بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله أنه صفة من صفاته، وأنه صفة حقيقة ثابتة له على الوجه اللائق به، قال الله عز وجل: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164] وقال الله عز وجل: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ [الأعراف: 143] فهو سبحانه وتعالى يتكلم بحرف وصوت، كيف شاء، متى شاء، بكلام لا يشبه ولا يماثل أصوات المخلوقين.
وقد أكثر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من ذكر الأدلة الدالة على ثبوت صفة الكلام لله عز وجل، في كتابه "العقيدة الواسطية" لأن مسألة الكلام أكثر مسألة حصلت فيها الخصومة ووقعت بها الفتنة من مسائل الصفات.
والله جل جلاله يكلم يوم القيامة آدم عليه السلام، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيبُ الصغير ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2] [متفق عليه] ومن أمن بهذا وأيقن وجل وخاف، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الإنسان إذا علم ذلك، فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسع مائة والتسعة والتسعين.
وتكليم الله جل جلاله لعباده يوم القيامة ثابت، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمُهُ ربّهُ، ليس بينه وبينه ترجمان) [متفق عليه].
فالله جل جلاله يُكلم يوم القيامة جميع عباده من برٍ وفاجر، تكليم مُحاسبة، فمن أمن بهذا وأيقن خاف ووجل، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين: الفوائد المسلكية في الحديث... يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي يجري بينه وبين ربه عز وجل، أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه الله تعالى بذنوبه، فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عز وجل "اللهم أننا نسألك أن نكون ممن تكلمه فترحمه وتستر عليه ذنوبه، وتغفرها له، ففي الحديث المتفق عليه، عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما أنا أمشى مع ابن عمر رضي الله عنهما آخذ بيده، إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18] قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: قوله: (كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى) هي ما تكلم به المرء يُسمعُ نفسه، ولا يُسمع غيره، أو يسمعُ غيره دون الذي يليه،...والمراد بها المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين، وقال الكرماني: أطلق على ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رؤوس الأشهاد هناك".
لقد جاءت النصوص بالتحذير من أعمال من عملها فإن الله جل جلاله، لا يكلمه كلام رضا ومحبة، ولا ينظر إليه نظر رحمة وعطف ورأفة، ولا يزكيه أي لا يطهره من ذنوبه، نسأل السلامة والنجاة من ذلك، فحري بكل مسلم أن يتجنب أي عمل يعرضه لهذه العقوبة، ومن تلك الأعمال:
كتمان ما أنزل الله من العلم لنيل أغراض دنيوية:
قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174] أي يأخذون به ثمناً قليلاً، لأنهم يُخفونه لينالوا الجاه، أو لينالوا المال، أو لنالوا الحظوة عند الزعماء".
وقال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: تهديد هؤلاء الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وينصبُّ هذا على العلماء الذين يكتمون ما أنزل مداهنة أو مراعاة أو من أجل المال فإنهم اشتروا بعهد الله قليلاً لأن الله عهد إلى العلماء أن يبينوا العلم.
(منع ابن السبيل فضل ماء الطريق) (مبايعة الإمام من أجل الدنيا).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا الدنيا، فإن أعطاه منها
رضي وإن لم يعطه منها سخط، ورجل أقام سلعته بعد العصر، فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا، فصدقه الرجل ثم قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [آل عمران: 77]) وفي رواية: (ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ) [متفق عليه[
قال ابن حجر رحمه الله: المراد بابن السبيل المسافر المحتاج إلى الماء.. وخصَّ بعد العصر بالحلف لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار، وأما الذي بايع الإمام بالصفقة المذكورة فاستحقاقه هذا الوعيد لكونه غشَّ إمام المسلمين ومن لازم ذلك غش الإمام غش الرعية لما فيه من التسبب إلى إثارة الفتنة ولاسيما إن كان ممن يتبع على ذلك.
(الزنى من الشيخ) (الكذب من الملك) (الكبر من الفقير).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر الله إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) [أخرجه مسلم] قال الإمام النووي رحمه الله: وأما تخصيصه صلى الله عليه وسلم... الشيخ الزاني والملك الكذاب والعائل المستكبر بالوعيد المذكور فقال القاضي عياض: سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده وإن كان لا يعذر أحد بذنب لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي معتادة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها.
(إسبال الإزار للخيلاء) (إنفاق السلعة بالحلف الكاذب) (المنُّ بالعطية).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبلُ إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منَّهُ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ) [أخرجه مسلم] والمقصود بإسبال الإزار إذا كان للخيلاء، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وهذا الحديث مطلق لكنه مقيد بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه) ويكون الإطلاق في حديث أبي ذر مقيداً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإذا كان خيلاء فإن الله لا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب عظيم.
ومن يتأمل واقع المسلمين، يجد أن بعضهم قد وقعوا في تلك الأعمال، أم جهلاً، أو تساهلاً، أو رغبة في نيل أغراض دنيوية، سماها الله عز وجل ثمناً قليلاً، لأن هذه الأغراض من مال، أو جاه، أو رئاسة مهما كثرت وعظمت، لا تساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة، فالله جل جلاله يُكلم أهل الجنة تكليم محبة ورضوان، فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل) [أخرجه أحمد] أسأل الله الجواد الكريم أن نكون جميعاً منهم، ومن استشعر هذا النعيم رخصت عنده الدنيا بمتاعها وزينتها ومباهجها, اللهم يا كريم أصلح قلوبنا، وزدنا علماً وعملناً، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، واجعلنا جميعاً ممن تكلمهم كلام رضا ومحبة وإحسان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
تقبل الله نشركم وجعله في موازين اعمالكم
-حمدي
11:21:18 2023-08-31