بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا الله عباد الله حق التقوى، فلا عزَّ أرفعُ من التقوى، ولا زينَ أجملُ من العقل، ولا كنزَ أنفعُ من العلم، ولا عيبَ أسوءُ منَ الكَذِب، ولا حافظَ أصينُ من الصمت، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}.
معاشر الصّائمين الكرام: أتساءلُ عن عضوٍ صغيرٍ في أجسامنا، بحجم قبضةِ اليد، إذا صلُحَ هذا العضو، صلُحت أحوالُ الإنسانِ كُلِها؛ وإذا فسدَ هذا العضو، فسدت أحوالهُ كُلها، والجوابُ كما تعرفون جاءَ في حديثٍ متفقٍ عليه في الصحيحين، قال ﷺ: "ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وهيَ القَلْبُ"، القلبُ: هو محلُ نظرِ الرّب، ففي صحيح مسلم: "إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"، بالقلبِ: يَعرِفُ العبدُ ربَّه، وبه يُحبهُ ويخافُه ويرجوه، وبالقلبِ يُفلِحُ العبدُ وينجو يومَ القيامة، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وبالقلبِ يا عباد الله: يُقطعُ سفرُ الآخرةِ، فإنّ السَّيرَ إلى الله تعالى سيرُ القلوبِ لا سيرُ الأبدانِ، وقلبُ الشّيءِ: هو جوهرهُ وأشرفُ ما فيه، وإنما سُمي القلبُ قلبًا؛ لأنهُ كثيرُ التّقلُّبِ، سريعُ التّغيُّرِ والتّحول، ومع هذا فالقلبُ هو منبعُ الخيرِ والشرِّ في الإنسان.
تأمّل: }إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{، وقال تعالى: }وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ{، وقال تعالى:}رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا{، بينما قال عن الأعراب: }وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ{، وقال عن أهل النفاق:}فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ{، وقال عنهم أيضًا: }فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا{، وقال عن أهل الكفر: }وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون{، فالقلبُ له أحوالٌ متنوعةٌ، وأوضاعٌ مُتقلبة، ما بين موتٍ وحياة، وغفلةٍ وانتباه، ووجلٍ وطُمأنينة، واستنارةٍ وظُلمة، وإبصارٍ وعمى، وقسوةٍ ولين، ومرضٍ وصحة، واستقامةٍ واعوجاج، وصلاحٍ وفساد، وارتيابٍ واهتداء، ومن تدبرَ قولَ الله تعالى: }يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ{.
وقولهِ تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب}، وقولهِ جلَّ وعلا: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، علم أنّ الشّأنّ ليس في أعمال الجوارح، وإنما الشّأنُ في أعمال القلبِ وتقواه، وأنَّ الاجتهادَ في تزكية النفسِ، وإصلاحِ القلب، هو سبيل الفوز والنجاة، ولذا يقول العلماء: أنّ أعمالَ القلوبِ أهمُّ من أعمال الجوارح، أعمالُ القلوب: (كالخشية والإنابة، والمراقبة، والمحبة والإخلاص، والتعظيم، والاخبات، والتوكل) ونحوها، مقدمةٌ على أعمال الجوارحِ من الطاعات والعبادات، وما فائدةُ العملِ بلا ثمرة، وهل يقومُ بناءٌ بغير أساس، ما فائدةُ الصّيامِ بلا تقوى، وأين قولهُ جلّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}، وقوله ﷺ في صحيح البخاري: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ"، فالصّيامُ الحقيقيُ يا عباد الله، هو صيامُ القلب، وإنّما صيّامُ الجوارحِ وسيلةٌ موصِلةٌ إليه، في صحيح مسلم: "التَّقْوَى هاهُنا. ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ"، وفي صحيح مُسلم أيضًا، قال ﷺ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"، وعلى هذا فطاعاتُ الجوارح وإن كثرت، فإنها إذا لم تُثمر صلاحَ القلب، وزكاءَ النفس فهي الإفلاس، ففي صحيح مُسلم: "المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ"،
إذن فمن المهم جدًا أن يجتهد المرءُ في تزكية نفسه، وإصلاحِ قلبه، فاللهُ جلّ وعلا يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، ويقول الحسن البصري رحمه الله: *داوِ قلبَكَ؛ فإنَّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم*، وتأمل كيف أجابَ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمة الله، على من سألهُ أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: هو العملُ الذي تجدُ فيه قلبك، والمعنى: أنّ من أرادَ أن يسعى في تزكية نفسه، وإصلاحِ قلبه، فليبحث عن العبادة التي يَصلُحُ بها قلبه، فهذا هو الأفضلُ في حقه، فكيف هو قلبك أيها المبارك: ما هي الطاعة التي تحبها، فالقلب إذا أحبّ طاعةً ما، سهُلَ على الجسد القيامُ بها.
والقلبُ: إذا أحبَّ القرآنَ، فإنَّ اللسانَ لا يتعبُ من التّلاوة..
والقلبُ: إذا أحبَّ المسجدَ، بكَّرَ بالذهاب إليه، وأطال َالجلوسَ فيه، والقلبُ: إذا أحبّ الصلاةَ، خشعت الجوارحُ وارتاحَ بها..
والقلبُ: إذا أحبَّ الصيّامَ، فإنَّ الجوعَ والعطشَ يزيدهُ نشاطًا واقبالًا، والقلبُ: إذا أحبَّ العلمَ، سهرَ الجِسمُ في طلبه..
والقلبُ إذا أحبّ فعلَ الخير، سخت اليدُ واعطت، ولانَ الطبعُ ورقَّ، وسمت الاخلاقُ وحسُنت..
هكذا أيّها الكرام: فإذا كانَ القلبُ مُحبًا للعمل، فإنَّ الجسدَ لا يتعب، والنفسَ لا تملّ، جاء في صحيح البخاري أنّ رسول الله ﷺ كان يقومُ الليل حتى تتورَّم قدماهُ، فتقول عائشة رضي الله عنها: أتفعل ذلك وقد غفَر الله لكَ ما تقدَّم من ذنْبِك وما تأخَّر؟ فيقول: "أفلا أكونُ عبْدًا شكُورًا"، وكان يقول عن الصلاة: أرحنا بها يا بلال، وكان ﷺ يواصِلُ صومَ اليومينِ والثّلاثةِ، وكان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضان ويُحيي الليلَ كله، وفي صحيح مُسلم، يقول حذيفةُ رضي الله عنه: *صليتُ مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يُصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركعُ بها، ثم افتتحَ النّساءَ فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأُ مترسلًا، إذا مرَّ بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوذٍ تعوذ، ثم ركعَ فجعل يقول: سبحان ربي العظيم فكان ركوعهُ نحوًا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قامَ طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجدَ فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجودهُ قريبًا من قيامه*.
اعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم}.
اتقوا الله عباد الله، {فمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}، معاشر الصائمين الكرام:
ذكرنا أنَّ صلاحَ القلبِ، وتزكيةَ النفسِ ألزمُ وأهمُّ من العناية بعمل الجوارح، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، وفي صحيح البخاري، حين أخبَر المصطفى ﷺ بخبرِ الخوارج، فقال مُحذرًا: "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القرآن لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، فلا بدَّ من تعاهُدِ القلوبِ والاعتناءِ بها، ففي صحيح مسلم: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ"، وفي الحديث الصحيح: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أَفضَلُ؟، قالَ كلُّ مخْمومِ القلبِ، صدُوق اللسانِ. قالُوا: صدُوقُ اللِّسانِ نعرفُه، فما مخمومُ القلبِ؟، قال: هو التقيُّ النقيُّ، لا إِثمَ فِيه ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ ولا حَسَدَ".
فهل يليقُ بالعبد المسلمِ أن يمرَّ عليه شهرُ الخيرِ والبركة، شهرُ الهدى والتقى والرحمة، ثم لا تزكو نفسه، ولا ينصلِحُ قلبه، ولا يستقيمُ حاله، فليسأل المسلمُ نفسه: أينَ أثرُ الطّاعة؟ أين ثمرةُ الصّيامِ والقيّامِ والصدقةِ والعمرةِ وتلاوةِ القرآن، وما هي التقوى التي حصَّلَها من رمضانَ، إذا كان سيستمرُ في أكلِ الحرامِ، وإذا لم يتوقف عن مُشاهِدة وسماعِ الحرام، وإذا استمرَ ينهشُ في لحوم إخوانهِ غيبةً ونميمة، وإذا لم يتوقف عن قطيعة الرحم وأذية الجيران، كم هو واللهِ غبنٌ عظيم، وخسارةٌ كبيرة، أن يفوِّتَ المسلمُ على نفسه أعظمَ ثمراتِ الصّيام، (لعلكم تتقون)، فـ الله الله في إصلاح قلوبكم، قد أفلح المتقون..
ومن أراد معرفةَ مستوى صلاحِ قلبه، فليعرض نفسهُ على نصوص القرآن، خصوصًا تلك التي جاءت لبيان حالِ القلوب..
كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون}، والمعنى: إنما المؤمنونَ الصادقونَ الذين إذا ذُكِّروا بربهم، خافت قلوبهم وفزعت، استعظامًا لجلال الله، وحذرًا من عقابه، ورغبةً في ثوابه، }وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا{ أي زادتهم قوةً في التّصديق، وشِدةً في الإذعان، ورسوخًا في اليقين، ونشاطًا في الأعمال الصّالحة، وسِعةً في العلم والمعرفة، }وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون{ أي: أنهم يعتمدون عليه، ويفوضون أمورهم كلها إليه، فلا يرجونَ سِواه، ولا يلوذون إلا بحماه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِين يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}، أي: هم الذين يجتهدونَ في أعمال الخير والبر، ويعطون العطاءَ وقلوبهم خائفةٌ ألا يُتقبلَ منهم، وفي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ}، أي: تقشعرُ جلودهم خوفًا من عذاب الله، ثمَّ تلينُ جلودهم وقلوبهم عند رجاءهم لثواب الله، وفي تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ}، أي: أما آنَ الأوانُ لقلوب المؤمنينَ أن تخشعَ وتلين، تأثرًا بما أنزلهُ اللهُ من الآيات في كتابه المبين، وفي تفسير قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ}، أي: يُصدِقوهُ وينقادوا له، وتخضعَ لهُ قلوبهم، وتَسكُنَ وتطمئنَ إليه نفوسهم، وفي تفسير قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}، أي: من خافَ مقامَ ربهِ دونَ أن يراهُ أحد، وجاءَ ربهُ يومَ القيامةِ بقلبٍ مخلصٍ في طاعته، مُقبلُ على عبادته، وفي تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، أي: أنّ من يعظمُ شعائرَ اللهِ وأوامره، فهو دليلٌ على صلاح قلبهِ وتقواه، وعلى خشيته وحسنِ صلتهِ بالله جلَّ في علاه، وعلى حرصه على نيل رضاه، وفي تفسير قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولكن قست قلوبهم}، أيّ أنّ من لم يفزع لربه وقتَ البلاءِ والشدّةِ، فهذا دليلٌ على عناده وقسوةَ قلبه، وشدةَ بعده عن ربه، وفي تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، أي: ترتاحُ قلوبهم وتأنسُ وتسكن، بسبب تدبرها لكلامه سبحانه، وغيرها من الآيات كثير.
فلنَلْتَفِتْ إلى قلوبنا يا عباد الله، ولنعلم أنَّ من أعظم أسبابِ حياةِ القلوبِ وصلاحها: الإقبالُ على الله وتعظيمه، وتدبرُ القرآن الكريم، وحفظُ الوقتِ وحسنِ استثماره، ومخالفةُ النفس والهوى، وصحبةُ الصالحين، وتأمل ما قاله الامام ابن القيم فهو وصيةُ مجرب، يقول رحمه الله: *لَيْسَ شَيْءٌ أنْفَعَ لِلْعَبْدِ في مَعاشِهِ ومَعادِهِ، وأقْرَبَ إلى نَجاتِهِ مِن تَدَبُّرِ القُرْآنِ، وإطالَةِ التَّأمُّلِ فِيهِ، وجَمْعِ الفِكْرِ عَلى مَعانِيهِ، ولو علِمَ الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها*، ويقول علامة الجزائر الإمام عبدالحميد بن باديس رحمه الله: *فوالله الذي لا إله إلا هو ما رأيت وأنا ذو النفس الملأى بالذنوب والعيوب أعظمَ إلانةً للقلب، ولا استدرارا للدمع، ولا إحضارًا للخشية، ولا أبعثَ على التوبة، من تلاوة القرآن وسماعه*.
فتعاهدوا يا عباد الله كتاب ربكم وأكثروا من تلاوته وتدبره والعناية به، فالله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أم عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، اللهم فاجعلنا من أهل القرآن الذين هم اهلك وخاصتك،
ويا ابن عش ما شئت فإنك ميت، أحبب من شئت فإنك مفارقه، أعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد