ما أخطر الكتابات على القارئ؟


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في الكتابة، وخصوصًا العلمية والأكاديمية، تتم عملية واعية واحدة، يتم وضعها أمام القارئ الذي يستهدفه الكاتب بتلك الكتابة، وهي عملية التقديم والعرض. وهذا العرض والتقديم، وكل عرض وتقديم في الوجود وليس فقط في الكتابة العلمية، ينقسم إلى قسمين:

(١) المعلومة البحتة، (أرقام، إحصائيات، بيانات، نصوص، نقوش، صور، أدوات، اعترافات...إلخ).

(٢) قراءة المعلومة، وهي تمثل رأي وموقف الكاتب الذي يتبع عادة بعد تقديم وعرض تلك المعلومات، التي يقدمها الكاتب للقارئ مشفوعة بنقده وتحليله. وكلما كان نقده وتحليله قويًا متماسكًا، كانت قدرته على الإقناع أكبر وأعمق. وهي أشبه بالمساعدة المعلنة التي يقدمها الكاتب من أجل فهم المعلومة.

 

ما أنواع الكتابة؟

تنقسم الكتابة باختصار إلى ثلاثة أنواع:

[١] كتابة الصف والعرض للنصوص كما هي، وهي من أضعف أنواع الكتابة، خصوصًا إذا طال النقل واقتصر على مراجع محدودة ونازلة. صحيح أن نوعية النصوص النادرة وكثرتها وتنوعها تدل بشكل واضح على علمية الكاتب، وقدرته وقراءته الواسعة، وإحاطته بمصادر ومراجع المعلومات، وأمانته وتوثيقه، لكنها في الوقت نفسه تكشف إما عن: ضعف آلة التحليل والنقد لديه، أو خشيته من إبداء رأيه لأي سبب.

[٢] الكتابة التحليلية النقدية، وهي التي يتم فيها تقديم المعلومات المتميزة والمتنوعة، وفي الوقت نفسه تظهر شخصية الباحث، واعتداده بنفسه ورأيه، وقدراته التحليلية والنقدية للنصوص والمعلومات التي يقدمها للقارئ. فالنصوص هنا ليست مصفوفة ومتروكة للقارئ كي يمارس الفهم والتحليل والنقد، بل يتقدم الكاتب بنفسه، ممثلاً دور المحامي البارع، الذي يناضل ويدافع عن قضيته بالأدلة والبراهين ويشفع ذلك بالإثباتات والقرائن. وهذه الكتابة من أقوى أنواع الكتابات العلمية، التي ينبغي أن تتوجه لها الكتابة الأكاديمية، وهي من أكثر الكتابات تأثيرًا وتغييرًا للقناعات.

[٣] العرض والتقديم الذكي، وهو في نظري أخطر أنواع الكتابة على عموم القرَّاء، وأكثرها ذكاء ومهارة، وتتطلب قدرة فائقة في قراءة النصوص وفهمنا، ومعرفة مضانها وغير مضانها، وفوق ذلك كله البراعة في حسن ترتيبها، وتنسيقها، وتدرجها، بحيث تخدم الهدف الذي أراده الكاتب منها.

لماذا هذه الكتابة هي أخطر الكتابات؟

 

الأمر يعود لعدة أسباب، منها:

{١} أنها كتابة تظهر أمام القارئ كأنها حيادية تمامًا، حيث تعتمد أساسًا على المعلومات والنصوص والوثائق.

{٢} تدخل الكاتب ورأيه الخاص يتراجع ويختفي بشكل يكاد يكون كليًا أمام عين القارئ، في مقابل هيمنة لغة الأرقام والنصوص والوثائق والإحصائيات الصارخة، والحقيقي أن رأيه لم يغادر قط الكتابة، بل استتر خلف طريقة استعراض وتقديم المعلومات وفق ترتيب هرمي مخطط له بذكاء وقوة علمية وكتابية.

{٣} عدم انفصال تسلسل وانسيابية الكتابة والأفكار أمام القارئ، بين معلومة ورأي ناقد، يجعل العقل يتوقف وينتبه برهة إلى وجود أضداد ونقائض تتصارع أمامه من أجل إقناعه بشيء ما، فبمجرد تنبيه عقل القارئ إلى وجود رأي (معلومة، نص)، ورأي آخر (النقد)، فإنه يستيقظ وينتبه، ويبدأ يبحث لنفسه عن موقف ينحاز له، وليس كل عقل ينحاز للحق والصواب فضلاً أن يعرفه ويمحصه أثناء جولات الصراع والنقاش.

{٤} أنها تمثل نسيجًا متسلسلاً منسجمًا متواصلاً دون انقطاع، مثل بناء محكم أو قطعة منسوجة متدرجة، من اللبنات (المعلومات، النصوص)، المرتبة والمتدرجة بذكاء وحنكة بشكلٍ بنائي، تقود من معلومة إلى معلومة آخر صورة يريد الكاتب أن يرسمها بالتدريج عبر تلك اللبنات، لتنتهي اللوحة بشكلٍ كامل عن تحقق رؤيته في المسألة أو القضية، دون أن يُظهر ملامح تدخله بشكل واضح قد يصد القارئ عن التشبع بها، والاقتناع بها في نهاية المطاف.

 

أخيرًا، يجب تذكر أنه لا توجد معلومة محضة، فكل معلومة بحتة ينقلها الكاتب ولو كانت وحيدة، فهدفه من ذلك رسالة يريد أن يوصلها، بشكلٍ مباشر أو بشكلٍ مبطن، وأحيانًا ترك التعليق أو النقد يكون أكثر تأثيرًا في تعميق أبعاد النص أو المعلومة، ذلك النص أو المعلومة التي يريدها الكاتب (الناقل) أن تأخذ أقصى مدى ممكن لها، وفق مهارة القفز الحر للمعلومة تاركًا جاذبتها الذاتية تجذب عقل القارئ، والتداعي الحر أو الموجه يُكَوّن قناعة القارئ، ليجد نفسه قد اكتسب قناعة جديدة، يظن أنه بنفسه حصلها من خلال مطالعته لتلك المعلومات الحيادية الدقيقة المعروضة أمامه، وهو لا يعرف أنها رتبت بطريقة متدرجة تقوده من المقدمات للنتائج!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply