فتنة الإلحاد والحلقة الشيطانية المفرغة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد إنتشرت في الآونة الأخيرة فتنة حرق القرآن وكلمة *أنا ملحد*، والتي فاجأنا بها بعض من كان ينتمي لملة الإسلام. فأوعروا بها قلوب المسلمين وأصموا بها ءاذنهم. وقد لاحظنا في أكثر من حادثة وحادثة ارتباط الإلحاد والمثلية وحوادث حرق القرآن. وكأنها حلقة مفرغة تسجن مَن داخلها بين أساور الشيطان وتجعله يتخبط من غي إلى غي ومن كبيرة إلى أخرى حتى ينتهي به الأمر إلى الكفر والإلحاد.

ورأينا في الإعلام من يعلن إرتداده عن الإسلام ويتحدث عن العنف في القرآن كما يسميه الخاسئ، ثم نتفاجأ به بين جموع المثليين وأصحاب الألوان، ومن المؤسف أن تسمعه يردد آيات من القرآن بغرض النقد، ولكن ترديده يعكس حفظه للقرآن والمجهود الذي بذله معه والداه ليتعلمه. فكان حريا به أن يفهم الإسلام على حقيقته وأنه دين سلام ولا إرهاب فيه. ولكنه أخلد الأرض واتبع هواه وكان أمره فُرطا. فلم ينتفع بتلك الآيات التي تعلمها ولم يحترم قُدسِّيتها. فيا للعجب وما يمكن أن يصل إليه الإنسان في تفكيره، لاسيما بتأثير البيئة المحيطة به. ويمر على الخاطر من حاله قوله تعالى: }إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{[i]. فها هو يعتدى على كتابنا المقدس الشريف بالحرق والدهس والإساءة. كالثور الهائج الذي يملأه الكبر والغرور. والله سبحانه وتعالى ليس بغافل عنه، ولكنه يمده في غيه حتى يأخذه في أشد ظلمه ويحشره على نار جهنم خالدا مخلدا فيها. وهي حسبه ومأواه، ولا يظلِمُ ربُّك أحدا.

قال تعالى: }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ{[ii].

فهذا ما قدمت له يداه وما أرداه فيه غروره وجهله بالله وبقدرته، وبأنه يمكنه أن يقضي عليه في لمح البصر. وكذا هو برحمته سبحانه يمهل ولا يهمل... ويعطى الفرص والإشارات والإنذارات لعل ذلك المغرور يتوب أو يرجع قبل أن يأخذه بعذابه أخذ عزيز مقتدر.

قال تعالى: }قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ{[iii]. وأما إن أصروا وتمادوا وازدادا في كفرهم وردتهم حتى يدركهم الموت فلهم عذاب أليم، لا ينتهي ولا يُفتَّر عنهم.

قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ{[iv].

وقد توالت الأحداث في الآونة الأخيرة وتكررت حوادث الإساءة إلى الإسلام بما فيها حرق القرآن والإساءة إلى الرسول والمسلمين في أوروربا وفرنسا والسويد وألمانيا وغيرها، وجرَّت وراءها ما جرَّت من الشغب والهرج للمسلمين وغير المسلمين. بل وأدت إلى العنف الداخلي في بعض منها. حتى غدت حكومات بعض من تلك الدول تحاول إيقاف تلك الأعمال التي تسئ لأديان الناس ومعتقداتهم بما فيهم المسلمين لما جرَّته لهم من المظاهرات والحركات المعارضة. وتفعل ذلك لا حبا في المسلمين... ولكن لحفظ الأمن والإستقرار في بلادهم. وللفوضى التي انتشرت بسبب أعمال هؤلاء المرتدين فيها واعتداءاتهم المتوالية. وكل هذا من عمل الشيطان الذي أغواهم لإرتكاب الردة والكفر.

وما كان ذاك الهرج والشغب كما يسمونه في تلك الدول إلا ثورة الغيورين من المسلمين على دينهم لنصرة الله ورسوله. فتقبل الله منهم وأثابهم على غيرتهم. ولكن على المسلمين الإنتباه إلى أن المرتدين وأعداء الإسلام لم يستمروا بعمل هذه السخافات إلا بعد أن رأوا كيف أن هذه الأفعال تثير حفيظة المسلمين وتغيظهم. فتمادوا في الظلم والإساءة لإغاظة المسلمين وتحقيرهم وإثارة البلبلة والضوضاء حولهم والإساءة لسمعتهم وتزييف الحقائق وتلوينها. حتى ينتشر بين الناس أن المسلمين إرهابيين ومصدر للمشاكل والعنف. وكل هذا يسئ لسمعة الإسلام قبل المسلمين، ويعود بالضرر على مسيرة نشر هذا الدين. وربما لو أن المسلمين تجاهلوهم ولم يعيروهم بال أو يعطوهم وزن لما استمروا في هذا الظلم والإعتداء، ولتوقفوا عن الإساءة للإسلام ويأسوا وانصرفوا.

ويذكرنا هذا الحال بالمثَل الذي يقول: دع *الكلاب تنبح والقافلة تسير*. وقد تمت الإساءة إلى الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم في عهده كثيرا، ولكنه صلوات الله وسلامه عليه لم يضيع وقته بسباب المعتدين وشتمهم بالمثل والقيل والقال والجدال والمناورات التي تضيع الجهد والوقت... بل إستمر في دعوته ومسيرته، حتى أيده الله بنصره وإذن له بالهجرة وفتح له مكة. وليس ذلك فحسب بل مد نصره في مشارق الأرض ومغاربها وفتح له بلاد الشام والفرس والروم وجعله سيد ملوك الأرض وقائدهم. ورفعه فوق رؤوس المعتدين ونصره عليهم.

قال الله تعالى: }وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ{[v]. وكل ذلك بفضل الله تعالى ثم بحكمته صلى الله عليه وسلم وحلمه وحسن تدبيره. واستعمال الحكمة والعقل كان من الوسائل التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأعداء.

وأما عقاب هؤلاء المرتدين في الآخرة فهو الخلود في النار إن لم يتوبوا. لأن الردة هي الخروج من الإسلام والدخول في الكفر. والكفار عقابهم نار جهنم، هي حسبهم وبئس القرار.

قال تعالى: }أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ{[vi]. وقال: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{[vii]. وقد أكد الله تعالى انه لن يقبل أي دين غير الإسلام بعد إرسال محمد عليه الصلاة والسلام. وأن من يتخذ غير الإسلام دينا سيكون من الخاسرين حتى ولو عمل ما عمل من الصالحات.

قال الله تعالى: }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{[viii]. فإن كان سبحانه لا يقبل الأديان الأخرى بعد الإسلام، فإن الردة أسوأ من تغيير الدين. فالملحد لا يؤمن بالله، ويكفر بجميع الأديان. والردة من كبائر الذنوب التي تستوجب اللعن والطرد من رحمة الله.

قال تعالى: }كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{[ix]. وقال العلماء أن عقوبة الردة في الدنيا القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[x].

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون أقوام يقرءون القرآن ومع ذلك يخرجون من الدين ويرتدون عنه، وذلك في قوله: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، سيماهم التحليق"[xi]. وهذا يعكس تماما ما يحدث في واقعنا اليوم. فتجد هؤلاء المرتدين يعلمون ما جاء في القرآن بل وبعضهم يحفظون منه السور والآيات، ثم يأتي بكفره وإلحاده. فلم تنفعه تلك المعرفة لتكبره وإستكباره على خالقه. وهو في ذلك أشد من كفار قريش حيث يقوم بحرق القرآن على الملأ... تحقيرا له والعياذ بالله. فهو تمادى وتجرأ على محرمات الله... وليس كالكافر العادي الذي ولَّى ولم يبالي. فقد أخذ خطوات وخطوات في الإعتداء والشر والتجرأ على الله. ولذا كثيرًا ما يأتي هؤلاء وأمثاله العقاب حاضرًا في الدنيا قبل الموت. فمنهم من مات محروقا، ومنهم من مات مريضا، ومنهم من قُتِل بأيدي الناس وغيره. وهذا غير ما ينتظرهم من عذاب جهنم وسعيرها. ولا يجوز الترحم عليهم... فهم أعداء الله وجبابرة الأرض. ماتوا على الكفر والردة في أبشع صورها وأشدها شرا. قال صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض، فمن ورد أفلح، ويؤتى بأقوام، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أي رب، فيقال: ما زالوا بعدك يرتدون على أعقابهم"[xii]. فهلا يتوب الأحياء منهم قبل أن تصيبهم مصيبة الموت. فبفضل الله تعالى ورحمته بعباده أنه أبقى باب التوبة مفتوح للإنسان ما لم يغرغر. وقال تعالى: }إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{[xiii]. وقال: }فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{[xiv].        ولا شك أن الفتن تتكاثر على الناس من كل ناحية في هذا العصر، لاسيما الشباب. والغاوين في كل مكان... ينشرون أفكارهم الفاسدة في أوساط الإعلام وصياحه. فيتبعهم الناس برؤوس جهال تماما كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بحدوثه. ولذا على المسلم أن يحصن نفسه ويسلحها بالعلم وقراءة القرآن والسنة، وحضور حلقات العلم ودروس العقيدة والتوحيد. وحضور الشباب والصغار لهذه الدروس فيه فائدة كثيرة لهم، لاسيما في بلاد الغرب. وكذلك الإستعاذة من الردة والإلحاد. وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الكفر في دعائه ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر"[xv]. وقد دعا ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: *اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد ونعيما لا ينفد ومرافقة محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد*[xvi]. ثم علينا بالصبر والصبر ومجاهدة النفس. فإن أجر من صبر منا وتمسك بدينه أعلى من أجر من قبلنا، وذلك لشدة الفتن. قال صلى الله عليه وسلم: "يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ"[xvii].

وهذه بشارة لنا بفضل الله تعالى. وقد عانت الأمم قبلنا ما هو أشد وأدهى في فتن أعداء الدين، ولكنهم صبروا ولم يرتدوا عن دينهم. فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردوننا عن ديننا، فصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له، فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة فقال: "أيها الناس، اتقوا الله واصبروا، فوالله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه، فيشق باثنتين وما يرتد عن دينه، اتقوا الله؛ فإن الله فاتح لكم وصانع"[xviii]. فلنتأس بهم ونحذو حذوهم ونخطو خطاهم حتى نصل لطريق الجنة بإذن الله.

نسأله سبحانه أن يثبتنا جميعًا على ديننا، ويجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويقبضا إليه مسلمين، غير مرتدين ولا مشركين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

[i] القصص ٥٦.

[ii] المنافقين ٣.

[iii] الأنفال ٣٨.

[iv] آل عمران ٨٨-٩١.

[v] الأنفال ٦٢.

[vi] إبراهيم ٢٨-٢٩.

[vii] المائدة ٥٤.

[viii] آل عمران ٩١.

[ix] آل عمران ٨٦.

[x] أخرجه البخاري (٣٠١٧).

[xi] أخرجه الألباني في صحيح الجامع (٣٦٦٨) وصححه عن أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وأوس.

[xii] أخرجه من طرق البخاري (٣٣٤٩)، ومسلم (٢٨٦٠)، والترمذي (٢٤٢٣)، والنسائي (٢٠٨٧) بنحوه مطولا، وأحمد (٢٣٢٧) واللفظ.

[xiii] آل عمران ٨٩-٩١.

[xiv] التوبة ٥.

[xv] أخرجه ابن جرير الطبري في مسند عمر (٢/٥٧٥).

[xvi] أخرجه ابن حبان في صحيحه (١٩٧٠). وأخرجه أحمد (٤٣٤٠)، والطبراني (٩/٦٢) (٨٤١٧) باختلاف يسير، والنسائي في السنن الكبرى (١٠٧٠٥) مختصرا.

[xvii] أخرجه الألباني في صحيح الترمذي وحكم عليه بأنه صحيح. وأخرجه الترمذي (٢٢٦٠) واللفظ له، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٥/٥٥)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (٣١).

[xviii] أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٥٧٥٠)، وحكم عليه بأنه صحيح الإسناد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply