ومضات على خطى رمضان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

أخي الحبيب، ها هي ذي النفحات الربانية بدأت تملأ الوجود جالبةً معها ألوانًا زاهية من البشائر والمسرات معلنة بذلك حلول ضيف كريم عزيز على قلوبنا ولسان حالنا يقول: *اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام*.

إنه رمضان!! هذا الزائر خفيف المُقام قد عاد مرة أخرى بعد أحد عشر شهرًا من الغياب، ليعلن عن مرحلة جديدة من مشوار الحياة التي لابد لنا فيها من وقفة تأمل في حصيلتها ومراجعة لأهم أحداثها وأحوالها.

أيها الغالي، لقد أكرمك الله وأنعم عليك لمّا جعلك من الذين بلّغهم رمضان، فطوبى لمن أرى ربه في هذا الشهر المبارك ما يحب ويرضى، ألا إن أبواب الجنان قد فتحت وأبواب النيران قد أوصدت ألا فالبِدار البدار إلى التوبة والندم على ما فات وتصحيح المسار قبل الممات.

أخي الفاضل لو قُدّر وأزحت التراب عن أحد الموتى ثم سألته ماذا لو أعاد الله له الحياة في هذا الشهر، ماذا كان سيفعل؟ لأجابك بنفس ملؤها الندم والحسرة أنه سيُقبل على الله بكل أصناف الطاعات والقربات ويُدبِر عن ضدّها من المعاصي والمحرمات لعله ينال رضى رب البريات، لكن هيهات هيهات فقد غره طول الأمل حتى أدركه الأجل، فاربأ بنفسك أيها اللبيب الكيّس من الخسران وهب لو أنك كنت مكان هؤلاء الناس الذين ماتوا وقد ودّعوا موسم الخيرات هذا إلى غير رجعة وقد كانوا هم أيضا من قبل يسوفون ويظنون أن رحلة الحياة لا زالت طويلة، فإياك ثم إياك أن تجعل من أيام رمضان كغيرها من سائر الأيام، تذكر -جعلني الله وإياك من الذين صاموه وقاموه إيمانًا واحتسابًا- أن تجعل من هذه الأيام المعدودة أفضل أيام حياتك وأعظمها قدرًا واهتماما وقد حق لها أن تكون كذلك، فإنها أيام تصام تباعا وتنقضي سراعا، واعلم رعاك الله أن استثمارك لهذه الفترة الوجيزة من عمرك سيربحك إن شاء الله ما لا يخطر لك على بال من خيري الدنيا والآخرة، فاجعلها إذن محطة فارقة بين ما قبلها وما بعدها كي ترتقي بنفسك وروحك معا نحو العوالم الربانية النورانية.

دعني أخبرك أن الرعيل الأول من سلفنا الصالح كانوا يعلمون حقا وصدقا ماذا يعني رمضان فقد كانوا يعملون أعمالا بحجم وقدسية هذا الشهر كما شرفه الله وعظمه، إذ يتسابقون ويُعدّون له العدة طيلة ستة أشهر وهم متطلعون بشوق متى يحل موسم الرحمات هذا، وتجدهم يرفعون حالة التأهب بمجرد دخول شهر شعبان، أما بحلوله فلا شيء يمكنه أن يحول بينهم وبينه، بحيث أنهم كانوا يؤجلون كل أشغالهم الدنيوية غير الضرورية إلى ما بعده فيشمرون على سواعدهم بالتفرغ لما هو أهم من صلاة وصيام وصدقة وتلاوة للقرآن وذِكر ودعاء وصلة للأرحام وهلم جرا...، فأبواب الخير لا حصر لها فتراهم يهتبلون هذه النعمة العظيمة والفرصة الثمينة ويغتنموها أيما اغتنام، فلربما لا يدركونها في العام القادم، ثم إذا انقضى رمضان وانتهى بكوا على فراقه وانتحبوا لرحيله ولكنهم يستمرون بفضل رصيد الإيمان الذي حصّلوه فيه على ما كانوا عليه من علو في الهمة وإقبال على الخير وثبات على الصلاح طيلة ستة أشهر التي تعقبه، راجين الله أن يتقبل منهم ما قدموا على طبق الافتقار فهو سبحانه الغني الغفار، هكذا كان حال أولئك الصالحين مع شهر الخيرات والبركات، فماذا عنا نحن؟! ربما الظروف اليوم ميسرة أفضل من زمنهم على التزود من رمضان، ولذلك لم يبقى لنا عذر في التقاعس عن بذل أسباب جلب رحمة الله وعفوه ودفع غضبه ومقته.

رسالتي إليك أيها اللاهي بأهواء نفسه أفق من الغفلة وتدارك نفسك، احزم أمتعتك فلقد حان وقت السفر والتنزه في هذه الرحلة الإيمانية مع عِباد الرحمان أولئك الذين يطلبون شآبيب الرحمة والغفران من رب حليم غير غضبان، إنها فرصتك يا صاحبي لتتصالح مع ربك وتبدأ صفحة بيضاء ترسم فيها كل ما هو جميل. صدقني إن قلت لك أن ذلك الإحساس المرهف الذي ستشعر به عند إقبالك على الله لهو أعذب من الماء الزلال عند اشتداد الظمأ فأنت تتعامل مع الكريم الذي يحسن إكرام عباده ويُجزِل لهم الثواب.

أخي الحبيب، إن أبواب السماوات قد باتت مشرعة على مصراعيها تنادي على لسان الغفار: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ إنه ذلك النداء النوراني الخالد الذي تخفق له القلوب فرحا وتهيم به الأرواح شوقا وكلها أمل في التحرر من درن العبودية الهوجاء والانفكاك من طموحات الهوى الخسيسة التي تورث البؤس والأسى في كل زاوية من زوايا الفؤاد، نعم لقد جاء الفرج من صاحب الفرج فتخيل معي حفظك الله كيف أن ملك الملوك يدعوك أيها العبد الضعيف المغلوب على أمره إلى مائدة عفوه وكرمه وفضله وقد كنت تبارزه بشتى أنواع العصيان والتمرد، ولكنه رحمة بك فتح لك باب عفوه الفسيح لكي يسامحك، فإن قبلت أغرقك في نعمه وصانك بحفظه بل ويباهي بك عند أهل السماء أن يا ملائكتي هذا عبدي قد اعتصم بحبلي المتين واتبع صراطي المستقيم، أشهدكم أني قد غفرت له، فأنْعِم به من مقام قد منحك الوهاب إياه فماذا أنت صانع إذًا!؟

أخي، دعني أهمس في أذنيك هذه الكلمات الصادقة اللطيفة (أو الرقيقة) المخضبة بمشاعر الود والحب عساها تجد آذانًا صاغية أو صدرًا رحبًا لعلها تسكن آلامه، وتطهر الصدأ الذي دنس القلب، فتكون لك بإذن الله انطلاقة مشرقة، فهيا بنا إذن لننضم إلى ركب قوافل الريان وليكن شعارك *يا باغي الخير أقبل*.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply