محبة الرسول ﷺ بين عصرين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لماذا نحبه: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (رواه مسلم)، إن الرسول هو الذي هدانا الله به إلى الخير وأنجانا به من الشر، فهو الذي عرَّفنا بالله عز وجل، وكان سببا في هدايتنا إلى الإسلام، كما نرجو أن يكون سببًا في نجاتنا من النار يوم الحساب، وقد وصف الله تعالى حرصه على هداتنا ونجاتنا فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية: 128)، لذلك فإنه يستحق منا أعظم محبة بعد محبة الله عز وجل، جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي فقال له: )لأنت أحبَّ إلي من كل شيء إلا من نفسي "فقال له النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال عمر: والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال له النبي ﷺ: الآن يا عمر) (رواه البخاري)، فمحبتهلازم من لوازم الإيمان به، فلا يكون الإنسان مؤمنًا مسلمًا، إلا إذا كان محبًا لرسول الله .

الفرق بين حبهم وحبنا: إن كل المسلمين على محبة رسول قطعًا، لأن هذا جزء لا يتجزأ من الإيمان به كما سلف بيانه، لكن محبته هي أيضًا ضمن مفاهيم كثيرة أصابتها يد العبث والتشويه من الإسلام، فبينما كانت المحبة له تعني العمل، والتضحية، والبذل، والفداء، في العصور الأولى عصر أصحابه، ومن اهتدى بهديهم، أصبحت محبته في العصور المتأخرة إنشادا، وغناء، ورقصا وتمايلا، وقد كان النبي يحث حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة لنظم الشعر ردًا على المشركين الذين رصدوا أموالهم للصد عنه وهجائه والتشبيب بنسائه، فكانت للكلمة في ذلك الوقت وظيفة سامية في الدفاع عن رسول الله والزود عنه وعن آل بيته، كانت الكلمة جهادًا لا يقل عن جهاد المعارك، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال قَالَ رَسولُ اللَّهِ يَومَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ: )اهْجُ المُشْرِكِينَ؛ فإنَّ جِبْرِيلَ معكَ.(

أسباب التخبط في محبته: لقد كان لمدحه في عصره وظيفة في نصره وتأييده، فلما تطاول الزمن بالمسلمين، وفُتحت البلاد شرقًا وغربًا، ودخل الناس في الدين أفواجًا، ظهرت تيارات في المسلمين جعلوا للدين ظاهرًا وباطنًا، ولبًا وقشورًا، فجعلوا محبته لبًا وسنته قشورًا، وفسروا نصوص الدين تفسيرات تلائم أفكارهم ومعتقدات آبائهم بشكل أو بآخر، إذ لم يكن التوحيد الخالص مطمحًا لهم من منظور إسلامي صاف، بقدر ما كان القصد إعادة إنتاج ما كان عليه أسلافهم ولكن في ثوب إسلامي مرقع، فتداخلت في أذهان بعضهم مفاهيم التوحيد الإسلامي، بمفاهيم التوحيد في الفلسفات الوضعية والديانات الشركية في الزرادشتية، والهندوسية، والمانوية، والمزدكية، والنصرانية، واليهودية، فنشأت مذاهب، كالمرجأة، والمعتزلة، والقدرية، والكرامية، والإسماعيلية، وغير ذلك كثير من الفرق الضالة، التي بقيت بعضها على مسمياتها القديمة، وانساحت بعضها في السواد الأعظم للمسلمين، فصارت أفكارهم التي يُطِلُّون بها على الناس كالبقع السوداء في الثوب الأبيض، يُلِحُّون كلما وجدوا في أهل السنة الصحيحة وهنًا واستضعافًا، على إيهام الناس أن تلك البقع السوداء هي من أصل الثوب، ولون من ألوانه، وحقيقة الأمر أنها أوساخ طارئة عليه، وهو منها براء.

لاهوت الجمال والمُحِبُّ الضائع: إن الإسلام دين بسيط، دين الفطرة، لكنهم مصرون على فلسفته وتعقيده، ومزجه بعقائد دخيلة، ومعتقدات إنما بعث النبي لإبطالها أصلًا، وإذا بمحبته لديهم وقد صارت في فكرهم وسلوكهم سببًا في البعد عن منهجه، والقرب من مناهج أعدائه، فقد وصلوا في الغلو إلى أن جعلوه وآل بيته مظهرَ الإلهية المتجسد. وصاروا يزعمون أن له لاهوتًا وناسوتًا، فهو لاهوت الجمال وناسوت الوصال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهل كان المُحِبَّ الحق في وقت من الأوقات هو من يمزج دين محمد بدين غيره!، وهل يحق لمن يُحَوِّلُ دينه وتعاليمه إلى لُبَابٍ وقُشُور، وظاهر وباطن، أن يزعم أنه على المحبة الكاملة التامة له !.

الصحابة هم المحبون حقًا: لقد كان أصحاب النبي متبعون له في كل كبير وصغير من أمر الدين، لم يقل أحد منهم هذا الظاهر للعامة، وذلك الباطن للخاصة، إنما أخذوا عنه كل شيء، حتى أنهم كانوا يحاكونه من فرط المحبة في بعض التصرفات العادية، فلم يكتفوا بمتابعته في العقائد والشرائع، حتى وصل بهم التعلق به إلى حد المتابعة في الأمور الجبلية.

عن نافع قال: (كان ابن عمر إذا مر بشجرة بين مكة والمدينة أناخ عندها، ثم صب في أصلها إداوة من ماء، وإن لم تكن إلا تلك الإداوة معه، قال نافع: وأرى أن النبي فعله ففعله) (الإبانة الكبرى لابن بطه)، وعن مجاهد قال: (كنا مع ابن عمر في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئللم فعلت ذلك؟ قالإني رأيت رسول الله فعل هذا ففعلت) (رواه أحمد)، وعثمان رضي الله عنه يتبسم لأن رسول الله تبسم عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: قال: كنا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فدعا بماء، فلما فرغ من وضوئه تبسم، فقال: هل تدرون ممّ ضحكت؟ قال: فقال: توضأ رسول الله كما توضأت ثم تبسم، ثم قال:  )هل تدرون ممّ ضحكت؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قالإن العبد إذا توضأ فأتم وضوءه ثم دخل في صلاته فأتم صلاته خرج من صلاته كما خرج من بطن أمه من الذنوب) (رواه أحمد)، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفعل الأمر نفسه، قال علي بن ربيعة: (شهدت عليًا أُتِي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله ثلاثًا، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. ثم قال: الحمد لله ثلاثًا، والله أكبر ثلاثًا، سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك قلت: من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله ﷺ صنع كما صنعت ثم ضحك، فقلت: من أي شيء ضحكت يا رسول الله؟ قال: "إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرك") (رواه الترمذي والنسائي وابن حبان)، وهكذا كانت محبتهم له متابعة كاملة له فيما يجب وما لا يجب، فيما هو من باب العبادة وما ليس بذلك، لم يزيدوا عليه بحكم عقولهم، ولم ينقصوا من شرعه بحكم أهوائهم، فكان ينبغي للمحب الصادق في كل عصر أن يقتدي بهم وأن يحذو حذوهم.

محبته كما ينبغي: المحبة الصادقة للنبي هي التي تثمر اتباعًا لهديه، وتطبيقا لشرعه، وتحقيقًا لمنهجه، كل ذلك على قدر الطاقة، وفي حدود الاستطاعة، من غير إفراط ولا تفريط، فإن أحدًا مهما بلغ حبه، لن يبلغ الكمال في المتابعة له ، ولكن يكفي المُحبَّ الصادق أن يحمل بين جنبيه نية صادقة على أن يقترب في كل يوم من صحيح الدين خطوة، يكفيه ألا يقنع بما هو عليه من التزام ديني، ولكن دائمًا ينشد الكمال في علاقته بدينه ونبيه ، كما قال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك رحمهما الله حين لام عبد الملك أباه بسبب تأخره في إنفاذ بعض الأمور فقال له عمر رحمه الله:أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟) (حلية الأولياء لأبي نعيم، وتريخ الخلفاء للسيوطي)، فيا لها من خطة عملية في الحب الصادق، فما يمر على المحب يوم إلا وهو يحي فيه سنة من سنن محبوبه، أو يميت فيه بدعة (جسمًا غريبًا التصق بدينه)، وإن رسول الله قال: (سددوا وقاربوا وأبشروا) (متفق عليه)، فأما السداد فمعناه عبادة الله على الصواب، فطلب الصواب في العبادة دين، إذ بدونه لا تُقبل العبادة، وقاربوا، أي إذا عجزتم عن إدراك الصواب، فقاربوا، أي افعلوا الأقرب للصواب على قدر الاستطاعة من غير إفراط ولا تفريط.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply