أحدثكم عن الدكتور عبده زايد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

عندما كان تلميذًا يافعًا؛ أراد شيخه أنْ يُعلِّمه درسًا في التواضع، وإنكار الذَّات، فقال له: اذهب، وابحث عن أحقر إنسان، وافعل أَيَّ خدمة يطلبها مِنك!

 فانطلق الفتى يجوب شوارع البلدة شرقًا وغربًا، عسى أنْ يعثر على ذلك الحقير!

وبعد عناءٍ مرير؛ وقعتْ عيناه على رجلٍ كهلٍ مريض، يتساقط عليه المطر بغزارة، والرياح تجرف عليه كناسة الشوارع، حتى تحوّل إلى كومةٍ من الطين! فساءلَ نفسه قائلًا: وهلْ هناكَ أحقر مِن هذا الرجل... ثمَّ تَوَجَّه نحوه ببطء، ونادى عليه -وفرائصه ترتعد-:

يا عَمِّ؛ اطلب مني أيّ خدمةٍ أَقْضيها لكَ الآن! فتقلَّبَ الرجلُ على جنبَيه، ثمَّ نظر إليه، وقال بصوتٍ خافت: لَستُ أنا أحقر إنسان.. وبلّغ سلامي لشيخك!!

منذ ذلك اليوم؛ أدرك الفتى مكانة شيخهِ الجليل العارف بالله، وقرّر ألاَّ يبرح ساحته المباركة... حتى عندما الْتحقَ بكلية اللغة العربية بالقاهرة، بلْ حتى عندما تخرج فيها، وصار أستاذًا كبيرًا؛ كان يعود إلى الساحة ويُلقي الخُطبَ والدروس والمحاضرات!

في مطلع التسعينيات، كتبَ مقالًا بمجلة *رسالة الإسلام* بعنوان *العربية لغة الوحي والوحدة*، فترك أثرًا كبيرًا بوجداني، وأوحى إليَّ بتأليف كتاب (عبقريّة اللغة العربية)! كما أنَّ مقالته *الأدب القبطي*، أرشدتني إلى إعداد كتاب (مُحمَّد في شِعر النَّصارى العرب)!

في منتصف التسعينيات، أهداني كتاب *البيان النبوي*، ففتح شهيّتي لتأليف كتاب (بلاغة الرسول)! وعندما أهداني كتاب *عكس الظَّاهر في القرآن*؛ حرّضني لتأليف كتاب (لغة القرآن)! ولمّا قرأتُ كتابه *الأدب الإسلامي ضرورة*؛ سارعتُ لتأليف كتاب (أعلام الأدب الإسلامي)!!

ذات مرة، ذهبتُ إليه في الصباح الباكر –كما تعوّدنا- وقبل أن نصعد إلى شقّته؛ مررنا على فضيلة الدكتور *أحمد الطيّب*، فرأيناه يتناول الإفطار، وليس عنده سوى كوبٍ من الشاي وبقايا خبزٍ جاف... فاندهشنا مِن تلك الحالة العجيبة، وقال لي: أسرِع، والْتقِط بالكاميرا صورةً تاريخيّة، واكتُب تحتها: أتعبْتَ مَن جاء بعدكَ يا إمام!

فردّ الشيخُ قائلًا: هذا فضلٌ مِن الله، فهناك ملايين لا يَجدونَ هذا الخبز ولا هذا الشاي!!

لا جَرَمَ أنَّ نبأ وفاة أستاذنا كان ثقيلًا على أصدقائه ومُحبيّه، ولمّا أبلغتُ الخبرَ لأحد زملائهِ العراقيين بجامعة أُكسفورد؛ سألني -على الفوْر-: مَن أخبركَ بذلك؟ قلتُ له: أخبرني صديقه الأديب الكبير (مأمون جرّار). فأجهش بالبكاء، وأقسمَ قائلًا: والله؛ ما رأيتُ أجملَ منه خُلُقًا، ولا أكثر منه تواضعًا، ولا أشدَّ منه زُهدًا.. فقد كان يضرّ نفسه لينفع الآخَرين!

 فقلتُ له: أهذا الذي لمسته فيه مع قلّة اللقاءات التي جمعتكَ به... فماذا لوْ أخبرتكَ أنَّني صاحبته ثلاثين عامًا أوْ يزيد؟!

فأبرقَ وجهه في الحال، وأقسم عليَّ أن أُحدّثه عنه كثيرًا، فأخذتُ أحكي له مِن نوادره، ورويتُ له قصته مع العارف بالله -والد شيخ الأزهر-، وحدّثته عن مدى شفقتهِ على تلامذته، واعتزازه بأساتذته.. فصاح قائلًا: اللهمَّ ارحم أخانا الشيخ (عبده زايد) برحمتكَ الواسعة!

وأنا أقول: اللهمَّ ارحم أستاذنا (عبده زايد) برحمتكَ التي وسِعتْ كلَّ شيء!

إنه ربيب ساحة آل الطيّب بالصعيد الجوّاني، وأستاذ البلاغة والنقد بجامعة الأزهر، وأحد المؤسّسين لرابطة الأدب الإسلامي بالقاهرة ... وسأظلُّ أترحّم عليهِ ما دمتُ حيّا، فقد كانت آخر وصاياه لي:

 لا تنطِق بكلمةٍ إلاَّ إذا أعددتَ لها الجوابَ يوم الحشْر والنشور!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply