بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما لا ريب فيه أن الدعوة الإسلامية تواجه عددا من المعوقات الخطيرة، التي أثرت سلبا على مسيرة الدعوة، ولا زالت تلقي بظلالها وتأثيراتها الضارة على جهود الدعاة، في صور شتى وألوان عدة، تتقاسم الأذى، وتتوارد فيما بينها على مائدة الصد عن سبيل الله، مثيرة الشماتة من العدو والشفقة والأسى من الصديق. (الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي بن غزاي المطيري، جامعة أم القرى، ط 1، 1431 هـ، ص 256: 201 بتصرف يسير.)
وفي الواقع المعاصر لاقت الدعوة الإسلامية صنوفا من الأذى وألوانا من الحقد والكراهية، على أيدي أعدائها ومعارضيها، فكان ذلك سببا من الأسباب التي تعوق وصول الدعوة الإسلامية للعالم رغم سهولة وسرعة أساليبها ووسائلها الحديثة، ولا أزعم أنني في هذا المقال القيام بحصر جميع المعوقات واستقراءها في ضوء الواقع المعاصر، ولكنني أشير بإيجاز إلى أهمها على النحو التالي:
المعوقات الداخلية:
المعوقات مفردها: معوق، من تعوق بمعنى: امتنع وتثبط والعَوقَةُ: الذي يعوق الناس عن الخير). المعجم الوسيط لمجموعة من المؤلفين، 2/637)
والمعوقات في الدعوة: الموانع والمثبطات أمام نشر الدعوة. (الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري، ص: 199)
ولا شك أن من أخطر المعوقات الداخلية ما يلي:
1- التحزب:
كانت الحزبية في العرب قبل الإسلام تقوم على النظام القبلي والعصبية القبلية ووحدة الدم، وكانت كل قبيلة عبارة عن حزب من الأحزاب، والحزبُ الأم لهذه التجمعات القبلية قريش.
فجاء الإسلام وحثَّ على الاجتماع وأخوَّةِ الإيمان وقامت الدولة الإسلامية تحت لواء الإسلام، عليه يعقدُ الولاءُ والبراء، وتحت سلطة شرعية واحدة، تُعقدُ لها البيعة ويُدانُ لها بالسمع والطاعة، وكلَّما بدا مظهر من مظاهر التحزب والعصبية كَبَتَهُ النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى لحقَ بالرفيق الأعلى، ولا حزبيةَ ولا طائفيَّة، كل مسلم يحتضنُ الإسلام ويحتضنُ المسلمين.
فكانَ المسلمون عند وفاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غيرَ من أظهرَ وفاقا أضمرَ نفاقا.
وهكذا كانَ الأمرُ حتى مقتلُ أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- عام 23 هـ، وبايع الناسُ عثمانَ بنَ عفان -رضي الله عنه-، وظهرت الدعوات السرِّية التي كانت تظهرُ الوفاق وتُضمرُ النفاق، حتى مقتل عثمان، وتمت البيعةُ لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلا أنه واجه انقسام حزبي في الأمّة إلى فرقتين حتى قُتل عام 40 هـ.
ثم أخذت الأحزابُ والجماعاتُ والطوائفُ في الظهور علنا وبمذاهبَ عقدَّية تحت ألقا ب أربعة: القدريةِ والشيعةِ والخوارجِ والمرجئةِ، ثم تشعبت هي نفسهُا إلى فر ق شتى.
وما كل واحدة من هذه الفرق إلا شوكة في عُرضِ الدولة الإسلامية تهد من كيانها وتُصدّعُ تماسكها.
وفي الواقع المعاصر، تعاني الدعوة الإسلامية، من أطياف الفكر المتناقضة، وصراع المدارس الدعوية المتعارضة، التي استهلكت كثيرا من أوقاتها في إقامة المحاور وتعبئة الأتباع، وإقصاء المخالف وتوجيه النقد اللاذع إلى الخصوم، والضحية شباب غر بهم وُظفت قدراته وأسُتغل حماسه للدعاية الحزبية وتأجيج العواطف وتسويق الإشاعات وبث الأراجيف، والتورط في مهام قذرة تقشعر لها أبدان الذين يخشون ربهم، مما أفضى إلى ظهور التقليد والتعصب الدعوي من أوسع أبوابه وأبشع ألوانه وأقبح تطبيقاته، انتهى إلى رفض الحق الذي عُرف به المخالف، ووصمه بمختلف الأحكام القاسية والألقاب المنفرة، وأصبحت التزكية بالانتساب والإتباع مرهون بالإعجاب، والقدح والمدح على شؤم جناح السماع من غير سبر ولا اختبار، ومرد ذلك تغلغل عرق الحزبية في نياط المشاعر وأخذه بتلابيب العواطف، والحزبية.
فما كان الإسلام يوما من الدهر مفرقا بين المسلمين أو ناصرا لتيار العنصرية أو منوها بمورثات العصبية، ومن جنح لها محبذا أو داعيا، فإنه لم يفهم الإسلام على حقيقته، وما ازدهرت دعوات العنصرية إلا في عصور الانحطاط وأوان عهود السقوط الأخلاقي والتخلف العلمي. (انظر: الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري، ص: 201 وما بعدها.)
وفي القرآن الكريم ذم مطلق لكل من ابتغى في الإسلام سنن التحزب والطائفية قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ{ الأنعام: 159.
فالبراءة من الحزبية صبغة منهجية في الإسلام، لا تنفك في جميع الأحوال، مهما حاول عشاق التحزب وأرباب العصبية أن يتمحلوا لها مسوغا، فلو لم يكن في التحزب إلا ضرب عقيدة الولاء والبراء وتضييع حقوق المسلمين والمؤمنين، لكفاه موبقة مجرَّمة وجريرة ملوثة، تفعل فعلها في دك سياج الوحدة وإغراء أعداء الملة، في تقطيع أوصال الأمة.
فلابد من تدشين حملة مكثفة ونشطة لنشر الوعي بأهمية الوحدة بين المسلمين، حيث يقف الجهل عائقا أمام ذوبان تراكمات التعصب والعصبية.
2- الصراع على الهوية:
الهوية في الأصل، مصطلح فلسفي (يدل على ما به يكون الشيء هو نفسه وتستعمل كلمة هوية لتعبر عن خاصة المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله) (الموسوعة الفلسفية العربية لمجموعة من المؤلفين، معهد الإنماء العربي، رئيس التحرير د. معن زيادة، 1 / 821 باختصار.)، ثم استخدمت في البحوث الثقافية المعاصرة للتعبير عن خصائص كل أمة وما تتميز به من تراث وتاريخ وحضارة.
والمعضلة التي تواجه الدعوة في الواقع المعاصر، انقسام آراء النخبة المثقفة وعدم اتفاقها على هوية واحدة، مما ولِّد صراعا شديدا حول الهوية الحضارية للأمة المسلمة، بين فكر شيوعي اشتراكي وآخر عروبي قومي وتيار ليبرالي علماني، وبين ذلك فكر إسلامي منقسم على نفسه، فهذا الخليط العجيب والتراكم الغريب جعل العالم الإسلامي، ساحة حرب فكرية وكلامية لا يهدأ أوارها، استتبع تيها حضاريا، خَلّف تشرذما سياسيا وتخلفا اقتصاديا وهزائم عسكرية مزرية، وانعكست تلك الآثار على واقع الدعوة الإسلامية، التي رأت فيها التيارات المناهضة للإسلام، خطرا يهدد حاضرها ومستقبلها وساعد على ذلك حماقة ورعونة بعض من ينتسب إلى الدعوة أدى إلى الدخول في التورط في أعمال متهورة وتصرفات رعناء ضارة، مما أوجد صراعا بين الإسلام والعلمانية من جهة وبين الإسلام والفئات المنحرفة عنه من جانب آخر، انتهى بدوره إلى تأزم الصراع بصورة دورية، يطفو أحيانا حتى يصل إلى حد الصراع المسلح، ويخبو أحيانا أخرى كمثابة النار تحت الرماد، ليثور بصورة مفاجئة متى سنحت الفرصة لنشاطه، وليس من شك أن العناصر المتطرفة من مختلف الأطياف الفكرية تقف وراء تأجيج ذلك الصراع، كلما بدت ظروف مناسبة أو لاح في الأفق بوادر فتنة، ولا تزال قابلة للتجديد، حتى ينتهي الصراع الطويل الأمد حول الهوية الذي يتغذى باستمرار من سوء الفهم للإسلام من جانب العلمانية ورموزها وسوء تقدير وتعامل من بعض الإسلاميين، أدى إلى الدوران في تلك الحلقات المفرغة، مع الاعتراف بالدور الكبير الذي ترعاه دوائر الفكر الغربي في الضغط المباشر والخفي المقترن بالترهيب والترغيب في كل اتجاه، يوسع شقة الخلاف ويأزم الموقف ويدعم الخيار العلماني، ليس من أجل بعث نهضة حضارية حقيقية وإنما لإبقاء نفوذه وتعميق تبعيته، والتأليب ضد كل ما يتصل إلى الإسلام بصلة، والحق أن الطروحات النهضوية في الإسلام لا تتنافى مع المبادئ الإنسانية التي خلُص إليها الفكر الغربي بعد طول عناء مثل الحرية والمساواة والعدالة، ورفض الفساد والتدمير وصيانة حقوق الآخرين وذم الفوضى، والعناية البالغة بالعمران البشري، وليس بالعسير إقامة حوار عقلاني وهادئ بين الإسلام الصحيح والعلمانية المعتدلة، لإيجاد القواسم المشتركة لفض النزاع والصراع الطويل داخل العالم الإسلامي حول مختلف القضايا المتنوعة، وسوف يجد العلمانيون المعتدلون بغيتهم النهضوية من خلال قدرة الإسلام على الصياغة العصرية المؤثرة لسائر المعضلات الشائكة دون تنازل أو تنكر للثوابت الشرعية شريطة كبح جماح التيار المتطرف لدى الطرفين ).
انظر: الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري، ص 205: 207).
3- ظهور تيار العنف المسلح: ( مستفاد من كتاب الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري 208: 210).
لا يخلو زمان من ظهور تيار عنف، يؤمن بالقوة ويتحاكم إلى السيف لفرض رؤيته، وتجلى ذلك أولا على يد الخوارج في القرن الأول، ولكنهم جوبهوا بالرد الحاسم والجهاد القائم، حتى لم يبق لهم إلا آثار فكرية، تجسدت في مؤلفات أو فرق صغيرة معزولة، تخلت عن العنف من أجل البقاء، ثم تولت الباطنية بمختلف فرقها العنف وسيلة لبسط نفوذها وعاثت في الأرض فسادا، ساعد على قطع دابرها جهود رجالات صالحين من قادة وعلماء، وبعد ظهور الاستعمار في العالم الإسلامي، وتدشين حركة الاستقلال الوطني تغلغلت الأفكار الثورية ذات الصبغة القاسية التي تعتمد على التصفية الجسدية والتعذيب والمقابر الجماعية، سياسة لقمع الخصوم وتصفية للمعارضة السياسية، ولم تزل تلك التيارات غالبة وهائلة في العالم الثالث عموما وعلى بعض بقاع العالم الإسلامي والعربي خصوصا، وبظهور تيار ما يسمى بالصحوة الإسلامية، بدأ الصراع والعنف المسلح، يأخذ شكلا تنظيميا داخل بعض المجموعات الإسلامية، إما تحت شعار الجهاد ضد اليهود في فلسطين أو نتيجة لتمرد بعض القيادات وانشقاقها عن الجماعة الأم، فاندفعت باتخاذ خطوات تتبنى العنف المسلح وسيلة للتغيير، والانتقام مما حل بها من كوارث ونكبات فامتزج الدافع الشخصي مع البعد الحركي، ليؤلف منهجية فكرية تلتمس لها تأصيلا شرعيا ومتنفسا مكانيا، فكان غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان نقطة جذب مغناطيسية لم يكن بالحسبان، وفرت بيئة نادرة المواصفات والمقاييس، تدفقت عليها المساعدات من كل حدب وصوب، وتقاطر عليها الشباب المسلم من كل مكان، وحين وضعت الحرب أوزارها، كانت البنية التحتية والفكرية في أوج نشاطها في أرض حلال بعيدا عن الرقابة الحكومية المسيطرة، ولا بد أن تبحث لها عن خصم، فنظرت إلى عقر دارها ومسقط رأسها، يدفعها أحلام إقامة ما يسمى الخلافة الراشدة، تحت إشراف تنظيمات مختلفة، والتي اخترقت أمنيا وفكريا من أجهزة الاستخبارات العالمية وقيادات العنف المسلح والتكفير، حيث بدأت ترسل طلائعها الصغيرة داخل العالم العربي خصوصا، متعللة بأسباب مناسبة لكل بلد على حدة لإحداث أكبر قدر من الفوضى ولفت الأنظار إلى مشروعها العالمي، وتجنيد المزيد من الأتباع، تحت وطأة ظروف البطالة والفساد الأخلاقي والتشرذم السياسي والتخلف الاقتصادي وسطوة اليهود وشراسة معاملتهم للفلسطينيين والدعم الغربي غير المحدود لهم ضد العرب، وبوقوع أحداث 11 سبتمبر تجلى الصبح لذي عينين، وظهرت الحرب على ما يسمى بالإرهاب، لتعاقب الإسلام والمسلمين بجريرة شرذمة قليلة من أبنائه، فتم احتلال أفغانستان والعراق، واستمرت تلك الواقعة المشئومة في مشروع عسكري واقتصادي وثقافي وسياسي ضد الإسلام، لن يستطيع القضاء على ما يرومه، وإنما سيؤصل العنف المسلح ويرسخه بتجنيد المزيد من المتعاطفين مع تلك التنظيمات.
فلا شك أن تيار العنف المسلح علامة بارزة في الواقع المعاصر، حلت عقال الفتنة وراشت أجنحة الفرقة، وفتحت على الدعوة المعاصرة، أبوابا كانت مغلقة من البلاء والفتنة، داخل العالم الإسلامي وخارجه، وإن الوقوف عند ردود الفعل الآنية، واستقبال الظاهرة بمعالجة سطحية عجولة، لن يقضي على تيار العنف المسلح ولن يرمم آثاره المدمرة على المدى البعيد، إذ لا بد من الاستعانة بذخائر التاريخ ومنهج المسلمين الأوائل في مواجهة الخوارج والحركة الباطنية، كل في تخصصه على وفق العلم النافع والتربية الإيمانية والعدل السابغ وتحكيم شريعة الله.
ولعلي أقف عند هذا الحدّ مخافة السآمة والملل من جانب القارئ الكريم،
وأكمل في مقال قادم بمشيئة الله تعالى إن قدر الله لنا البقاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد