الكانطية والإلحاد وجهًا لوجه


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هو العنوان الأليق بفئة من المؤلَف الأخير لهيثم طلعت، بدل «الإسلام والإلحاد وجها لوجه». جاء في الكتاب:

 

١– "الكون ليس أزليًا، بل له بداية ثابتة ظهر معها الزمان والمكان"(١)

٢– "فالخالق من البديهي أنه موجد الزمان والمكان فلا تنطبق عليه قوانين هو الذي أوجدها" (٢)

ابتداء كيف نشأت مقالة نفي الزمان عن الإله؟ يتصور هيثم طلعت، وكثير من المشتغلين بالرد على الإلحاد، أن المقالة رسمت ابتداء بأن الإله خالق كل شيء، والزمان والمكان شيئان، بالتالي فالإله خالق الزمان والمكان. وهذا غلط.

المقالة أرسطية في الأساس، أرسطو يقول «الله محرك لا يتحرك» ويقول أن «الزمان مقدار الحركة» ينتج عن المقدمتين أن الله لا يتصف بالزمان.

وهي باختصار كما يقول أبو البركات هبة الله ابن ملكا:

والذين قالوا بذلك: أعني بتجريد وجود الخالق عن الزمان هم الذين قالوا أن الزمان مقدار الحركة، والخالق لا يتحرك، فليس في زمان“. (٣)

 

فهذا بناء على نص أرسطو:

"نحن ندرك الزمان كلما أدركنا الما قبل والما بعد من أحوال الحركة" (٤) وبالتالي فـ :

"الأشياء التي لا تتحرك كالله والعقول المفارقة، ليست في الزمان أيضا، لأن الزمان يعد حركة الأشياء المتحركة وحسب" (٥)

فأين يذهب من يتشبع بزبدة التأصيل الأرسطي كما في كتاب هيثم طلعت، ب "ظاهر النص"، الذي لا تحصى عبارات وصف الله بالزمان فيه؟

عبارات كقوله تعالى عن نفسه في سياق الفعل:

﴿ثم استوى﴾ ﴿ثم يميتكم﴾ ﴿ثم يحييكم﴾ ﴿ثم عرضهم﴾ ﴿ثم عفونا﴾ ﴿ثم بعثناكم﴾ ﴿عفونا عنكم من بعد ذلك﴾ ﴿بعثناكم من بعد موتكم﴾ ﴿فأحيا به الأرض بعد موتها﴾ ﴿فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره﴾ ﴿فسوف نصليه نارا﴾ ﴿فسوف نؤتيه أجرا عظيما﴾، وغير هذه الآيات ما لا يكاد يحصى كثرة، إضافة لآيات تفيد نقض الأصل «المحرك الذي لا يتحرك» كقوله: ﴿وجاء ربك﴾ ﴿أو يأتيَ ربُّك﴾ أو الحديث: ﴿ينزل ربنا.

فقارن المتبادر من الظاهر، بقول يُقرأ في السياق القائل بأن "المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدسا عن... المتى"(٦) أي عن الزمان.

دون هذا فما يجره النفي على مسألة تسلسل الحوادث، لا داعي لفتحه!

أما فيما يخص المكان، فنفيه أيضا مبني على كلام أرسطو.

فـ "المكان عند أرسطو هو الحيّز الخاص الذي يحوي الجسم" (٧) فيتفق جمهور الأرسطيين، على تصويب قول أرسطو، سواء إسلاميين، أو لاهوتيين غربيين فيقول إخوان الصفا:

"المكان عند الجمهور فهو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن" (٨) لاحظ كلمة "الجمهور"، فإن هذا ينسحب على أطياف من المتفلسفة، والمتكلمين، ممن تبنى الآراء الفلسفية الأرسطية. وينبني عليه إضافةً لنفي الزمان عن الله؛ نفي اتصافه بالمكان، مع أن تعريف المكان لا ينحصر في التعريف الأرسطي، بل يطلق المكان على ما يكون المتمكن فوقَه، فيوصف الله بالمكان بمعنى أنه فوق مكان، أي فوق العرش.

فعند إطلاقك نفي المكان، ما محل كلام السلف، ونحن نقرأ أن منهم من فسر استوى بمعنى استقر على العرش، كما قال:

١. ابن عباس، الأسماء والصفات للبيهقي ص٨٧٣.

٢. مجاهد: مختصر الصواعق المرسلة، ج٢، ص١٤٣.

٣. الكلبي ومقاتل: تفسير البغوي، ج٢، ص١٦٥.

٤. ابن المبارك: مجموع الفتاوى ج٥، ص٥٩١.

٥. ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص١٧١.

٦. ابن عبد البر: التمهيد، ج٧، ص١٢٩.

٨. القصاب الكرجي، نكت القرآن ج١، ص٤٢٦.

 

فهل يكون الاستقرار أو الاستواء في حق الباري إلا فوق مكان؟ وأين نذهب بحديث ﴿أين الله﴾، والأين لا تقال إلا فيمن اتصف بمكان، وإشارة حسية؟ يتجاوز هيثم طلعت هذا كله، وهو مبسوط في كتب السلف، وكتب ابن تيمية، ليتخذ موقف المتكلم المثالي تارة، واللاهوتي الكانطي تارة.

عند كانط، الإله لا يتصف بحركة، ولا بزمان ولا مكان، أما العقل البشري فإنه يتعامل مع موجودات تتصف بالزمان والمكان، وقوانين العقل البشري كالسببية ونحوه لا يصح أن يتم التعامل بها إلا في نطاق الموجودات التي جردها العقل منها، إنها الموجودات المتصفة بالزمان والمكان.

فيصل كانط بناء على هذا إلى أن وجود الإله بما أنه مجرد عن الزمان والمكان، فإنه واقع في:

"إطار الاستحالة العقلية المحضة في التدليل على صحته، وإنما هو للضرورة الأخلاقية" (٩)

إلى هنا، تصوير تسلسلي للمقالة التي ينصرها هيثم طلعت في مواجهة الإلحاد، فما الذي يلزم عن تجريد الإله عن الزمان والمكان؟

أجاب يوسف سمرين عن لوازم ذا القول باختصار في منشور قديم:

"١-نحن كائنات زمانية ومكانية فافتراض ما هو خارج الزمان والمكان لا يمكن إثباته بعقولنا المحكومة بالزمان والمكان-كانط.

٢-أن الزمان نشأ في العالم وأنه لا [قبل] حيث لا زمان متصور خارج العالم، فالسؤال عما قبل العالم كالإله غلط -هوكنج.

٣-أن العالَم لو نشأ الزمان معه، فهذا يعني أنه غير محدث حيث إن تعريف المحدث [المسبوق بعدمه] وحيث لم يوجد زمن فلا معنى لكلمة مسبوق أصلًا-ابن رشد.

٤-أن العالم أزلي حيث لا زمن قبله، ولا تعريف للأزلي أفضل من هذا-هوكنج.

٥-أن الله مقارن للعالم لا يتقدمه بالزمن، إنما يسبقه بالرتبة فحسب، حيث إنه كائن لا زمني-ابن سينا"

من سيقول هو لا يقصد، بل قصده الزمان كذا. صديقي هون على عواطفك، من لا يقصد يتضح ذلك عند تفصيله، لا أنه يأتي بالمجمل –على أحسن حال– فيطلقه، ثم ننتظر منك أن تفصل المسألة بجرة قلم: أوه لا يقصد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

المراجع:

(١) الإسلام والإلحاد وجها لوجه، هيثم طلعت، ص٢٦

(٢) الإسلام والإلحاد وجها لوجه، هيثم طلعت، ص٢٧

(٣) الكتاب المعتبر في الحكمة الإلهية، أبو البركات هبة الله ابن علي بن ملكا البغدادي، من منشورات جامعة اصفهان، الطبعة الثانية ١٣١٥هجري، ج٣، ص٤١.

(٤) النص لأرسطو، بواسطة: رسطوطاليس المعلم الأول، مجدي فخري، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص٤٦.

(٥) أرسطوطاليس المعلم الأول، مجدي فخري، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص٤٧.

(٦) رسالة أضحوية في أمر المعاد، أبو علي ابن سينا، ضبطها وحققها سليمان دنيا، الطبعة الأولى ١٣٦٧ه‍–١٩٤٩م، ص٤٥.

(٧) أرسطوطاليس المعلم الأول، مجدي فخري، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص٤٤.

(٨) رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، القسم الرياضي، مركز النشر: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى ١٤٠٥م، ج٢، ص١٢.

(٩) نقد العقل العملي، إيمانويل كانط، ص٢١٩.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply