بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا شك أن الإنسان يسعى لإسعاد نفسه وأسرته بعوامل عديدة ذكرها التربويون وأرباب السلوك، وإن من أهم تلك العوامل ما يسمى بالتغافل الذكي فإن الناس ليسوا على طبقة واحدة وليسوا على عقل واحد بل هم مختلفون اختلافا كبيرا، مما يجعلنا نوطن أنفسنا على تصرفات تحصل تجاهنا من الآخرين قد لا نرتضيها وهي أخطاء إما مقصودة أو غير مقصودة لكن موقفنا تجاه تلك الأخطاء هو البيان والتصحيح ما أمكن وهذا من الإحسان، لكن ثمة طريق من طرق التعامل مع الأخطاء هو التغافل عنها وتجاهلها، فهو حل لها يدركه صاحب ذلك الخطأ، وليس كل تغافل يندرج ضمن ذلك وإنما يُقصد به التغافل الإيجابي وهو التغافل الذكي، وهو الذي يورث الإيجابية ويطرد السلبية أو ينفي أعلى الضررين ويُكسب أعلى المصلحتين، ولنا مع ذلك التغافل خمس وعشرون وقفة هي كالتالي:
الوقفة الأولى: إن الخطأ من طبيعة بني آدم، قال عليه الصلاة والسلام: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) فليس الإنسان معصومًا من الخطأ ومن ثم كان لزاما التنبيه، على هذا الزلل ليتذكر الغافل وليتعلم الجاهل، ولكن لهذا كله آداب ينبغي معرفتها والإحاطة بها غير أنه قد يكون من العلاج أحيانا التغافل إذا كان ذلك محصلًا لمصلحة أو دافعًا لمفسدة، فوضع الشيء في موضعه هو الحكمة.
الوقفة الثانية: التغافل سلاح ذو حدين فهو إيجابي في مكانه وسلبي في غير مكانه، فإذا كان التغافل جالبا لمصلحة أورادا لمفسدة فهو موصوف بالإيجابية بخلاف التغافل الذي لا يكون على هذا الوصف فهو سلبي يتعين الحذر منه.
الوقفة الثالثة: التغافل فيما يمكن التغافل عنه هو من العافية والبناء السليم وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله فقيل له: إن فلانا يقول التغافل تسعة أعشار العافية، فقال: بل العافية كلها في التغافل، وكان رحمه الله يقصد التغافل المحصل للمصلحة أو الطارد للمفسدة.
الوقفة الرابعة: إن كثرة النقد صفة سلبية ومهلكة ومبغضة، فليتحين الناقد كلماته ونقده فإن الأنفس قد جُبلت على حب الحمدي والممدحة وليكن النقد بالأسلوب المناخ المناسب مكانا وزمانا وهيئة ولفظا حتى يحتمله ذلك المستهدف من النقد، ولا يضيق ذرعا ذلك الناقد عندما لا يقبل منه فالقبول وعدمه من عند الله تبارك وتعالى.
الوقفة الخامسة: من الخطأ أن يتغافل الإنسان عن أشياء لا يمكن التغافل عنها، وإن الضابط في الفعل أو الترك هو جلب المصلحة ودرء المفسدة فإذا ترتب على ذلك التغافل فليغفل وإلا ليأمر وينهى حسب استطاعته، فليس التغافل ممدوحًا في كل حال.
الوقفة السادسة: خلق الله تعالى خلقه مختلفين في أشكالهم ففيهم الطويل والقصير ومنهم الأحمر والأسود وفيهم الحسن والقبيح، فكما تقبلهم في أشكالهم فحاول قبولهم في الجملة في تصرفاتهم فإن فيهم الأحمق والجاهل والسفيه والمستعجل، وليكن ذلك التحمل محدودا بحدود الشرع فاغفل إذا حسن التغافل وعليك بالأمر والنهي إذا حسناء ذلك.
الوقفة السابعة: التغافل هو استراتيجية علاجية مهمة فهي تحتاج إلى تعلم وتأمل ودربة فليس كل الناس يجيدها فهي تفتقر إلى التحمل والصبر لتحصيل المصلحة الأكبر فهي علاج ناجح وناجع في مكانها يدرأ الله تعالى بها كثيرا من السلبيات.
الوقفة الثامنة: ليس كل ما تراه خطأ فهو خطأ، بل عليك بالتأمل وعدم التسرع في هذا، فإن ذلك المخطئ في نظرك قد يكون معه الصواب ثم يخدش كلامك قلبه بما لا تُحمد عقباه فالتبين قبل النصيحة مطلب كبير.
الوقفة التاسعة: التغافل له حد يقف عليه فلا ينبغي أن يكون الإنسان مصرفا فيه حتى يتغافل أحيانا عن أشياء لا يحسن التغافل عنها، بل التنبيه على الخطأ والأمر والنهي هو الأصل والتغافل هو الفرع.
الوقفة العاشرة: التغافل الإيجابي يحفظ لك الود والجهد والوقت والصحة والسمعة، ويدرأ عنك كثيرا من السلبيات، شريطة ألا تضعف النفس فتخرج إلى التغافل السلبي الذي لا يكون فيه شيء مما سبق.
الوقفة الحادية عشرة: في تعاملك مع أسرتك خصوصا وغيرهم عموما اتخذ هذه القاعدة وهي، رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، فإذا تهيأت نفسك لذلك كان لديها قبول للنصيحة والتوجيه وذلك بخلاف من يقول: رأيه صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، فهذه سلبية يعيشها بعض الناس وهم يشعرون أو لا يشعرون.
الوقفة الثانية عشرة: لا ينبغي للإنسان في تعامله مع الناس عامة والأسرة خاصة أن يقف مع كل دقيق وجليل في التصرفات واللفظات فإنه إذا فعل ذلك أتعب نفسه وأتعب غيره واستثقلته النفوس والمجالس، بل عليه أن يسعى مع المصلحة أيا كانت ويرتبط بها فعلا وتركا.
الوقفة الثالثة عشرة: لا تضع سمعك وبصرك لكل شيء أمامك فما حُجب عنك لا تنقب عنه وما سُتر عنك لا تكشفه في الجملة ولعلك تسلم ويسلم غيرك.
الوقفة الرابعة عشرة: عندما تتغافل إياك أن تنزلق وتُسرف في التغافل فتتراكم عليك السلبيات تحت مسمى التغافل، فإن هذا نوع من الضعف والخور والانسحاب المبرمج نفسيا، ولكن كن حكيما في جميع المواطن.
الوقفة الخامسة عشرة: التغافل إذا كان في مكانه الصحيح فليس غباء، بل هو حكمة وحنكة، ولهذا يقول الشاعر: وليس الغبي بسيد في قومه إنما سيد قومه المتغابي، فالغباء ليس كالتغابي، فالأول سلبي والثاني في مكانه إيجابي، فكن متغافلا ومتغابيا أحيانا وليس غافلا وغبيا.
الوقفة السادسة عشرة: من التغافل الإيجابي ألا تذكر سلبيات الآخرين في المجالس فذلك من الغيبة، فهم يحصدون حسناتك في حين أنك تتضاحك مع أصحابك في الحديث عن أولئك، فالغيبة يجب التغافل والغفلة عنها إلا في مواطنها التي أباحها الشرع، كالتحذير من الفاسق أو في التظلم أو في النكاح والخطبة ونحو ذلك مما هو مذكور في كتب أهل العلم.
الوقفة السابعة عشرة: كم إيجابية كان التغافل مفتاحا لها وكم من سلبية كان عدم التغافل مفتاحا لها، فاحرص أن تضع كل شيء في موضعه الصحيح.
الوقفة الثامنة عشرة: بعدم التغافل قد تتسلسل سلبيات أخرى قد تكون سببا للهجر والشحناء مما يجعل ذلك مجالا خصبا للشيطان في الدخول على القلوب وملئها بالضغناء والبغضاء، فالتغافل الإيجابي ممحاة لذلك العمل.
الةقفة التاسعة عشرة: كثير من المشاكل الاجتماعية والصحية ونحوها كان من سبب حصولها عدم التغافل عن مسبباتها مما جعل الأمر في أوله شرارة وفي آخره مرارة كان ناتجها الطلاق والفراق أو الهجر والقطيعة.
الوقفة العشرون: إياك إياك أن تتغافل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة جمال التغافل، فإن هذا الأمر محسوم ولكن فكر في الآلية المتبعة في الأمر والنهي زمانا ومكانا وأسلوبا، فإن المعروف والأمر به والمنكر والنهي عنه واجب متعين لا يدخله التغافل لكن قد يكون صراحة وقد يكون إشارة حسب المصلحة التي تؤدي إلى النتيجة الشرعية فلا تضعف في هذا الجانب وفقك الله.
الوقفة الحادية والعشرون: قارن بين شخصين أحدهما متغافلا فيما يمكن التغافل عنه، وآخر دائم النقد فستجد الفرق بينهما شاسعا والبون كبيرا فإن تلك المقارنة تدفعك وتدعمك إلى الأصوب والأنجح منهما.
الوقفة الثانية والعشرون: إذا لم يتم التغافل عن المشكلة فلا بد من احتوائها وعدم اتساعها حتى لا يحصل ما لا تحمد عقباه على الطرفين.
الوقفة الثالثة والعشرون: أكثر من يحتاج التغافل هما الزوجان، فهما ركنا الأسرة وعمادها بعد الله تبارك وتعالى فبصلاحهما يصلح غيرهما، فالتغافل الإيجابي بينهما غاية في الأهمية وذلك لكثرة الخلطة والتعامل بينهما فلا بد من الاحتمال والتحمل لبعض التصرفات واللفظات واستحداث السبل والمخارج لها ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
الوقفة الرابعة والعشرون: التغافل والتحمل قرينان، فالتحمل هو سبيل للتغافل ووسيلة له، فبدون التحمل والصبر قد لا يتم التغافل فليوطن الإنسان نفسه على ذلك تحصيلا للمصلحة ودرءًا للمفسدة.
الوقفة الخامسة والعشرون: علم أولادك التغافل الإيجابي فيما بينهم وأيضا مع الآخرين حتى يعيشوا قابلين مقبولين.
معاشرة الآباء والأمهات والأبناء والبنات، بعد هذه الجولة السريعة حول التغافل وأهميته ينبغي لنا الاعتناء بطلب التغافل الإيجابي والتفريق بينه وبين السلبي، فإن السلبي هو انجراف في مهاوي يتبع بعضها بعضا، وقد يتناقض مع أهداف التربية الصحيحة والسليمة، فلنضع كلا في مكانه الصحيح فعلا وتركا
وفق الله الجميع لكل خير
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد