كيف تصبح مشهورًا في 15 دقيقة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في مشهدٍ مألوفٍ سترى شاب وفتاة مشهوريْن لشيء لا يستحق الشهرة -أو كان لا يستحق الشهرة- يقيمان حفل زواج كبير يحضره العشرات من زملائهم المشاهير لأشياء لم تكن تستحق الشهرة، ولكنها باتت الآن أكثر من كافية.

هذا مشهدٌ متكررٌ ستراه كثيرًا، ما لم تكن رأيته بالفعل، لكن العجيب حقًا أن بعض هؤلاء المشاهير يظهر على شاشة الواقع الافتراضي وهو يسخر من مشاهير آخرين ذوي محتوى مريب )كرينج(، ويصنع شخصيته كلها من وراء هذه السخرية، ثم هو بعد ذلك يحضر أعراس هؤلاء المريبين، ويتراقص مع المريبين الآخرين -المدعوين- وكأنهم فرغوا للتو جميعًا من امتحان نهاية العام واستأجروا الدراجات قبل أن ينهوا أطباق الكشري وأكواب القصب!

والأعجب من ذلك كله أن هؤلاء المشاهير يصدِّرون لنا شخصيات يستحيل أن تجتمع مع بعضها البعض في جملة واحدة، فكيف يجتمعون في عرسٍ يتبادلون فيه الضحكات والرقصات؟!

لو شاهدت هذا المشهد دعني أسألك: هل سمعت يومًا عن )مشخصاتي الأكشن( الذي اعترض طريقه ثلاثة رجال قبل أن يوسعوه ضربًا، ليكتشف أن )الأكشن( في الواقع يختلف عنه أمام الكاميرات؟ أم سمعت عن المتنبي الذي قتله بيته الشهير؟

في الحالتين كانت المشكلة واحدة: لا أحد يمكنه العيش بشخصيته الافتراضية دائمًا، فإمّا أن يفضح كذبه بنفسه ليحيا واقعه بهدوء، وإما أن يتسق مع خياله عن نفسه فيهلك بها أو يُجنّ.

في كتابه )عرض الذات في الحياة اليومية( يرى عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان أن ثمة جدلية أساسية تكمن خلف جميع تفاعلاتنا الاجتماعية، وهي أن الفرد عندما يكون في حضور الآخرين فإنه يسعى لاستكشاف واقعهم، ومن ثم يقوم بتصدير صورته إليهم بالشكل الذي يرضيهم -أولًا- ليرضى هو عن ذاته.

فعرض الذات هنا هو صنع صورة افتراضية متوهمة عنها ويمكنها أن تنال الإعجاب لغرابتها الشديدة عن الواقع. ففي الواقع كلنا دراميون: نمتلك أبعادًا وتداخلات تكون شخصيات مركّبة، وهذا يجعلنا متشابهين وإن اختلفت المخرجات. لكن على مواقع التواصل يمكننا أن نصدِّر طيفًا واحدًا من هذا المركّب ليسهل تمييزه، فتسهل شهرته. هنا سينجذب الناس للون واحد يرونه بوضوح بدلًا من لوحة الألوان المتشابكة، هم يملكون لوحةً مثلها على أحد الجدران، لكن هذا اللون الصارخ مثير ومُلفت.

لذا سنوزّع الأدوار: أنا سأكون ساخرًا من الجميع وسيعتقد المشاهدون أنني جلف لا أعبأ بالآخرين وأصنع النكات في أي سياق وعلى كل أحد. بينما هو سيكون مهذبًا لبقًا يتحدث بالإنجليزية كما أخرجها أهلها، وهي ستلبس رداء المتمردة، وتلك ستوهمنا أنها ذكوريةً. هذا تنويري ساخط، وذلك الرجل سيكون نسويًا أكثر من سيمون دي بوفوار، وتلك )فاشونيستا( تتحدث بالميزان وتبتسم بالمقياس... إلخ.

وكلنا كاذبون يا أصدقاء.

فلا أحد يسخر من الناس جميعًا ويبقى حيًا سالمًا يصنع الحلقات تباعًا، ولا أحد يذهب إلى السوق ليطلب من البائع نصف كيلو Tomato لتتبيلة تجعل اللحم Juicy، ولا توجد فتاة تعترض على طلب والدها كوبًا من الشاي. في الواقع ستتفاجئ أن تلك الذكورية تبحث عن زوج، أو في أفضل الأحوال وأحسنها ظنًا هي ردة فعل غير واعية، كما سيدهشك أن هذا التنويري يصلي صلاة الزين ويعترض على سورة المزدلفة. ستتفاجئ أيضًا أن ذلك النسوي يترك جواربه المتسخة على فراشه المبعثر حتى ترتّب أمه المسنّة فوضاه، بينما تغسل صديقتنا )الفاشونستا( جواربها بنفسها لأن رائحتها لا تطاق.

إنها شخصيات متخيلة يا صديقي تصنع مجتمعًا زائفًا يرتاده هؤلاء المشاهير، وهم معًا لأنهم يحمون بعضهم بعضًا دون أن يدروا. هم أصدقاء برباط الشهرة، ومتفاضلون بأعداد المتابعين، إلا من رحم ربي منهم من العقلاء. هم يشخّصون )الأكشن( بـ)دوبليرات( فيصدقهم الناس، فيقتنعون أنهم أبطال أوليمبيون. يوهمونك أن الخيل والليل والبيداء يعرفونهم -تمامًا كما السيف والرمح والقرطاس والقلم- فلا تملك إلا أن تصدقهم لسحر ما يرمونك به، ولا يملكون هم في النهاية إلا أن يكونوا واقعيين فيهربوا من السيف والرمح، أو أن يؤمنوا بضلالتهم فيصمدوا وتُراق دماؤهم.

في أوآخر الستينيات من القرن الماضي، تنبّأ الرسام الأمريكي آندي وورهول بظهور وسيط إعلامي يوفر للشخص العادي حلم الشهرة السريع، وعبّر عن ذلك في إحدى مقابلاته بمقولته المستبصرة: )في المستقبل، سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط.(

هكذا دون أسباب ودون مجهود، فالشهرة ستكون سائلةً لا تحتاج إلا أن تفتح الصنبور لتغرقك، ثم دع بعدها كرة الثلج تتضخم بمتتالية هندسية تفاقم شهرتك، كل ما عليك هو أن تحافظ على شخصيتك الافتراضية التي صنعتها لأن الحقيقة لا تجذب الجمهور، حتى لو كانت حقيقتك تكذّب ما تدعيه، فدع حقيقتك لمقابلات العمل، واحمِ كذبتك لتزداد شهرتك وتُدعى في أعراس المشاهير، وتذكر دائمًا ما قاله دانييل بورستين: )إن المشاهير أشخاص شهيرة لأنهم مشهورون جدًا.(

على كل ليس العجب من هؤلاء، ولكن من مغفلين يصنعون بهم القدوات.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply