الرضا بالقضاء والقدر وعلاقته بالحياة الشاقة والصعبة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

السؤال: كيف نستطيع التمييز إذا ما حصل لنا أمر سيئ أن هذا الأمر من الله وهو الذي قطعًا سيساعدنا على الصبر، أم أن هذا الأمر السيئ هو نتيجة سوء تدبيرنا أو ربما تواكلنا أو ربما عدم أخذنا بالأسباب؟ وأعني بالأمر السيئ: فشل دراستي مثلًا، وفشل طلب الرزق وفشل اختيار الزوجة.

ماذا يعني القبول بالقدر خيره وشره؟ هل يعني مثلًا الرسوب بالكلية بسبب التكاسل قبول بالقدر خيره وشره، أم أنه فقط يجب القبول بالقدر خيره وشره عندما يتعلق الأمر بالأمور القسرية على الإنسان كالمرض وغيره؟

وهل قلة الرزق هي من شر القدر أم من سوء التخطيط والإعداد؟

وهل الزوج السيئ من شر القدر أم من سوء الاختيار؟

وكيف نستطيع الموازنة بين هذا الكلام وبين الحديث القائل:"أنه من ندم على ما فاته فقد سخط على قضاء ربه"، ألا يجب الندم مثلًا على الرسوب بالكلية بسبب سوء التحضير؟

الإجابة: فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بك في موقعك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله جل وعلا أن يثبتك على الحق، وأن يهديك للصواب، وأن ييسر أمرك ويوسع رزقك ويجعلك من السعداء.

وبخصوص ما ورد برسالتك؛ فإن الذي تعاني منه بخصوص مسألة القضاء والقدر وخلافه إنما هو نتيجة طبيعية لعدم وقوفك على حقيقة القضاء والقدر والإرادة الإلهية، وهذا شأن كل من ليس لديه القدر الكافي من العلم بهذا الركن الهام من أركان الإيمان، وفي الحقيقة فإن الأمر في غاية البساطة والسهولة، وسأعرض عليك ما يقضي على كل لبس لديك إن شاء الله، وذلك في النقاط التالية:

1- لابد أن تؤمن إيمانًا جازمًا أن الله خالق كل شيء، وهو حده المتصرف في هذا الكون كله بجميع مكوناته، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراده هو جل جلاله وحده.

2- أن ما قدره الله وأراده فهو حادث وواقع لا محالة ولا يمكن الفرار منه.

3- إن الله جل وعلا بني قدره وإرادته على علم وحكمة وعفو ورحمة، فليس هناك أي أمر بلا ترتيب أو معرفة للعواقب أو تقدير للنتائج، وكل ذلك في غاية الرحمة واللطف بالعباد، حتى ولو كان الأمر في الظاهر أو الواقع على خلاف ذلك، كالمرض مثلًا يكرهه الإنسان ولا يحبه، وقد يكون فيه غاية اللطف والخير وعليه ثواب عظيم في الآخرة، وقد يغفر له بسببه من الذنوب والخطايا ما لا يعلمه إلا الله، ولو عرف فضله لتمنى أنه ظل مريضًا طول عمره.

4- إن مقادير الله لا تتغير إلا بالوسائل الشرعية التي حددها هو سبحانه وتعالى، وذلك مثل الدعاء لأنه لا يرد القضاء إلا الدعاء، وكذلك صلة الرحم وبر الوالدين، والطاعة عمومًا.

5- أن الأخذ بالأسباب ضرورة حتمية حث عليها القرآن والسنة، فلابد لنا من الأخذ بالأسباب على قدر استطاعتنا.

6- إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، وإنما علينا أن نجد ونجتهد فنذاكر مثلًا ونجتهد في المذاكرة والتحصيل ونكل الأمر كله بعد ذلك لله وحده.

7- إنه جل جلاله وعدنا ألا يضيع عمل عامل مهما كان، ذكرًا أم أنثى، مسلمًا كان أو كافرًا (من يعمل خيرًا يجز به) }وأَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ{[آل عمران:195] فيستحيل أن تعمل وتجد وتجتهد وتأخذ بالأسباب وتتوكل عليه ويضيعك.

8- إن المشكلة التي نقع فيها أننا نجتهد في الأخذ بالأسباب، ونظن أننا بذلك سوف يتحقق لنا المراد شاء الله أو لم يشأ، وهذا خطأ فادح، بل ذلك موكول أمره إلى الله، فقد تتخلف النتائج عن الأسباب في بعض الحالات، فتتعطل خاصية الإحراق في النار كما حصل للخليل إبراهيم، وقد يرسب المجتهد لحكمة يعلمها الله، وبتسخير أسباب أخرى تحصل عندها هذه النتيجة كارتباكه في قاعة الامتحان، أو ظلم في تصحيح إجابات الامتحان مثلًا، والمحصلة النهائية هي الرسوب، لماذا؟ لحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، ومن هنا يأتي مبدأ التسليم بقضاء الله وقدره والرضا بصنع الله تعالى في خلقه، ولاحظ أننا لم نهمل الأسباب المقدور عليها، كالمذاكرة والاستعداد للامتحان، فهذه الأسباب لابد منها لحصول النتيجة المتوقعة وهي النجاح!

والخلاصة: أن الأسباب التي توصل إلى النتائج نوعان: سبب كوني وضعي، وسبب شرعي ديني،

فمثال الأول: المذاكرة والاستعداد للامتحان، ومثال الثاني: التوكل وتعليق القلب بالله جل وعلا، ولابد من اجتماع السببين حتى تحصل النتيجة المتوقعة، وإن تخلفت فتخلفها لحكمة لا نعلمها غالبًا، وحتى يتضح لك معنى اجتماع السببين الكوني والشرعي خذ هذا المثال: لو أن موظفًا أراد أن يتوظف في شركة فلابد من اتخاذ سبب واقعي وضعي وهو تقديم ملف شهاداته وخبرته حتى يقبل في ذلك التخصص، ومع هذا الملف لابد من سبب آخر خفي، وهو رضا مدير هذه المؤسسة عن هذا الموظف، فلو أن المدير رفضه لسبب وجيه كسوء خلقه، أو غير وجيه كطوله وقصره، فهل يجبر أحد هذا المدير على قبوله، وإن كانت أوراقه مكتملة؟

كذلك لله المثل الأعلى فهو الذي يدبر أمر السماء والأرض، وبيده مصالح العباد وأرزاقهم، وإليه حوائجهم، فلابد من بذل السبب المادي ومعه السبب الشرعي وهو التوكل عليه والتعلق به وطلب رضاه، فلن يمضي أمر بغير رضاه سبحانه، ومن هنا يقع الخلط عند كثير من الناس في فهم العلاقة بين التوكل والأخذ بالأسباب، والحقيقة أن التوكل سبب أيضًا، لكنه سبب خفي غير ظاهر، به يستجلب رضا الحق جل وعلا الذي يقول للشيء: كن فيكون، بل التوكل هو أقوى السببين، حتى إنه في بعض الأحيان قد يغني عن السبب المادي، ولا يقع هذا إلا عند من كمل إيمانه، وقوي يقينه وتوكله، كالأنبياء وسادات الأولياء، فالنار التي مثلنا بها آنفًا، إنما تعطل إحراقها بهذا السبب! وهو قوة توكل إبراهيم الخليل على ربه في هذا الموطن وتسليمه له، وبهذا يعلم أن التوكل من أقوى الأسباب في دفع البلاء واستجلاب الخير والنعم، بما فيها النجاح في الحياة والدراسة.

وقد علمنا آنفًا أن التوكل إنما يراد به استجلاب رضا الحق سبحانه، فلا يعقل أن نتوكل عليه ونعصيه أو نخالف أوامره ونقصر في الفرائض؛ فإن هذا مناف للتوكل الذي يقصد به الرضا، فكيف ترضيه في موطن وتسخطه في عشرات المواطن؟!

وبهذا ندرك أن من أسباب الرزق وزيادته هو طاعته وتمام التوكل عليه، وطاعته تشمل الأمرين والأخذ بالسببين المادي والشرعي، وبهذا يتضح الجواب على سؤالك: هل قلة الرزق هي من شر القدر أم من سوء التخطيط والإعداد؟

وأما مسألة الزواج فينطبق عليها السببان أيضًا: ألا ترى أننا نأخذ بالسبب الديني فيها، وهو تحري الدين والخلق في الرجل أو المرأة، وبالسبب الوضعي أو المادي وهو وضع كل من الزوجين في بقية الأمور كالمال والجمال والحسب والنسب، فإذا استكملنا الأسباب المادية والدينية، فالأصل هو حصول التوافق والحياة الزوجية السعيدة، لكن قد تتخلف هذه النتيجة لحكمة يعلمها الله تعالى.

وأما مسألة الندم على ما فات، فهذا غير سائغ عقلًا وشرعًا، لا سيما وقد عرفنا أن أفعال الله تعالى بعباده كلها حكمة ورحمة، فقد يكون الشفاء من المرض في الدواء المر العلقم الذي لا تشتهيه النفس، ومع ذلك لابد من تناوله والصبر عليه، وكلما تلمح العاقبة وأنه سيشفى من المرض زاد فرحه واستبشاره، كذلك هي حال المؤمن مع أقدار الله جل وعلا، يرضى بها، وبعضهم قد يفرح بالبلاء استشرافًا واستبشارًا بالعاقبة والأجر العظيم، وليس حبًا في البلاء ذاته؛ لأن المرض والبلاء والشر أمور تكرهها النفس بطبعها، وبهذا يعلم أن التسخط عند البلاء هو من قلة العقل في الحقيقة، كما أنه مخالفة للشرع الذي أمر بالصبر والاحتساب، وهذا فيه جواب سؤالك الأخير، ولكن ينبغي أن تعلم أن التسخط على قدر الله شيء، والندم على الرسوب في الكلية بسبب سوء التحضير شيء آخر..

فالأول غير جائز كما قدمنا، أما الثاني ففيه تفصيل:

فإن كان هذا الندم على سوء التحضير وقلة الإعداد، باعثًا على الهمة ومحفزًا لها لكي تعد الإعداد الجيد في المرة القادمة، فهذا لا بأس به، بل هو مطلوب بهذا القدر، وهو بمثابة التوبة من الذنب والعزم على عدم العود إليه، فتلك ذنوب دينية، وهذه ذنوب دنيوية!

وأما إن كان هذا الندم يؤدي إلى القعود وفتور الهمة، وحصول الاكتئاب كما قد يقع لبعضهم، فهذا ممنوع، ولا ينبغي أن يصل الأمر إلى هذا الحد، وقد نهينا عن العجز وإظهاره كما جاء في الحديث الصحيح:"واستعن بالله ولا تعجز".

كذلك من الناس من يترك الأخذ بالأسباب ويتواكل ويظن أنه متوكل على الله بحجة أنه مسلم أو أنه يصلي ويلتزم بالإسلام؛ وهذا جهل وحمق.

9- لابد لنا من الأخذ بالأسباب مع اليقين بأنها مجرد وسائل لتحقيق مراد الله ثم نتوكل بعد ذلك كله على الله، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم:"اعقلها وتوكل".

وعليه فأنت مطالب بالمذاكرة لتنجح، ومطالب كذلك باختيار الزوجة الصالحة المناسبة لتسعد، ومطالب كذلك بالسعي والبحث عن فرص العمل المناسبة حتى تحصل على الدخل المناسب، وهكذا جميع الأمور، فدوري الأخذ بالأسباب بأقصى ما أستطيع، ثم أدع النتائج له سبحانه وأرضي كل الرضا بما يحدث بعد ذلك.

وكذلك الرسوب في الكلية هو في الواقع نتيجة طبيعية لعدم المذاكرة أو عقوبة ربانية نتيجة الغفلة والوقوع في المعاصي وتعطيل شرع الله في الحياة حيث قال صلى الله عليه وسلم:"وإياكم والمعاصي، واعلموا أن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد كان هيئ له".

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply