بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن ميمون بن مهران، قال: دس معاوية عمرا وهو يريد أن يعلم ما في نفس ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر.
فقال: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول ؟ قال: نعم، إلا نفر يسير.
قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة.
قال: فعلم أنه لا يريد القتال.
فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين والأموال؟ فقال: أف لك! اخرج من عندي، إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.
وكأني بأبي مخنف أتى إلى الروايات الصحيحة فيجد فيها ثغرة فيضيف بها ما يناسب هواه، فيخلط لنا السم بالدسم، ويشوه هذه الشخصيات العظيمة بما يتناسب مع هذا الهوى:
قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، يقول: «إنك صاحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنت أسَنّ مني، فتكلم وأتكلم» فكان عمرو قد عوَّد أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اعتزى [أي قصد] بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع عَلِيٍّ.
قال: فنظرا في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمْرًا على عبد الله بن عمر فأبى عليه.
فقال له عمرو: «خبرني ما رأيك؟».
قال: «رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا».
فقال له عمرو: «فإن الرأي ما رأيت».
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: «يا أبا موسى، أعْلِمْهم بأن رأيَنَا قد اجتمع واتفق»، فتكلم أبو موسى فقال: «إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله - عز وجل - به أمر هذه الأمة».
فقال عمرو: «صدق وبرّ، يا أبا موسى، تقدم فتكلم».
فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: «ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإنّ عَمْرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك» وكان أبو موسى مغفّلًا. فقال له: «إنا قد اتفقنا».
فتقدم أبو موسى فحمد الله -عز وجل- وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نَرَ أصلحَ لأمرِها، ولا ألَمَّ لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأيُ عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم. وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا»، ثم تنحى.
وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه. وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه».
فقال أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث».
قال عمرو: «إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا».
وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم.
وكان شريح بعد ذلك يقول: «ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسيف آتيًا به الدهر ما أتى».
والتمس أهل الشام أبا موسى فركب راحلته ولحق بمكة!
قال ابن عباس: «قبح الله رأي أبي موسى حذرته وأمرته بالرأي فما عقل».
فكان أبو موسى يقول: «حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصيحة الأمة».
ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانىء إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: «اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور السلمي وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد» فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًّا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا.
هذه طرق قصة التحكيم المشهورة، والمناظرة بين أبي موسى وعمرو بن العاص المزعومة، أفمثل هذا تقوم به حجة، أو يعول على مثل ذلك في تاريخ الصحابة الكرام وعهد الخلفاء الراشدين، عصر القدوة والأسوة، ولو لم يكن في هذه الروايات إلا الاضطراب في متونها لكفاها ضعفًا فكيف إذا أضيف إلى ذلك ضعف أسانيدها.
فهي من رواية أبي مخنف الذي قال فيه علماء الجرح والتعديل: هالك، ساقط، متروك، شيعي محترق، فضلا عن أبي جناب الكلبي الذي ضعفوه لكثرة تدليسه
وتأمل مدى جُرم هؤلاء الكذابين في الافتراء على صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهارهم بمظهر أهل السبّ واللعن والغدر.
ومن أوجه بطلان قصة التحكيم المشهورة: إن الحكمين كانا مفوضين للحكم في الخلاف بين عليٍّ ومعاوية -رضي الله عنهما-، ولم يكن الخلاف بينهما حول الخلافة ومن أحق بها منهما، وإنما كان حول توقيع القصاص على قتلة عثمان، وليس هذا من أمر الخلافة في شيء، فإذا ترك الحكمان هذه القضية الأساسية، وهي ما طُلب إليهما الحكم فيه، واتخذا قرارًا في شأن الخلافة كما تزعم الرواية الشائعة، فمعنى ذلك أنهما لم يَفْقَهَا موضوع النزاع، ولم يحيطا بموضوع الدعوى، وهو مستبعد جدّا.
ولم يكن معاوية -رضي الله عنه- مدعيا للخلافة ولا منكرًا حق عليّ -رضي الله عنه-، وإنما كان ممتنعًا عن بيعته وعن تنفيذ أوامره في الشام حيث كان متغلبًا عليها بحكم الواقع لا بحكم القانون، مستفيدًا من طاعة الناس له بعد أن بقي واليًا فيها زهاء عشرين سنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد