بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
بتوفيق الله عدت للتو من رحلتي الأولى إلى فطاني إحدى محافظات جنوب مملكة تايلاند، تلبية لدعوة كريمة من سعادة الدكتورين الفاضلين إسماعيل لطفي رئيس جامعة فطاني والهيئة الاستشارية لمؤسسة التنمية الاجتماعية، والدكتور محمد سماروه نائب الرئيس التنفيذي للمؤسسة، بصفتي نائباً شخصياً عن أخي وصديقي الفاضل سعادة الشيخ عبدالله بن خليفة بن عبدالله آل ثاني راعي الحفل الكريم الداعم لمشروع المؤسسة ذات النفع العام لأهالي منطقة فطاني وما جاورها، فتوجهت عبر طيران خطوطنا الوطنية إلى مطار العاصمة بانج كوك ومنها إلى مطار ناراثيوات جنوب البلاد عبر الخطوط التايلاندية ومنه إلى حيث مقر إقامتي في الفندق هناك، وقبل أن انتقل إلى وصف مجريات رحلتي الماتعة النافعة تلك، فمن الجدير بالذكر هنا تقديم لمحة تعريفية للقارئ الكريم عن محافظة فطاني:
اسم فطاني باللغة الملايوية يعني الأب المزارع وقديماً تطلق على المنطقة الجنوبية برمتها من مساحة مملكة تايلاند، وتقع في نطاق شبه الجزيرة الملايوية وكانت دولة إسلامية مستقلة، أما حاليا فإنها محافظة بين عدة محافظات جنوبية تابعة لمملكة تايلاند، وتنقسم إلى أربع مقاطعات فطاني وناريثيوات وجالا وستول، وقد دخلها الإسلام حسب ما أورده الدكتور محمد داوود سماروه في كتابه القيم مسلمو تايلاند التاريخ والمستقبل، منتصف القرن الخامس عشر الميلادي باتفاق المؤرخين، ومنهم من يرى أن الإسلام وصل فطاني في القرن الأول الهجري أي منذ القرن السابع الميلادي، وأن سبب دخولها في الإسلام يعود إلى قصة عجيبة مفادها باختصار:
أن ملكها الوثني أصيب بمرض عضال استعصى على جميع الأطباء فأعلم الملك رعيته أن من استطاع علاجه فإنه يزوجه من ابنته، وعندما وصل الخبر إلى إحدى القرى التي بها بعض المسلمين، ومنهم الداعية صفي الدين سعيد الذي قال لوفد الملك: أخبروه أني أعالجه إذا رغب في اعتناق الإسلام وليس بهدف الزواج من ابنته، فوافق الملك ظاهريا على شرطه وتعهد له بذلك فعالجه وشفي بإذن الله لكنه نقض عهده ولم يسلم، ورجع الشيخ إلى قريته صابراً محتسباً، ومقدراً ما يلاقيه الملك من وطأة التقاليد والمعتقدات الوثنية، ثم تنتكس حالة الملك ثانية ويعاوده المرض فيعاهد الشيخ أنه سيسلم إن استطاع علاجه، وقد تم ذلك بقدر الله، وهنا وجه الشيخ سعيد كلمة مؤثرة للملك قائلا: (يا جلالة الملك: إذا لم تكونوا صادقين في وعدكم فإن علاجي لن ينفعكم) مما يدل على قوة إيمان هذا الداعية وثقته بالله، مذكرا الملك أن هناك قوة سماوية هي التي تمنح الشفاء للمرضى، فيعالجه وتعود إليه صحته ويرجع الشيخ الداعية من حيث أتى، ويمر عام فيعود المرض مرة أخرى إلى الملك، وهنا أقر الملك بفضل الشيخ عليه وتعهد بالتزام تنفيذ وعده باعتناق الإسلام في حال شفائه على يد الشيخ وقد حصل بفضل الله، فأبلغ الشيخ الملك أنه إذا مرض مجددا فلن يعالجه مرة أخرى إن لم يف بوعده مهما تكن عقوبته، وبعد مضي شهر جمع الملك وزراءه ورجاله وأعوانه، وأعلمهم عن عزمه اعتناق الإسلام، فأقروه على ذلك، وأرسل إلى الشيخ سعيد وأبلغه بالخبر السعيد فجاءه ولقنه شهادة التوحيد ولقنها كذلك القواد والكهنة وخدام الملك، وعرض على الملك أن يختار لنفسه اسما إسلاميا وهنا طلب عهد الملك للشيخ بهذه المسؤولية فلقبه بالسلطان إسماعيل شاه وأسمى ابنيه بالسلطانين مظفر شاه ومنصور شاه وأختهما سيتي عائشة، وعين الشيخ صفي الدين سعيد مفتيا عاما في فطاني، وبذلك انتشر الإسلام بين عامة الشعب وأصبح دين الدولة الرسمي وتحولت المملكة الوثنية إلى الإسلام الذي أشرق بنوره على أرجاء البلاد، برحمة الله ثم بحكمة وإخلاص ذلك الداعية المسلم.
وسبق أن أشرت بأنها كانت مملكة إسلامية، وتشكل حاليا ما يعرف بشبه جزيرة الملايو، ومحافظة فطاني تقع على مسافة 1050 ألف وخمسين ميلا من بانج كوك العاصمة، وتستغرق الرحلة إليها بالطائرة ساعة ونصف إلى ساعتين حسب الأحوال الجوية، وتحدها ماليزيا جنوبا وبحر الصين شرقا، ويحدها غربا بحر أندامان المتفرع عن المحيط الهندي، ويقطنها حوالي سبعة ملايين نسمة تقريبا، يشكل المسلمون الملاويون النسبة الأكبر بينهم ومنهم من تعود جذوره الى أصول عربية، ويتحدثون بلغة الملايو ويكتبونها بالأحرف العربية مع زيادة حرف آخر، كما يجيدون التحدث بالتايلندية وكتابتها كذلك. والمحافظة المذكورة تزخر بثروات وموارد طبيعية وصناعية وفيرة.
بدأت النهضة الحضارية في فطاني مع دخول الإسلام إليها وانتشاره بفضل أخلاق وأمانة التجار العرب المسلمين، في القرن الخامس عشر الميلادي وعرفت حينها بدار السلام، وفي عصرنا الراهن فإن تلك المحافظة العزيزة تضم معالم حضارية زاهرة كالمدارس والمساجد والجامعات والمرافق التجارية والسياحية وتجمع في طرازها المعماري بين الهندسة الإسلامية والتايلندية، ومن مزايا المجتمع التايلندي أنه ودود متسامح، والمسلمون هناك يتعايشون مع بقية طوائف المجتمع بسلام واحترام متبادل وتفاعل منسجم، إضافة الى أن قوانين البلاد تشجع على ضمان الحريات والحقوق العامة وتصونها، وهذا المناخ الاجتماعي الصحي يعكس مدى السلوك الحضاري الذي يسهم المسلمون التايلنديون بفاعلية في ترسيخه وتعزيزه مع كافة أطياف المجتمع مع تمسكهم بعناصر شخصيتهم المميزة.
وهم حريصون على نشر الوعي والثقافة في أوساط الشباب المسلم، وأهمية المحافظة على هويتهم الإسلامية، وتفعيل دور التعليم والتدريب، والعمل الدعوي المبني على الاعتدال والوسطية، كما تؤدي جامعة فطاني دورا كبيرا في تزويد المجتمع بكوادر مؤهلة لقيادة عجلة التنمية المستدامة، ويشكل الخطاب الدعوي أفقا رحبا في المجالين الثقافي والفكري، من خلال الدعاة الحكماء سواء على منهج جماعة التبليغ الميدانية، أو المنهج السلفي، ويوجد مركز دعوي في مديرية سوغي كولوق وتعد جماعة التبليغ أكبر جماعة دعوية في فطاني التي دخلتها مطلع عام 1980 م، وتتكامل أدوارها مع اشقائها في بقية الجماعات الإسلامية، بينما قامت الدعوة السلفية هناك على جهود بناءة لرواد هذه الدعوة من أبناء فطاني القادمين من كبريات الجامعات الإسلامية في دول العالم العربي.
ولابد من الإشادة بجامعة فطاني الإسلامية التي تدمج بين المنهجين الشرعي والأكاديمي المعاصر، وتشكل واجهة حضارية مشرقة في مملكة تايلند، وتستقطب أعدادا كبيرة من الطلبة وتعتمد في تشغيلها على الموارد المالية من الهبات والصدقات والاوقاف الاستثمارية مع رسوم رمزية بسيطة تتقاضاها من الطلاب، وجدير بالذكر أن المحسنين والمحسنات من أهل قطر الحبيبة كانت لهم يد السبق في دعم وتشييد وتشغيل مرافق ومعامل جامعة فطاني إضافة إلى إخوتهم من رجال الأعمال والمحسنين من دول الخليج العربي، ومن اللافت الجميل، أن جامعة فطاني تعتبر أول جامعة على مستوى العالم تدرس مقررا جامعيا في السلم والتعايش بين أفراد المجتمع التايلندي، وتعتمده متطلبا جامعيا في كافة التخصصات.
حين وصلت مطار مدينة ناراثيوات قادما من العاصمة بانج كوك، عبر الخطوط الداخلية، كان بانتظاري واستقبالي بكل حفاوة وترحاب الدكتوران الفاضلان أبو حسام محمد سماروه وأبو حبان بن علي يوسف، اللذان تابعا تفاصيل رحلتي باهتمام بالغ، وخصصا لي سيارة حديثة فارهة بقيادة السائق الأمين ( أذهان )، حملتنا إلى فندق فخم أنيق خصصوه لإقامتي بينهم في محافظة فطاني التي تبلغ المسافة بين مركزها والمطار 90 كيلو متراً، ذهبنا صباحا لتدشين مبنى مؤسسة التنمية الاجتماعية الفطانية، برعاية كريمة ودعم سخي من أخي وصديقي ( أبو خليفة ) سعادة الشيخ عبدالله بن خليفة بن عبد الله آل ثاني راعي حفل الافتتاح الذي أوفدني ممثلا عن سعادته.
حضر الحفل البهيج المهيب سعادة الدكتور إسماعيل لطفي رئيس جامعة فطاني ورئيس المستشارين للمؤسسة، والسيد ناصر الجفري رئيس المجلس البلدي للمحافظة، ورئيس مديرية فناريق، ولواء المنطقة الرابعة، إضافة الى كبار شخصيات وأعيان المنطقة وجمهور غفير من كافة فئات المجتمع، تلا ذلك زيارتي لجامعة فطاني بدعوة كريمة من رئيسها الفاضل الذي اصطحبني في سيارته الخاصة المعدة لكبار الزوار، وجامعة فطاني مؤسسة تعليم عال إسلامية عصرية، وقفية أهلية غير ربحية، تقدم خدماتها الجليلة لطلبة مملكة تايلند عامة من الجنسين، تأسست منذ إحدى وعشرين عاما، ورغم حداثة عهدها إلا أنها تصنف ضمن أفضل الجامعات في آسيا والعالم وتنفرد بتدريس مقرر ( السلم والسلام )، شرفت بزيارتها والتقاء نخبة من اساتذتها الفضلاء منهم أحمد عمر وشكري يونس وعدنان إسحاق وعبد الرحمن يوسف، إضافة الى الدكتور سماروه مهندس ومنسق الرحلة وعقدنا اجتماعا مثمر النتائج. والجامعة إحدى مآثر ومحامد دولة قطرالتي أحرزت قصب السبق لذلك.
استكملت بعدها برنامج الزيارات واللقاءات بزيارة جامع التعاون في إحدى ضواحي المدينة وسرني مستوى التعاون والتكافل بين الأهالي هناك، توجهنا بعدها إلى مؤسسة مدينة السلام الفطانية الخيرية بدعوة كريمة من رئيسها الفاضل الدكتور اسماعيل لطفي ومساعديه الفاضلين الدكتور صالح طالب مدير المشاريع، والأستاذ عبد الأول صديق، مشرف اللجنة العلمية ودار بيننا حوار بناء، تلاه مأدبة غداء تفيض كرما وجودا، وتفقدت بعدها مرافق المشروع الحيوية، علما بأن المدينة المذكورة نموذجية التصميم وصديقة للبيئة وتبلغ مساحتها مليوني متر مربع، وتمتاز بموقعها على الطريق الآسيوي السريع الرابط بين جنوب تايلند بشمالها مرورا بالعاصمة بانج كوك وترفع شعار ومنهاج الحضارة العالمية بتطبيق مدلول الآية الكريمة (بلدة طيبة ورب غفور)، والحقيقة أنه مشروع حضاري جبار يبشر بمستقبل تنموي زاهر لجنوب تايلند والمنطقة برمتها، وتعتبر بيئة استثمارية جاذبة ورابحة تدعو كل رجال الأعمال في منطقة الخليج العربي للاستفادة من مزاياها النفيسة، وجدير بالذكر أنها تضم مبنى مستشفى الشيخ المؤسس قاسم بن محمد أل ثاني طيب الله ثراه برعاية ونفقة االأمير الوالد أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية.
وما يزال المستشفى المذكور قيد الإنشاء ويعتبر من أهم الأولويات حاليا نظرا لأهمية القطاع الصحي، والحاجة الماسة إليه.
وقبل أن أختم هذا الجزء الثالث المتمم لمقالاتي حول رحلتي (الفطانية) فأني أشيد بما لقيته من ترحاب وحفاوة بالغة وما يتسم به الأخوة الكرام الفطانيين من ثقافة عالية ودماثة أخلاق وتعاون مثمر، كما أدعو رجال الأعمال والتجار في بلادي الحبيبة الى الالتفات الجاد لتلك المنطقة خاصة وأن مناخ الحرية والاستثمار والأمن والاستقرار في مملكة تايلند وشعبها الودود، عوامل مشجعة على الاستثمار هناك في مجالات الزراعة والتجارة والعقارات. وقد عدت مغتبطا مسرورا بما حققته خلال رحلتي تلك من نتائج طيبة. وفي النفس شوقا للعودة إلى فطاني الحبيبة مرة أخرى.
مع تقديري وشكري البالغين للدكتورين الفاضلين إسماعيل لطفي ومحمد سماروه وأبي حبان (حضرة المفتي) على كرم الضيافة وطيب الصحبة، وهدايا ثمينة من بينها كتب ومراجع قيمة تحمل عناوين (مسلمو تايلند التاريخ والمستقبل، وفقه البيان النبوي، د. محمد داوود سماروه) و( حكاية الشيطان الرجيم، باللغة التايلندية، د.إسماعيل لطفي جافايكا).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد