بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{ (91).
{بِئْسَمَا} «بئس» مستوفية لجميع الذم، وعكسها «نِعْم» {اشْتَرَوْاْ} باعوا {بِهِ أَنفُسَهُمْ} مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه، فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا. أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق.
{أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ} أي القرآن، وفي ذلك من التفخيم حيث أظهر موصولًا بالفعل الذي هو «أنزل» المشعر بأنه من العالم العلوي، ونسب إسناده إلى الله تعالى.
{بَغْيًا} أي حسدًا، على خروج النبوة منهم إلى العرب، وأصل البغي: الظلم، وأراد به هنا ظلما خاصا وهو «الحسد» وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو: المعاملة بغير حق، والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع، ولا من بقائها ضر، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ هذا المعنى في قوله:
وأظلم خلق الله من بات حاسدا ** لمن بات في نعمائه يتقلب
{أَن يُنَزِّلُ اللّهُ} أي بغوا لتنزيل الله {مِن فَضْلِهِ} الفضل لغة زيادة العطاء، وفسروه هنا: الوحي والنبوة والكتاب.
{عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم الرسل، وأضاف العباد إليه تشريفًا لهم، كقوله تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
والمراد بمن يشاء: محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق، فختم في عيسى، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فختمت النبوة على غيرهم، وعدموا العز والفضل.
{فَبَآؤُواْ} مضوا ورجعوا{بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} مترادف متكاثر، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم.
قال ابن عاشور:"الظاهر أن المراد بغضب على غضب، الغضب الشديد على حد قوله تعالى:{نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي نور عظيم، وقوله:{ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغة في معنى القوة والشدة".
قال القرطبي:"قال بعضهم المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام".
قال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول بتضييعهم التوراة وتبديلهم، والثاني بكفرهم بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن، وقال قتادة: الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني بكفرهم بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن، وقال السدي: الأول بعبادة العجل والثاني بالكفر بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفيه أن العقوبات تتراكم بحسب الذنوب جزاءً وفاقًا.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذلهم ويخزيهم في الدنيا والآخرة، بخلاف عذاب العاصي فإنه كفارة لذنوبه.
ووصف العذاب بالإهانة -وهي الإذلال- لأنه يقتضي الخلود خلودًا لا ينقطع، أو لشدته وعظمته واختلاف أنواعه، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع الحق.
أقام المظهر مقام المضمر إشعارًا بعلة كون العذاب المهين لهم، إذ لو أتى "ولهم عذاب مهين"، لم يكن في ذلك تنبيه على العلة.
استدل بعض العلماء بهذه الآية على جواز لعن الكافر المعين؛ ولكن لا دليل فيها؛ لأن اللعن الوارد في الآية على سبيل العموم؛ ثم هو خبر من الله عزّ وجلّ، ولا يلزم منه جواز الدعاء به؛ ويدل على منع لعن المعين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول:(اللهم العن فلانًا، وفلانًا). لأئمة الكفر، فنهاه الله عن ذلك؛ ولأن الكافر المعين قد يهديه الله للإسلام إن كان حيًا؛ وإن كان ميتًا، فقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا) [البخاري عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-].
ففي البخاري عن سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ:(اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا) بَعْدَ مَا يَقُولُ (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.[آل عمران:128].
وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو عَلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَزَلَتْ{لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
{وَإِذَا قِيلَ} الأخبار عمن بحضرة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اليهود، وسياق الآية يدل على أن المراد آباؤهم، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله، وأنهم جنس واحد، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك، وأنهم يتولونهم، فهم منهم.
{لَهُمْ آمِنُواْ} أي صدِّقوا به مع قبوله والإذعان له؛ لأن الإيمان شرعًا: التصديق مع القبول والإذعان؛ وليس كل من صدق يكون مؤمنًا حتى يكون قابلًا مذعنًا؛ والدليل على ذلك أن أبا طالب كان مصدقًا برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يكن مؤمنًا؛ لأنه لم يقبل ولم يذعن.
{بِمَا أَنزَلَ اللّهُ} الجمهور: إنه القرآن{قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يريدون التوراة، وما جاءهم من الرّسالات على لسان موسى، ومن بعده من أنبيائهم.
وذمّوا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد، والمأمور به عام، فلم يطابق إيمانهم الأمر.
{وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} أي بما سواه، وبه فسر قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} [النساء:24] وقوله:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]. أو بما بعده، أي ويكفرون بما بعد التوراة، وهو القرآن. والمعنى واحد.
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء. جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص، واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صار وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه.
وقال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى أمام. وهي من الأضداد، قال الله تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] أي أمامهم، وتصغيرها وريئه.
{وَهُوَ الْحَقُّ} عائد على القرآن{مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} التوراة والإنجيل {قُلْ فَلِمَ} التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم {تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ} وجاء تقتلون بصورة المضارع، والمراد الماضي، إذ المعنى: قل فلم قتلتم، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يصدر منهم قتل الأنبياء، وأنه قيد بقوله:{من قبل}، فدل على تقدم القتل.
ألا ترى أن حاضري محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما كانوا راضين بفعل أسفلاهم، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجلّ تعظيم، وأن ينصر لا أن يقتل.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان، فقولكم: إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد