بطوطة عن الحيدرية: "ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة، وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدین حیدر، وإليه تنتسب طائفة الحيدرية من الفقراء، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذاهم ويجعلوها أيضا في ذكورهم، حتى لا يتأتى لهم النكاح... ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون، وهم من الطائفة المعروفة بالحيدرية، فباتوا عندنا ليلة وطلب مني كبيرهم أن اتيه بالحطب ليوقده عند رقصهم، فكلفت والي تلك الجهة وهو عزیز المعروف بالخمار، وسيأتي ذكره، أن يأتي بالحطب فوجه منه نحو عشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الأخرة حتى صارت جمرا وأخذوا في السماع ثم دخلوا في تلك النار فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها، وطلب مني كبيرهم قميصا فأعطيته قميصا في النهاية من الرقة فلبسه وجعل يتمرغ به في النار ويضركا بأكمامه حتى طفئت تلك النار وخمدت وجاء إلي بالقميص والنار لم تؤثر فيه شيئا البتة، فطال عجي منه!".
إن ما ذكر ابن بطوطة عن وجود هذه الطائفة وما تفعله لم ينفرد به لوحده ولم تكن مشاهدته لبعض ممارسات هذه الطائفة حجرا عليه وحده، بل كان ذلك من المشهورات والمعروفات عنهم، يشاهده الناس عامتهم وخاصتهم، وغيرها من غرائبهم وعجائبهم. وقال الحافظ شمس الدين الذهبي: "وفي هذا الوقت ظهر بالشام طائفة الحيدرية، يقصون الحالهم ويلبسون فراجي من اللباد وعليهم طراطير، وفي رقابهم جلق كبار من حديد. زعموا أن الملاحدة أمسكوا شيخهم حيدر وقضوا ذقنه، وهم يصلون ويصومون، ولكنهم قوم منحرفون".
قال الحافظ ابن كثير: "وفيها دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواركم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حیدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتركوا شواربه، فاقتدوا به في ذلك".
قال محيي الدين أبو زكريا أحمد بن إبراهيم ابن النحاس الدمشقي: "ما تفعله الحيدرية المبتدعة، من خرق الذكر، وتعليق الحديد فيه. وهي بدعة شنيعة محرمة يجب على كل قادر المنع منها وإنكارها ما استطاع".
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي و ابن حجر العسقلاني: "الحيدرية المجردون من أصحاب الشيخ حيدر الزاوجي الموله وزاوة: من أعمال نیسابور".
وقال بدر الدين العيني الحنفي: "الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الفراجی والطراطير، ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمبايعة شيخهم حیدر حين أسرة الملاحدة، فقصوا لحيته وتركوا شواربه"
وقال نظام الدین الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري: "... فوقعوا في أودية الشبهات والضلال، (ما جعل الله من بحيرة)، قال الشيخ المحقق نجم الدين: المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويحلقون
وقال عبد الحق بن سيف الدين بن سعد الله البخاري الحنفي: "قد كثر الابتلاء بأكل الخبيثة التي تسمى القنب في هذا الزمان وفيما قبله، وقلت من تكلم فيه، ولقد رأيت بمكة المشرفة فيه رسالة عملها الشيخ الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بدر الدين بن عبد الله الزركشي الشافعي المصري عليه الرحمة والغفران وتكلم فيه في فصول، فاختصرت شيئا منه: الأول: في اسمها ووقت ظهورها، والأطباء يسموها القنب الهندي، ومنهم من يسميها ورق الشهدانج وتسمى بالعنبر أو بالحيدرية والقلندرية، ثم قيل: ظهورها كان على يد حيدر في سنة خمسين وخمس مئة تقريبا، ولهذا سميت حيدرية، وذلك أنه خرج هائما ليفر من أصحابه، فمر على هذه الحشيشة فرأى أغصانها تتحرك من غير هواء، فقال في نفسه: هذا لسير فيها، فاقتطف وأكل منها، فلما رجع إليهم أعلمهم أنه رأى فيها سرا، وأمرهم بأكلها، وقد ظهرت على يد أحمد المسارحي القلندري، ولهذا سميت قلندرية".
وقال إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي: "كان الشيخ قطب الدین حیدر مجذوبا صاحب حال جدا، حتى حكى أنه أخذ حديدا حارا من كير حداد صار كقطعة نار وألقاه على عنقه ساعة فلم يحترق، فاخذ الحيدرية بذلك ولبسوا الحديد تقليدا، ولبس الحديد أكثر إثما من لبس الذهب فعلى العاقل أن يجتنب عن البدعة وأهله". | وقال حاجي خليفة: "الحيدري: نسبة إلى الشيخ قطب الدین حیدر زاده، مات سنة) 618م، وجماعة الحيدرية تتبع هؤلاء". وقال مرتضى الزبيدي: "والحيدرية: طائفة مجردون، وهم أتباع الشيخ حيدر الزاوجي، الولي المشهور، وقد ذكرت هاذه الطريقة ومبناها في كتابي: إتحاف الأصفياء بسلاسل الأولياء".
فكما ترى، من هذه النقول، وهي نقول يسيرة عن هذه الطائفة لم ترد التوسع في ذكر كل ما قيل عنها في هذه العجالة، التي قالها علماء قبل وبعد ابن بطوطة، تؤكد أن تلك الممارسة، التي نسبها ابن بطوطة إلى تلك الطائفة الحيدرية، لم تكن نسبة انفرد کا ابن بطوطة عنهم، بل هي معروفة.
ثانيا: لماذا نشكك في حكاية ابن بطوطة عن ابن تيمية؟
ذكر ابن بطوطة أنه حضر يوم الجمعة وابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع، ونزل من درجة المنبر، وهو يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا کنزولي هذا.. إلى آخر الحكاية التي وردت في كتاب الرحلة. جاء في كتاب الرحلة: "وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقیه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربة كثيرا حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة...".
و نُشكك في هذه الحكاية الأن وصول ابن بطوطة إلى دمشق كان يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المبارك، عام ست وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن ابن تيمية رحمه الله في قلعة دمشق أوائل شعبان من ذلك العام، إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمان وعشرين وسبعمائة هجرية. فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمع منه ذلك؟
هذه الحكاية المفترض أنها مشهورة ومشهودة جدا، وحصلت فيها وقائع كبيرة، ومع ذلك قد انفردت بها رحلة ابن بطوطة، ودواعي نقلها من خصوم وأنصار ابن تيمية متوافرة جدا، ومع ذلك لم تحكها إلا رحلة ابن بطوطة. ثم نقلها عنه من جاء بعده، ونسب تلك الحكاية إلى ابن تيمية. ومن ترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر عنه أنه كان يخطب أو يعظ على منبر الجمعة، فالخطيب كان عالما من الشافعية وهو قاضي القضاة جلال الدين محمد عبدالرحمن القزويني، وإنما كان ابن تيمية يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون له مجلس غاصًا بأهله.
لهذا السبب نشكك في هذه الحكاية، لأنها تناقض تاريخ سجن ابن تيمية وتاريخ زيارة ابن بطوطة لدمشق، ولانفراد ابن بطوطة بها، ومخالفتها لما هو معروف وما نقله العلماء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد