بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
وإذا صدع البينُ شملَ المحبِّين، فنأيُ أبي فهرٍ وشغلي بغيره لا يذهبان بما له في القلب من ودٍّ قديم وهوًى لا يبلى.
وقد قالوا إن «الرَّسِيسَ» أصلُ الحب، وقالوا هو ابتداء الهوى وآخره، وهو بقيته في القلب ودفينُه، وهو مسُّه وحنينُه[1]، ولعمري إن لي ولهذا الكتاب من كل أولئك نسبًا عند أبي فهرٍ وصهرًا، فلقد نشأتُ أول ما نشأت مفتونًا ببيانه، مستهامًا بإبائه، مستغرقًا في شهود مجالي فضله، ولقد فتحتُ عينيَّ الصغيرتين حين فتحتهما على كتبه، فقرأت له وأنا غلامٌ حدثُ السنِّ في المرحلة المتوسطة (الإعدادية) كتابيه «المتنبي» و«أباطيل وأسمار»، وكَلِفتُ بهما كلفَ الصبيِّ، ولزمتهما لزوم الغريم، وما بك حاجةٌ لتسأل عن مبلغ ما فهمتُ منهما وما جهلت، فما هو إلا ما ظننتَ، ولئن فاتني أن أظهر يومئذ على جميع مقاصده، وأحيط بقريب مراده وبعيده، فحسبه أن ترك في نفسي من حبِّ العربية، وتعظيم الشريعة، وإجلال الصواب، واستبشاع الخطأ، والأنفة من التقليد، والرغبة إلى التحقيق، والميل عن سبيل المتعالمين وأدعياء الثقافة، والنفور من الباطل وإن أقبل في طيلسان الشُّهرة، والصدِّ عنه وإن هملجت به براذينُ الألقاب = ما لا أزال أتلمَّظ طعم العزَّة به، وأستسقي غيث المروءة منه، وألتمس أثر الإحسان فيه.
ووقر في قلبي الغضِّ من حبِّ أبي فهر، والثقة بعلمه، والإعجاب بمضائه وقوة عارضته، والحماسة لحماسته للإسلام ونفرته من المستشرقين وأدعياء العلم وأذناب الاستعمار ما وقر، ولقد تعلمُ أثر ذلك في القلب الغض!
ومضيتُ على ذلك العهد، محمود المذهب، شاكريَّ الهوى، لا أقبل فيه نقدًا، ولا أبغي عنه حِوَلًا، كبعض من تعرف، ولم يزل يقوِّمني العلم، وتهذِّبني التجربة، وتثقِّفني ملاقاة الرجال، حتى أنزلته حيث أقامه العدل ورضيه الإنصاف، شيخًا للعربية، وإمامًا في الأدب، ورأسًا من رؤوس البيان، وشارحًا بارعًا للتراث، ومشاركًا في علوم الشريعة مشاركة بحث واطلاع، غير معصوم من الخطأ ولا منزَّه عن الزلل فيما يكتب أو ينقد أو يحقق.
ورأيتُ أبا فهرٍ مظلومًا من رجلين: رجل أسرف في محبَّته، وبالغ في تعظيمه، وتوهَّم فيه الإحاطة بالعلم، والإشرافَ على اليقين، وظنَّه قولًا لا يسهو، ونظرًا لا يكلُّ، وميزانًا لا يجور. ورجل غضب من تعصُّب طائفة من أشياعه له، واستفزَّه غلوُّ بعض أنصاره فيه، فاجتهد في تتبُّع عثاره، وتقصِّي عيوبه، حتى أدَّاه ذلك إلى جحد حقِّه، وغمطِ صوابه. وكلاهما مجانفٌ لسبيل الإنصاف، مخالفٌ عن أمر العدل، متبعٌ حظَّ نفسه، مستجيبٌ لداعي هواه، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
هذا ما كان من أمري وأمر «رَسِيس الهوى» الشاكريِّ.
ولهذا الكتاب حظٌّ آخر من الرَّسِيس؛ فإنه بقية ما لم يُنْشَر من تراث أبي فهر مجموعًا من قبلُ في كتاب، كمقدماته لتآليف غيره، ومقالاته ومترجماته الأدبية التي خلت منها «جمهرة مقالاته» التي قام على نشرها تلميذه وصاحبه الوفي الدكتور عادل سليمان جمال، وكذا ما لخَّصه أيام دراسته بالجامعة من دروس أستاذه المستشرق الإيطالي نلِّينو، والحوار الوحيد الذي لم يتيسر للأخ العزيز وجدان العلي نشره ضمن الحوارات واللقاءات التي جمعها في كتابه الجميل «ظل النديم»، ونخبة من رسائله الخاصة إلى بعض شيوخه وأصحابه، ثم تصحيحاته لبعض الكتب التراثية المطبوعة مما يغفل عنه كثيرٌ من القراء وطلاب العلم والباحثين.
* * *
فأما مقدماته، فثمان مقدمات، بعضها طويلٌ مبسوط، كمقدمته الشهيرة لكتاب «الظاهرة القرآنية» لصديقه مالك بن نبي سنة 1958، وإن كانت قد نُشِرت أخيرًا ضمن كتاب «مداخل إعجاز القرآن» الذي صدر بعد وفاته، إلا أني آثرتُ جمعها هنا مع سائر مقدماته الأخرى لتكون في صعيد واحد على سنن المقدمات المجموعة.
وكذلك مقدمته الطويلة لكتاب «شرح الأشموني على ألفية ابن مالك» بتحقيق صديقه أيضًا الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وهي من بواكير كتاباته البحثية المطولة، كتبها سنة 1933 وعمره يومئذ أربع وعشرون سنة.
ويلاحَظ أن أبا فهرٍ هو من طلب كتابة هذه المقدمة، على خلاف المألوف في كتابة المقدمات؛ ذلك أنه لم يُرِدها مقدمة تقليدية تثني على المؤلف أو المحقق وتعرِّف بكتابه، وإنما أراد بها تحرير القول في مسائل من نشأة اللغة وعلم النحو تحريرًا موجزًا يلخص ما انتهت إليه دراسته لهذه المسائل، ثقةً بامتلاء إنائه وأوان فيضِه.
وهو يشير إلى بعض ما بعثه على كتابتها في قوله: «وقد كتبنا هذه الكلمة على قِصَرها واتساع ميدان الكلام في أغراضها لنتقدَّم بالكلام عن نشأة النحو في العربية، فلو أتاحت لنا الأيام بعدُ استيفاء الكلام كله في هذا الأصل أصدرنا بعون الله كتابًا مستقلًّا بنفسه لا ندع فيه كلمة للرأي إلا قلناها، وعرَّفنا المبتدعة مكان النحو والاشتقاق والبيان من اللغات، وفتحنا طريقًا لمعرفة سرِّ الإعراب في العربية، وأبنَّا عن معاني الحركات الأربعة في مواقعها من الكلام العربي»
وما يلبث أن تغلبه الحماسة فيعد القراء بتأليف ذلك الكتاب، فيقول: «وهذا بابٌ من القول لم نستوفه لضيق الوقت والتزامه إخراج هذا الجزء من «الأشموني» في ميعاده الذي ضُرِب له، ونحن لا نفتات على اللغة بما لا ترضاه ولا تقرُّه، ولا نذهب بها مذهبًا هي إلى غيره أميل، ولا نضعها موضعًا هي في غيره أشرف وأنبل، فلذلك نَعِد القراء بأن نوافيهم قريبًا بكتاب واسع المضطرَب، نزيد فيه الرأي وضوحًا، ونقف عند كل كلمة منه مع القارئ نبيِّن له ونوضِّح حتى نقرِّر المذهب الذي نذهب إليه، فإن ارتضاه اعتقده وإن أباه ردَّ علينا فساده ونبَذه». ولا أعلم من أمر هذا الكتاب شيئًا ولا رأيت من ذكره.
وفي هذه المقدمة على تقدُّم زمان كتابتها فوائد وتحريراتٌ نافعة.
ثم تليهما في الطول مقدمة كتاب «وحي الرافعي» لصديقه كذلك محمد سعيد العريان سنة 1939، وهي مقدمة أدبية فنية عالية الأسلوب فيها قبسٌ من روح الرافعي وبيانه.
وباقي مقدماته مختصرةٌ موجزة، وآخرها مقدمته لكتاب صاحبه الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» سنة 1972.
وقد أدرج الدكتور عادل سليمان جمال هاتين المقدمتين الأخيرتين (مقدمة كتاب حياة الرافعي ومقدمة كتاب دراسات لأساليب القرآن) وحدهما في «جمهرة مقالات محمود شاكر» [2].
ومن المقدمات المغمورة التي يضمُّها كتابنا مقدمة رسالة الصلاة للإمام أحمد بن حنبل التي نشرها أبو فهر في «لجنة الشباب المسلم» بالقاهرة إبَّان نشاطها في خمسينيات القرن الميلادي المنصرم، وكان هو الموجِّه الفكريَّ لها كما يقول الطناحي[3].
وقد غابت هذه الرسالة ومقدمتها عن عامة القوائم الببليوغرافية المنشورة لأعمال محمود شاكر[4].
وفي قلة ما كتبه محمود شاكر من المقدمات لكتب غيره على طول عمره وكثرة المؤلفين من أصحابه المتصلين به وجلالته في أنفسهم غرابة، ولعل مردَّ ذلك إلى شخصيته التي لا تحفل بهذه الرسوم ولا تلقي لها بالًا، ومن تأمل فيما كتبه منها وجد أنه لم يكتبه إلا لحاجة دعت إليه مبتدئًا أو مجيبًا.
* * *
وأما مقالاته فإحدى عشرة مقالة خلت منها «جمهرة مقالاته» المطبوعة، وتُنشر اليوم للناس أول مرة في كتاب، وكانت من قبلُ مطوية في زوايا المجلات والصحف نائيةً عن أبصار القراء والدارسين.
وقد رتَّبتها على تواريخ نشرها، ليقف القارئ على تطوُّر قلم محمود شاكر وارتقاء أسلوبه طورًا بعد طور، ويشهد المرحلة الأولى من مراحل حياته الكتابية، إذ تشتمل على أقدم ما وصلنا من بواكير مقالاته التي نشرها ولمَّا يبلغ العشرين من عمره، وهي نصوصٌ في غاية الأهمية لدارسي أدبه، ومتتبعي تطوُّر بيانه، وراصدي وثبات قلمه، نرى فيها هذا القلم إذ ذاك متقارب الخطو، ضيِّق المضطرب، ثم نشهده بعد ذلك بسنواتٍ قليلة حين اعتزل الناس، وانصرف إلى دراسة الشعر الجاهلي ما بين سنتي (1929- 1936)، وخرج على الدنيا بكتابه الباذخ عن المتنبي سنة 1936، وقد استمسك قلمه في يده، واستحكمت قوَّته، واستوى على سوقه، وجرى على سننه الذي نعرف.
كما تظهر في مقالاته الأولى حماسته الفتيَّـة للإسلام، وغيرته على حدود الدين، وحمله همَّ نصرته، واستشعاره واجبه في الذود عنه، كما في مقاله الذي عنونه بـ«معجزة الدهر.. الدولة الإسلامية الكبرى في ثمانين عامًا»، ونشره في ذي الحجة سنة 1345- يونيو 1927، وهو في الثامنة عشرة من عمره في سنته الثانية بالجامعة المصرية، وهو أقدم ما وصلنا من مقالاته.
ثم في مقالَيه في شهر ربيع الأول من السنة التي تليها 1346- سبتمبر 1927في الرد على الشيخ علي عبد الرازق الذي كتب في مطلع ذلك الشهر بمناسبة ذكرى المولد النبوي مقالًا في جريدة «السياسة الأسبوعية» نفى فيه أن يكون للنبي ﷺ عظمةٌ غير عظمة كلمة التوحيد، فأثار مقاله غضب كثير من أهل العلم، وتناولوه بالردِّ والتعقيب، ومنهم شيخ الأزهر العلامة محمد الخضر حسين، كما بيَّنت في حاشية المقال هناك.
ومما قاله محمود شاكر في صدر مقاله الأول: «نشر علي عبد الرازق في جريدة السياسة مقالًا تحت عنوان «محمد» يوم الخميس 12 ربيع الأول سنة 1346، فما كنَّا نودُّ أن نتحرَّك للرَّدِّ بعد ما قام إخواننا المخلصون بواجبهم في الردِّ، وفيهم الكفاية التامَّة، مع عجزنا وضعفنا. كلنا يعلم أن المقال لم يكن موضوعًا علميًّا حتى تنبري له كلُّ هذه النفوس لتردَّه مذمومًا مدحورًا، ولكن خشية أن تغرَّ أمثال هذه الألفاظ الجوفاء شبابنا الناهض قام المخلصون بواجبهم في ردِّ مثل هذه الأقوال، ونِعمَّا هذه الردود، فالوقت الذي نحن فيه طورٌ عنيفٌ من أطوار حياتنا انتابت عقول الكثيرين الشكوك، وما أسرع ما يلقط عقلُ الشَّاكِّ أمثال هذه الأقوال المرذولة»، وهو شاهدٌ قريب الدلالة لما قدَّمناه من غيرته على حدود الشريعة وحماسته للدفاع عنها.
وفي مقاله الذي جعل عنوانه «تحت راية الشبان المسلمين.. بين رجل وامرأة»، المنشور في رمضان 1346- فبراير 1928، وأداره على المقارنة بين وضع المرأة في الإسلام ووضعها اليوم، من خلال قصة زيارته لإحدى الأسر الإنجليزية بالقاهرة وما دار بينه وبين سيدة البيت من حوار، تتبدَّى لنا مرة أخرى حماسته المضطرمة، وعاطفته المتلهِّبة، وضيقه بمظاهر الحياة الفكرية والاجتماعية يومئذ، ممَّا نلمح ظلاله فيما حكاه صاحبه محمد سعيد العريان من شأن صلته بشيخه الرافعي تلك الأيام[5].
ونرى كذلك هذه الروح الوطنية المتوثبة، التوَّاقة إلى العدل، المبغضة للظلم، المنابذة للفساد، في مقالته المنشورة في رجب 1346- 5 يناير 1928 في رثاء الزعيم الوطني والكاتب الكبير أمين الرافعي، بعنوان «صريعٌ تحت لواء الجهاد»
ففي هذه المقالات كما ترى توثيقٌ لأولى مدارج محمود شاكر في الفكر والمنهج ومواقفه من السياسة والحياة والناس.
وعلى ذكر جمعية «الشبان المسلمين» التي أشار إليها أبو فهر في عنوان المقال المتقدم، فإن التاريخ قد حفظ لنا أن محمود شاكر كان صاحبَ فكرة إنشاء هذه الجمعية مع ابن خالته الأستاذ عبد السلام هارون سنة 1928، بمعونة الأساتذة الكبار: محب الدين الخطيب، وأحمد تيمور باشا، ومحمد الخضر حسين، وكان غرض الجمعية نشر العلم عبر جماعة من العلماء المؤهلين في مختلف العلوم، ولا يدخلها إلا من توفرت فيه شروط العالم، وفي ذلك كتب محمود شاكر مقالته عن الجمعية ونشأتها وتاريخها[6]، قبل أن يتركها لتغيُّر الغرض الذي أنشئت من أجله كما ذكر لبعض أصحابه[7].
ثم تمرُّ الأيام إلى سنة 1940 لنجدنا أمام مقالة فاخرة في التأصيل لعلم التاريخ ونشأته وتدوينه ومنهج كتابته بعنوان «كلمة في التاريخ»، كتبها ردًّا على مقال لمحمد حسين هيكل عن «بيعة أبي بكر الصديق»، وذلك بعد صدور كتابه المشهور «حياة محمد ﷺ»
وبعدها بسبع سنين نجد مقالة يتيمة له في مجلة «المختار من ريدرز دايجست»، عدد مايو 1947 التي تولى إدارة تحريرها من يوليو 1946 إلى نوفمبر 1947 بدعوة من صديقه فؤاد صرُّوف صاحب مجلة «المقتطف»، فشارك في اختيار وترجمة موادها، واستطاع كما قالوا «أن يقدِّم مستوًى للترجمة الصحفية لم يُعْرَف من قبل» كما ذكرت في حاشية المقالة هناك، وكانت بعنوان «إياكَ والقناعة.. حَذَارِ من الحسرة»، وهو نداء الحياة لكل حيٍّ يريد أن يستوعب ما فيها من العلوم والمعارف، وأشاد في مقالته بدور مجلة «المختار» في تحقيق هذا الهدف.
وقد تصفَّحتُ الأعداد الصادرة في زمن تولي محمود شاكر إدارة تحرير هذه المجلة، فوقفتُ على طائفة من المقالات المترجمة تبرق منها أساريرُ قلمه وتنمُّ حروفها على صنعته مترجمًا أو مراجعًا محررًا، ولولا أنها لم توسم باسمه كما هو منهج المجلة لأدرجتها في هذا المجموع، لكني التزمتُ ألا أورد لك إلا ما صحَّ سنده وثبتت نسبته بالنصِّ لا بالاجتهاد.
ثم تطوى السنين طيًّا لنصل إلى شهر أكتوبر سنة 1973 حين عادت مجلة «الثقافة» للظهور مرة أخرى برئاسة تحرير الدكتور عبد العزيز الدسوقي، فنشر محمود شاكر في العدد الأول منها قصيدة لابن المعتز، اختارها وشرحها شرحًا موجزًا. ولأبي فهر اختياراتٌ شعرية رائقة، وقفنا على بعضها فيما نشره تلميذه الدكتور يعقوب الغنيم في كتابه «قراءة في دفتر قديم» مما كان يقرؤه عليهم ويمليه من كريم شعر العرب ومختاره.
ومن جريدة «الأهرام» سنتي 1978 و1982 مقالان صحفيَّان يناقش الأول منهما وضع الكتاب المطبوع في العالم العربي وما يمرُّ به من ضوائق ومشكلات، ويحرر الثاني موقف المستشرقين الكبار من قضية الشعر الجاهلي وأنهم ليسوا على رأي مرجليوث في التشكيك في صحة نسبة ذلك الشعر، بل إن منهم من ردَّ عليه وسفَّه قوله، ثم يحرر أيضًا موقف محمد بن سلَّام صاحب «طبقات فحول الشعراء» من الشعر المصنوع، وكيف ضلَّ بكلامه من لم يفهمه على وجهه.
وآخر هذه المقالات: «من التحقيقات اللغوية»، وهو بحثٌ لغويٌّ محرر كتبه محمود شاكر في السابعة والسبعين من خريف عمره، بمجلة «مجمع اللغة العربية» بالقاهرة في ربيع الأول 1407- نوفمبر 1986، وهو عضوٌ بالمجمع، أجاب فيه على ما أحاله عليه الدكتور مهدي علام بصدد بعض مشكلات اللغة في «المعجم الكبير» الذي يُعِدُّه المجمع.
هذه هي مقالاته الإحدى عشرة التي ضمَّها كتابنا وخلت منها «جمهرة المقالات» المنشورة، وهي ما صحَّ عندي نسبته لأبي فهر بالنصِّ لا بالاجتهاد، ولو فتحتُ الباب لإيراد محتمل النسبة ومظنونها لدخل منها غيرُ قليل، كما قدَّمتُ في مقالة مجلة «المختار من ريدرز دايجست»، لكني اقتصرتُ على اليقين، وانتهيتُ إلى ما علمت، وقد أحسن من انتهى إلى ما عَلِم.
ومن تلك المقالات التي للظن والاجتهاد فيها مسرحٌ ومجال بعض ما نشرته مجلة «المقتطف» في التعريف بالكتب ونقدها في بابها المشهور «مكتبة المقتطف» دون توقيع صريح باسم الكاتب، وذلك إبَّان نشاط محمود شاكر في تحرير ذلك الباب، كما تراه فيما نُشِر في جمهرة مقالاته[8].
ومن قرائن الظن أن يوقِّع الكاتب مقالاته بنجوم ثلاث (***)، كما كان يوقِّع محمود شاكر بعض مقالاته هناك، كما في مقالته التعريفية بكتاب «ملوك الطوائف» لدوزي التي أحال فيها على ما كتبه في مقال آخر ثابت النسبة له، وكلاهما ضمن جمهرة مقالاته[9].
ومن المقالات المحتملة: التعريف بكتاب «مفتاح كنوز السنة» لمحمد فؤاد عبد الباقي الذي ورد قبل مقال دوزي السابق دون توقيع[10]، ولم تثبته الجمهرة.
ومن قرائن الظن إحالته فيما ورد غفلًا من التوقيع على ما يحتمل أنه كاتبه في موضع آخر من «المقتطف»، كقوله في مقالة التعريف بكتاب «الجاحظ معلم العقل والأدب» لشفيق جبري: «أحسن الأستاذ شفيق جبري في كتابه المتنبي الذي عرضنا له بالنقد والتحليل في مقتطف العام الماضي»[11]، وهذه المقالة والمقالة التعريفية بكتاب «المتنبي» التي يشير إليها[12] كلاهما لم توقَّعا باسم كاتبهما ولم تثبتا في «جمهرة المقالات»، وإن كانت الأولى وقِّعت بثلاث نجوم (***)، وقد قال في مقالة التعريف بكتاب «أدب الجاحظ» للسندوبي: «وقد اطلعنا في خلال الشهرين الماضيين على كتابين من الكتب الحديثة في الجاحظ، الأول: كتاب شفيق جبري، وقد ذكرناه في مقتطف أكتوبر الماضي، والثاني: الكتاب الذي بين أيدينا الآن»، وهذه المقالة وإن لم توقَّع باسم أحد، لكنها وردت قبل مقالة التعريف بكتاب «الصاحب بن عباد» الموقَّع باسمه، وأُثبتتا جميعًا في «جمهرة المقالات»[13]، وموضعُ الظن فيما تقدم أنه يَرِد على قوله «عرضنا» و«ذكرنا» احتمال أن يكون أراد بـ(نا) إدارة تحرير «المقتطف»، فإن كان أراد نفسه[14] فهي من فوات المقالات.
وثمَّت مقالةٌ أخرى ذُكِرت في بعض القوائم الببليوغرافية المنشورة لأعمال محمود شاكر بعنوان «كتاب الأم للإمام الشافعي، البلاغ 1930»، كذا أوردها جمعة الياسين في قائمته الأولى[15]، وتبعه من تبعه[16]، ولم أقف عليها، وذكر لي أخي الأستاذ محمد بن سعود الحمد أنه بحث عنها في أعداد تلك السنة من مجلة «البلاغ» والتي قبلها والتي بعدها فلم يجدها.
ومن المقالات المنشورة لأبي فهر في المجلات والصحف ما قد يشتبه أمره على غير المتثبت، فيظنه من فوات «الرسيس» أو «الجمهرة»، ولا يعلم أنه منشورٌ فيهما بعنوان مختلف! ذلك أن بعض المجلات تعيد أحيانًا نشر مقالاتٍ نُشِرت من قبل في مجلاتٍ أخرى، وتضع لها عناوين جديدة، كما في مقالة «شعب واحد وقضية واحدة» المنشورة أولًا في مجلة «الرسالة»، ثم أعادت مجلة «الفتح» نشر فقراتٍ منها بعنوان «نحن العرب» في العدد 845، 3 رجب 1366، وعن مجلة «الرسالة» نُشِرت المقالة في «جمهرة المقالات»[17].
* * *
ثم تأتي من بعد ذلك نصوصه الأدبية التي ترجمها -أو «أفرغها في القالب العربي» كما هي عبارته الطريفة التي أثبتها في توقيعه آخر ترجمته- سنة 1934 عن الإنجليزية لثلاثة من كبار الأدباء العالميين، وننشرها اليوم أول مرة بعد أن بقيت حبيسة مجلة «المقتطف» نحو ستة وثمانين عامًا، وقد خلت منها «جمهرة مقالاته» ومجموع شعره «اعصفي يا رياح وقصائد أخرى»
النص الأول «الإنذار المثلث» لأرثر شنتزلر، والثاني «جَنَّة العاملين» لطاغور، والثالث «القارئ يناجي شاعره» لرتشرد لا غالين.
وهي نصوصٌ أدبية عالية الأسلوب، فيها ألوانٌ من الصنعة البيانية، وفنونٌ من التعبير الدقيق عن المعاني، وقد افتتح النص الأول بقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] تحرُّجًا مما قد يوهمه النصُّ من علم غير الله بالغيب.
وقد ترجم محمود شاكر سنة 1934 بضع قصائد عن الإنجليزية في مجلة «المقتطف»، ونشرها ابنه فهر فيما جمعه من شعره.
* * *
ومن مواد هذه المجموعة التي تُنْشَر أيضًا أول مرة في كتاب: ملخَّصات محمود شاكر لبعض محاضرات أستاذه المستشرق الإيطالي الكبير كارلو نلِّينو (ت: 1938) التي ألقاها عليهم بكلية الآداب بالجامعة المصرية سنة 1927 عن تاريخ اليمن قبل الإسلام وجهود المستشرقين الأوروبيين في دراسته، وهي محاضراتٌ محرَّرة غزيرة الفائدة، نشر أبو فهر ما لخَّصه منها في أربع مقالات بمجلة «الزهراء» في ذلك العام[18]، ولم يكملها.
وقدَّم لها الأستاذ محب الدين الخطيب بقوله: «العلامة المحقق الأستاذ نالينوNallino .A C. الإيطالي في الطبقة الأولى من علماء المشرقيات لهذا العهد، تولى تدريس العربية في كلية بالرمة، ثم في جامعة رومة، وهو صاحب محاضرات «تاريخ علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى» في الجامعة المصرية القديمة، وناشر «زيج البتاني» سنة 1903.
وقد بدأ في هذا الشهر بإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية عن تاريخ اليمن القديم، وقدَّم بين يدي البحث خلاصة في أسماء الأوروبيين الذين ارتادوا تلك الديار باحثين عن ماضيها وحاضرها، ونحن ننشر ذلك ملخصًا مما كتبه صديقنا السيد محمود شاكر الذي أخذ على نفسه كتابة هذه المحاضرات سماعًا من الأستاذ نالينو» [19].
ولم يكن نلِّينو يطلع على هذه الملخصات قبل نشرها في المجلة، ولذلك وقع في المقالة الأولى بعض السَّهو في مواضع يسيرة، فأرسل لهم استدراكًا نشرته المجلة في آخر المقالة الثانية، وصدَّره الخطيب بقوله: «بدأنا في الجزء الماضي بنشر المعلومات القيمة التي يلقيها العلامة المحقق الأستاذ كارلو نالينو Nallino.A. C على طلبة الجامعة، واعتمدنا في نشرها على المذكرات التي يكتبها صديقنا السيد محمود محمد شاكر سماعًا من الأستاذ، ولما اطلع الأستاذ على ما نُشِر من محاضراته في الزهراء وقع ذلك منه موقع الرضا، وكلَّف نفسه مهمَّة الاطلاع على ما سننشره قبل نشره تفاديًا من وقوع الخطأ في الأعلام وغيرها، وكتب لنا بخطه استدراكًا لما وقع من ذلك فيما نُشِر في الجزء الماضي، ولم يطلع عليه قبل نشره»، ثم أصبح نلِّينو ينظر فيها قبل أن تنشر كما ذكر الخطيب في مطلع المقال الرابع.
وقد كانت الصِّلة بين نلِّينو ومحمود شاكر يومئذ موثقة العرى، قوية الأسباب، وكان من أوائل من صارحهم وأفضى إليهم بسخطه من سطو طه حسين على مقالة مرجليوث في قضية الشعر الجاهلي، وكان نلِّينو يعرف ولكنه يُدَاوِر، كما يقول أبو فهر[20]، ثم حين قرَّر ترك الجامعة بعد أن سقطت هيبتها من نفسه، طالبًا للعزلة حتى يستبين وجه الحق في هذه القضية، كان نلِّينو على رأس من حاولوا ثنيه عن قراره وإقناعه بالرجوع، وزاره في بيته وكلَّم والده واجتهد في إقناعه بكل سبيل، وكان يؤمِّل فيه آمالًا عريضة ويتابع ما يكتبه في الصحف باهتمام وإعجاب[21].
وقد وصفه محمود شاكر فقال: «شيخٌ مهيب الطَّلعة، كثُّ اللحية، واسع العلم، فصيح اللسان بالعربية»[22]، وعدَّه من كبار المستشرقين[23].
* * *
وينفرد «رسيس الهوى» بحوار صحفيٍّ لمحمود شاكر لم يسبق نشره من قبل في كتاب، وهو الحوار الذي أجرته معه مجلة «الفيصل» في شوال 1399- سبتمبر 1979، وفيه آراء صريحة لأبي فهر حول اطراحه لمصطلح «التحقيق»، وموقفه من التراث، والمستشرقين، وترجمة القرآن، وغير ذلك. وقد نقل منه الدكتور عبد العظيم الديب فقراتٍ في محاضرة له بعنوان «نحو خطة واعية لإحياء التراث الإسلامي» نُشِر مجملها في «مجلة الأمة»، العدد الثالث والأربعون، السنة الرابعة، رجب 1404، إبريل 1984.
فبذلك يكون هذا الحوار خامس ما ينشر للناس من حوارات محمود شاكر ولقاءاته، وقد نُشِرت الأربعة الأولى في كتاب «ظل النديم» للصديق العزيز وجدان العلي، وهي:
حوار إذاعة الكويت، في عيد الأضحى سنة 1390 – 1971، حاوره الدكتور نجم عبد الكريم، وهو أهمُّ حوارات محمود شاكر وأوعبها، وقد أحسن الأستاذ وجدان أيما إحسان حين نشره بحروفه تامًّا غير منقوص، وكانت مجلة «الأدب الإسلامي» قد نشرته في العدد التذكاري الخاص برحيل فارس التراث محمود شاكر، العدد السادس عشر سنة 1418 – 1997، ثم نشره الدكتور نجم عبد الكريم في الجزء الثاني من كتابه «شخصيات عرفتها وحاورتها» سنة 2012، وفيما نشره هو والمجلة اختصارٌ وتصرُّفٌ كثير!
حوار المجلة العربية، سنة 1985، حاوره محمد الشاذلي شحاتة.
لقاء كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، سنة 1980.
حوار مجلة العربي، حاورته سعدية مفرح سنة 1989، وتأخر نشره إلى سنة 2007.
* * *
ويزدان الرسيسُ بنصوص شاكرية دافئة هي بعض رسائله الخاصة التي بعثها إلى شيوخه وإخوانه، تراه فيها على سجيته في حديثه وكتابته ودعابته وتعبيره عن ذاته ومشاعره ومواقفه من الناس وشؤون الفكر وشجون الحياة، لا موضع فيها لتكلُّف، ولا أثر لاختلافٍ بين خاصَّة أمره وجليَّة حاله، ما هو إلا العفو محضًا والصدق خالصًا غير ممزوج.
أولها رسالةٌ عتيقة أرسلها في الرابعة والعشرين من عمره للمحدِّث الكبير الشيخ عبد الحي الكتاني بتاريخ 29 مارس 1933، وبقيت محفوظة بمكتبة الكتاني في الخزانة العامة بالرباط سنواتٍ طوالًا حتى نشرها الدكتور إبراهيم الكوفحي سنة 1999، وكان الشيخ عبد الحي الكتاني قد زار مصر سنة 1933، والتقاه يومئذ محمود شاكر وأعجب به ولازمه وصحبه في سفره إلى طنطا للقاء الرافعيِّ، كما فصَّلتُ في حاشية الرسالة هناك، وكان له في نفسه أثرٌ عظيمٌ أبان عنه فيما كتبه في مجلة «المقتطف»[24]، ثم فيما بثَّه في رسالته هذه، أصدق بيانٍ وأبلغه.
وثاني الرسالات وثالثها بعثهما أبو فهر بعد خروجه من السجن سنة 1959 إلى صديق من أصدقاء عمره الذين لم تبلَ مودَّتهم، وهو الدكتور ناصر الدين الأسد[25]، وفيهما ألوانٌ شتى من الأدب الرفيع، والبيان العالي، والبوح الصادق، والجدِّ والهزل، والتباريح والهموم، لمن أحبَّ معرفة محمود شاكر من قريب.
والرسالة الرابعة أرسلها أبو فهر للدكتور شاكر الفحام سنة 1960، وفيها إشارة إلى جفوة طارئة وقعت حينئذ بينه وبين أخيه وصاحبه العلامة أحمد راتب النفاخ، وفوائد أخرى مطرَّزة ببيان أبي فهر وظرفه تتصل بمسائل من العلم وأخبار الكتب والمستشرقين.
وباب الرسائل الخاصة كما قد علمتَ لا ينتهي بمن استفتحه إلى غاية، ولا أمل لأحدٍ في استقصاء ما بأيدي الناس منه، وإنما اخترتُ من الرسائل في الكتاب ما ظننتُ فيه إمتاعًا وتاريخًا وفائدة، وهي هذه الرسائل الأربع، وأعرضتُ عن رسائل أخرى من جنس الماجريات ومعتاد الحديث الذي لا غناء فيه لغير صاحبه في أوانه.
* * *
وآخر أبواب الكتاب وخاتمته تصحيحاتٌ واستدراكاتٌ كتبها شيخ العربية أبو فهر في صدر شبابه لبعض الكتب التي كان ينشرها صديقه الكتبيُّ الكبير محمد أمين الخانجي، وكان به حفيًّا، وبموضعه عارفًا، فهو يقول في مقدمة كتاب «جمع الجواهر في الملح والنوادر» للحُصْرِي الذي نشره سنة 1935: «وكان صديقي الأديب الفاضل البحاثة الأستاذ محمود محمد شاكر يودُّ أن يُعنى بما أنشره من الكتب الممتعة، فسألته قراءة الكتاب بعد طبعه، فتفضَّل بذلك، وأرسل إليَّ المستدرك الذي يهمُّ كل أديب استدراكُه، فجعلته تتمة للأصل»، ويقول في آخر كتاب «سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي الذي نشره سنة 1932: «عرضتُ النسخة قبل تسليمها إلى القراء الكرام على صديقي الفاضل المحترم الأستاذ محمود محمد شاكر، فقرأها قراءة إمعان، وكتب ما عنَّ له من الاستدراك وصواب ما وجده من الأخطاء …».
وعمرُ محمود شاكر يومئذ بين الثالثة والعشرين والخامسة والعشرين، وقد قصَّ علينا وهو في عشر التسعين من أخباره مع أمين الخانجي وذكرياته معه وفضلِه عليه قَصصَ المحبِّ الحافظ للعهد[26].
وقد انتفع بهذه التصحيحات طابعو الكتابين من بعده، وإن كان أحدهم وهو الشيخ عبد المتعال الصعيدي لم يحسن صنعًا حين كان يذكر في بعض هوامش نشرته لكتاب «سر الفصاحة»: «وصححه بعضهم»! وكان عليه أن يذكر أن هذا التصحيح من عمل الأستاذ محمود شاكر، كما يقول الدكتور النبوي شعلان في مقدمة تحقيقه للكتاب، كما انتفع بكثير من تصحيحات أبي فهر لكتاب «جمع الجواهر» الأستاذ علي البجاوي في طبعته للكتاب دون أن يشير إلى ذلك!
والكتاب الثالث الذي أوردنا تصحيحات شيخ العربية له هو «رسائل ابن حزم» التي نشرها الدكتور إحسان عباس، فقد قرأها أبو فهر في طبعتها الأولى وقيَّد بعض ما رآه على طرر نسخته، وزوَّدها أخاه الدكتور إحسان الذي انتفع بها وأثبتها شاكرًا لصاحبها، فقال: «تفضل أخي وأستاذي العلامة الكبير محمود محمد شاكر، فزوَّدني بهذه القراءات لنصِّ الجزء الأول من رسائل ابن حزم (وبخاصة طوق الحمامة)، فأنا أثبتها لفائدة القراء، واعترافًا بفضل الأستاذ الكريم» [27].
* * *
وكان من منهجي في إعداد الكتاب:
– ترتيب مقدمات أبي فهر ومقالاته ومترجماته وسائر الموادِّ الأخرى بحسب تواريخ نشرها، ليتبيَّن القارئ تسلسلها الزمني، وموضعها من تراث شيخ العربية، وليلتمس منها ما يلتمس من الوقوف على تطوُّر فكره وبيانه، وينتفع بها في معرفة المتقدم والمتأخر منها عند الاستشكال والترجيح.
– لم أقصد إلى التعليق على ما للمناقشة والاعتراض فيه مجالٌ من نصوص الكتاب؛ إذ ليس ذلك من شأني وشأن ما أردتُ من جمعه، وإنما اجتهدتُ في قراءته وأدائه إلى القارئ كما كتبه صاحبه إن شاء الله، وهو وما كتبَ بعد ذلك، وإن كان في بعض ما ذكره ما يغري بالتعليق، كقوله عن المستشرقين في حوار مجلة «الفيصل» معه: «المستشرق إنسانٌ فَشِل في أن يكون شيئًا ظاهرًا في أمته! إنسانٌ يئس من أن يكون أديبًا»؛ فإن هذا ليس من العدل والنَّصَفة، ولئن صحَّ ذلك في بعض أغمارهم وضعفائهم فما هو بالحقِّ في كبارهم، كنولدكه، ونلينو، وبروكلمان، وغيرهم ممن هو غير مدفوع عن ذكاء وسعة اطلاع وغزارة إنتاج، وإن اختلفنا معهم قليلًا أو كثيرًا، ودراسة موقف أبي فهر من المستشرقين لا يغني فيها تعليق.
– حافظتُ في مواضع كثيرة على علامات الترقيم التي وضعها الأستاذ محمود شاكر، كالفواصل التي يضعها موضع الشرطتين الاعتراضية مثلًا، خاصة مقالته «من التراث» التي اختار فيها قصيدة ابن المعتز وشرحها، فقد التزمتُ ضبطه للأبيات وترقيمه للنص وطريقة كتابته، فلم أتصرَّف فيه ولم أجعل الأبيات في عمودين؛ لأن في وصلِه لما وصله ووضعِه للفواصل حيث وضعها إبانةً عن فهمه للأبيات وما يراه من مواضع السَّكت والتغنِّي فيها، وأثبتُّ لذلك ما أثبته من النجوم الفاصلة في مواضعها بين الأبيات؛ لأن فيها كذلك تنبيهًا على ما يذهب إليه من أمر تشعيث الأزمنة ووحدة الأبيات، وأخشى أني لم ألتزم ذلك في غيرها في كل موضع، وأبو فهر كما رأيت يسرف كثيرًا في استخدام الفواصل.
– عزوتُ الآيات، وخرَّجتُ الأحاديث، ونسبتُ الأشعار، ووثقتُ النقول من مصادرها التي سمَّاها أبو فهر أو غلب على ظني أنها مصادره.
– أثبتُّ تعليقات أبي فهر وختمتها حيث وردت باسم جدِّه «شاكر»، إلا تعليقاته الشارحة لقصيدة ابن المعتز فلم أثبت اسمه في نهاية كل تعليق منها اختصارًا، وما سوى ذلك من التعليق في عامة الكتاب فممَّا جنته يداي.
* * *
وبعد، فهذا عملٌ غرسَه الحبُّ، وروَّاه رسيسُه التالدُ في القلب، ورعاه الوفاء المستحقُّ، والبـرُّ الواجب، والاعترافُ بالفضل لعلم من أعلام هذه الأمة الكبار، وحارس من حَرَس لغتها الأمناء، وشهاب من شُهُبها الثواقب، ليبقى من بعدُ كما قال هو في شيخه من قبلُ «ميراثًا نتوارثُه، وأدبًا نتدارسُه، وحنانًا نأوي إليه»، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] انظر لمعنى «الرسيس» وما قيل فيه إن شئت «ديوان ذي الرمة» بشرح أبي نصر الباهلي (1015، 1193، 1229)، و«العين» (7/191)، و«الجمهرة» (1/120)، و«تهذيب اللغة» (12/290)، و«بقية الأشياء» لأبي هلال (92)، و«المخصص» (4/346)، و«النظام» لابن المستوفي (2/193)، و«روضة المحبين» لابن القيم (73).
(2/1218- 1226) [2]
» [3]مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي« (151).
[4] كمسرد الأعمال المنشور في مقدمة «الدراسات العربية والإسلامية المهداة إليه» وقد أعدَّه بإشراف أبي فهر ودلالته صاحبه جمعة ياسين، والقوائم التي ضمتها الكتب التالية له، ككتاب «من أعلام العصر» لأسامة بن أحمد شاكر (83- 100)، و«أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق» لمحمود إبراهيم الرضواني (479- 499)، وغيرهما من الكتب المفردة في دراسة سيرته وأدبه.
[5] »حياة الرافعي (212، 281 282). »
وتأمل رسالته التي بعثها إلى الرافعي يستحثُّه للردِّ على من زعم أن عبارة «القتل أنفى للقتل» أبلغ من الآية القرآنية، قال فيها: «أكتبُ إليك متعجلًا بعد أن قرأتُ كلمةً كافرةً في «كوكب الشرق» الصادر مساء الجمعة 27 من أكتوبر، كتبها متصدِّرٌ من نوع قولهم: حبذا الإمارة ولو على الحجارة. وسمى نفسه «السيد»، فإن صدَق فيما كتب صدَق في هذه التسمية. طعن القرآنَ وكفر بفصاحته، وفضَّل على آية من كلام الله جملةً من أوضاع العرب، فعقد فصله بعنوان «العثرات» على ذلك التفضيل، كأنَّ الآية عثرة من عثرات الكتَّاب يصححها ويقول فيها قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة، وبرقع وجهَه وجبن أن يستعلن، فأعلن بزندقته أنه حديثٌ في الضلالة. غلى الدمُ في رأسي حين رأيت الكاتب يلجُّ في تفضيل قول العرب: «القتل أنفى للقتل» على قول الله تعالى في كتابه الحكيم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فذكرتُ هذه الآية القائلة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]، وهذه الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112]، ثم هممتُ بالكتابة، فاعترضني ذكرُك، فألقيتُ القلم؛ لأتناوله بعد ذلك وأكتب به إليك. ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا لتكتبنَّ في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقةٌ إن تُرِكَت تأخذ مأخذَها في الناس جعَلت البَرَّ فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. واعلم أنه لا عذر لك، أقولها مخلصًا، يمليها عليَّ الحقُّ الذي أعلم إيمانك به، وتفانيك في إقراره والمدافعة عنه والذود عن آياته. ثم اعلم أنك ملجأٌ يعتصم به المؤمنون حين تناوشهم ذئابُ الزندقة الأدبية التي جعلت همَّها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني. ولست أزيدك؛ فإن موقفي هذا موقف المطالب بحقه وحقِّ أصحابه من المؤمنين. واذكرْ حديث رسول الله ﷺ: «من سئل علمًا عَلِمَه، فكتمه، جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار» أو كما قال. والسلام عليكم ورحمة الله. م. م. ش». «وحي القلم» (3/263)، و«رسائل الرافعي إلى أبي رية» (267).
واقرأ كذلك فيما سيأتي قوله في رسالته إلى الشيخ عبد الحي الكتاني سنة 1933: «أرجو أن لا تنسوني من الدعاء لي بالتوفيق والهدى والرحمة، ولو كنتَ تعلم سرَّ قلبي وما انطوى عليه من القلق إلى الخروج من هذا البلد الممتلئ بالمآثم والمخازي لجهدتَ في دعائك لي، واجتهدتَ اجتهاد من لا غاية له إلا ما يدعو وما يسأل»
[6] صحيفة الفتح، العدد 16، ربيع الأول 1353- يونيو 1934، وفي «جمهرة المقالات» (2/771- 777).
[7] «أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق» للرضواني (24).
(2/614- 707). [8]
(2/695-623) [9]
[10] مجلة «المقتطف»، الجزء 2، المجلد 85، أكتوبر 1934، ص 250.
[11] مجلة «المقتطف»، الجزء 3، المجلد 81، أكتوبر 1932، ص 367.
[12] مجلة «المقتطف»، الجزء 4، المجلد 77، نوفمبر 1930، ص 466.
(2/614) [13]، 618
[14] وهو ما رآه الدكتور إبراهيم الكوفحي في كتابه «محمود محمد شاكر سيرته الأدبية ومنهجه النقدي (56).
[15] «دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية الكبير أبي فهر محمود محمد شاكر بمناسبة بلوغه السبعين» (20- المقدمة).
[16] «من أعلام العصر» لأسامة بن أحمد شاكر (83)، و«أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق» لمحمود الرضواني (485).
(1/410).[17]
[18] المجلد 3، الجزء 8 و9 و10، والمجلد 4، الجزء 1و2. والمقالة الرابعة لم تذكر في شيء من القوائم الببليوغرافية المنشورة لأعمال الأستاذ محمود شاكر. وقد وعد محبُّ الدين الخطيب في الجزء 4 من المجلد 4 ص 205 بنشر مقالة أخرى من هذه الملخصات، لكن لم أجدها.
[19] مجلة الزهراء، شعبان 1345، المجلد 3، الجزء 8، ص 502.
) [20]المتنبي 17، 19(
[21] جمهرة المقالات (2/1107- 1112).
[22] المتنبي (18).
[23] جمهرة المقالات (1/121).
[24] الجزء الرابع، المجلد الثاني والثمانين، 6 ذي الحجة 1351- 1 إبريل 1933، وضمن «جمهرة مقالات محمود شاكر» (2/630- 634).
[25] أهدى محمود شاكر في آخر عمره نسخة من كتابه الذي صدر قبل سنة من وفاته «نمط صعب ونمط مخيف» إلى ناصر الدين الأسد، وكتب في إهدائه بقلم مرتعش: «إلى صداقة عمرٍ لم تتغيَّر ولم تتبدَّل.. ومحبَّة لا تبلى». انظر: «محمود محمد شاكر سيرته الأدبية ومنهجه النقدي» لإبراهيم الكوفحي (72).
[26] جمهرة المقالات (2/1228- 1230).
[27] رسائل ابن حزم» (2/245)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 1987.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد