هجران أصحاب الذنوب والمعاصي والبدع


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الهجر وسيلة شرعية من حيث الأصل، ولكن استعمال الهجر يتطلب فقهاً ووعياً. وكثيرا ما يقع بعض الناس من الصالحين في الغلو في الهجر اعتماداً على ما ورد عن السلف رضي الله عنهم، ولكن دون فقه بمقامات ذلك الهجر ودون نظر إلى مجموع الحال النبوي، فالنبي لم يستعمل الهجر إلا قليلاً في حياته، وقد شرب أناس في حياته الخمر بعد تحريمها، ووقع آخرون في ذنوب متنوعة، ولكنه لم يستعمل الهجر إلاّ قليلاً، بل بعكس ذلك كان يتألف القلوب ويعطي من ضعف إيمانهم أكثر مما يعطي الخيار والصالحين، وهذا كله ينبغي أن يعتبر في الفقه والنظر، وأشهر حادثة في الهجر هي ما حصل مع المتخلفين عن غزوة تبوك، ولو نظرنا في السبب الذي هجر النبي لأجله أولئك الثلاثة الذين هم من خيار الصحابة لوجدنا أن بعض من يهجرون المخالفين لهم في أبواب العقيدة -اليوم- هم أولى بالهجر لتخليهم عن مقامات نصرة الدين ومؤازرة المؤمنين في سبيل الله، بل ولمحاربتهم من يقوم هذه المقامات ونبزهم بالألقاب والتصنيفات. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى: ينبغي التفريق بين المقامات والأحوال في الهجر باعتبار تحقيق المصلحة من عدمها، كما قال ابن تيمية في نص بديع يَظهر فيه فقهه لما يُنقل عن السلف رضوان الله عليهم، لا كما يفعل البعض من صغار المتحمسين للسلف باندفاع ظاهري متشنج، والله المستعان.

قال ابن تيمية رحمه الله: (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإنّ المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجرُه إلى ضعف الشر وخُفْيَته كان مشروعا، وإن كان لا المهجورُ ولا غيرُه يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجرُ ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليفُ لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم؛ لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم؛ فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم. وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم.

وهذا كما أن المشروع في العدو القتالٌ تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح، وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه) مجموع الفتاوى (28/207.(

 

النص من كتابي: (بوصلة المصلح) والذي سيصدر قريباً إن شاء الله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply