يسألونك عن العشر فضل الأيام العشر من ذي الحجة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

لا شك أنَّ هذه الأيام هي موسم من مواسم الطاعات والخيرات، فيها يتنافس المتنافسون، ويتسابق إليها المتسابقون، ولمَا لا وهي أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها خير من الجهاد فى سبيل الله تعالى.

إنها أيام أقسم الله تعالى بها فقال تعالى: {والفَجْر (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، وهي عشر ذي الحجة، في قول جمهور المفسرين، وقال به ابن عباس وابن الزبير ومجاهد. وإقسام الله سبحانه وتعالى بها تنويه بقدرها وفضلها ولفت النظر إليها.

قال ابن حجر: والذي يظهر أنَّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره. (فتح الباري (2/460)).

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"(أخرجه البخاري والترمذي).

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: *واستيعابُ عشر ذي الحجة بالعبادة ليلًا ونهارًا أفضلُ مِن جهادٍ لم يذهبْ فيه نفسُه ومالُه، والعبادةُ في غيره تعدِلُ الجهادَ للأخبارِ الصحيحةِ المشهورةِ، وقد رواها أحمدُ وغيرُه.* (المستدرك على الفتاوى(، (3 / 104).

قال الحافظ ابن رجب: وهذا الحديث نصٌّ في أنَّ العمل المفضول يَصير فاضلًا إذا وقع في زمان فاضل، حتى يَصير أفضل مِن غيره مِن الأعمال الفاضلة، لفضل زمانه، وفيه أنَّ العمل في عشر ذي الحِجَّة أفضل مِن جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يُستثنى مِن ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أنْ يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء، فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأمَّا سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإنَّ العمل في عشر ذي الحِجَّة أفضل منها. ا.هـ  (فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/12)).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر". [رواه أبو يعلى بإسناد صحيح)

·       فأن قيل: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟

قال ابن القيم: قد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟

فقال: *أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة* ا.هـ

قال ابن القيم معلقًا: وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا ؛ فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة وفيهما: يوم عرفة ويوم النحر، ويوم التروية.

وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة. (بدائع الفوائد، 660/3).

قال ابن رجب: وأمَّا نوافل عشر ذي الحِجَّة فأفضل مِن نوافل عشر رمضان، وكذلك فرائض عشر ذي الحِجَّة تُضاعف أكثر مِن مضاعفة فرائض غيره. (فتح الباري شرح صحيح البخاري»6/ 119).

• فرع في: الأعمال الفاضلة في عشر ذي الحجة:

1-   شكر اللهِ على هذه النِّعمة:

فعلى كل مسلم أن يشكر الله - تعالى - على أنْ بلَّغه هذه العَشر، الّتي هي أفضل أيّام الدنيا؛ فإنّ مِن أسباب زيادة النعم أن يقابلها العبد بالشكر قال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ تَإذن رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

قال ابن رجب: فأما من حَسُن عمله وكثر، فإنه ينبغي له أن يشتغل بالشكر عليه، فإنَّ ذلك من أعظم نعم الله تعالى عَلَى عبده، فيجب مقابلته بالشكر عليه، وبرؤية التقصير في القيام بشكره. (مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي) (4/405).

2-   الإكثار من ذكر الله تعالى:

قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}[البقرة: 203].

وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)(الحج/28).

وجمهور العلماء على أنَّ الأيام المعلومات هي أيام العشر.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "واذكروا الله في أيام معلومات: أيام العشر، والأيام المعدودات: أيام التشريق". (رواه البخاري في الصحيح معلقًا، ووصله ابن حجر فى التغليق وصححه).

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام اعظم عند الله تعالى و لا أحب إليه العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل و التكبير و التحميد". (رواه أحمد بسند صحيح).

وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.(رواه البخاري معلقًا).

قال ميمون بن مهران: أدركتُ الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إنَّ الناس قد نقصوا في تركهم التكبير. (فتح الباري لابن رجب (9/9))

·       ومن صيغ التكبير:

ما صح من تكبير علىّ و ابنُ مسعود رضى الله عنهما: كانا يقولان: (اللهُ أكبر اللهُ أكبر، لا إلهَ إلَّا الله، واللهُ أكبر اللهُ أكبر، ولله الحَمْد)(مصنف ابن أبى شيبة (2/168)).

وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق، وكان تكبيره: *الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا*. (ما صح من آثار الصحابة في الفقه (1/503)).

3-   الأمر الثالث في أعمال العشر: الدعاء:

فهو العبادة، وهذه الأيام أيام دعاء، إذا كان فيها المسلم صائمًا قائما ذاكرا متصدقا فليكثر من الدعاء وخاصة في يوم عرفة.

ففي الحديث: أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "‌أَفْضَلُ ‌الدعاء [‌دُعاء] يومِ عرفةَ، وأفضل ما قلتُ أنَا والنَّبِيُّونَ من قَبْلي: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، لَهُ الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قديرٌ". (أخرجه الترمذي/3585) (وهو حديث حسن بشواهده).

·       وعند أحمد بسند حسن عن عَمْرُو بْن شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: " كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

4- الأمر الرابع في أعمال العشر: تفطير الصائمين:

ومن باب حرص المسلم على مضاعفة أجره في صيام هذه العشر فيستطيع ذلك بالسعي في تفطير الصائمين، إما من ماله أو بإرشاد أهل الخير إلى ذلك، فهو بنيته والمتصدق سواء.

عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا"(أخرجه الترمذي (807) وقال: "هذا حديث حسن صحيح").

4-   خامسًا: قراءة القرآن:

وهذا من أفضل القرَب في هذه الأيام الصالحة قراءة القرآن.

عن عَبْد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "‌مَنْ ‌قَرَأَ ‌حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ"(أخرجه: الترمذي (2910) وقال: «حديث حسن صحيح غريب» فلنحرص على وضع خطة لختم كتاب الله تعالى لعدة مرات في أيام وليالي عشر ذي الحجة.

5-   الأمر السادس من الأعمال الفاضلة:

قيام الليل: هي عبادة عظيمة، كفاها قدرًا أنها *شرف المؤمن*، وليس لأى أحد أن يوفق إليها، إلا أناسًا اصطفاهم الله -تعالى - لخيره و ربَّاهم على عينه واصطنعهم لنفسه. ولو لم يأتِ في فضل قيام اليل إلا هذه لكفت وشفت }ٱلَّذِي ‌يَرَىٰكَ ‌حِينَ تَقُومُ{ وقال تعالى: }تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16){(السجدة/16).

قال سعيد بن جبير: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. (سير أعلام النبلاء (4/326)).

7 - الأمر السابع:

الصدقة: قال تعالى: }وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39){(سبأ/39).

وقال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ)رواه الترمذي، وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(

·        وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ ‌عَبْدًا ‌بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ".

فليكن لك أخي ورد من الصدقات فى يوميات العشر، ولا تحقرنَّ من الصدقة شيئًا ؛ فرُبَّ شق تمرة لا تلقى لها بالًا يثقل به ميزان حسناتك فتكون بها نجاتك.

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَن استطاع منكم أنْ يَستَتِر من النار ولو بشق تمرة؛ فليفعل" (متفق عليه).

أنفق ولا تخاف فقرًا ولا تخشى:

 قال تعالى: }الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{(البقرة/268).

قال تعالى: }هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ{(محمد (38)).

 8- الأمر الثامن من الأعمال الفاضلة في هذه الأيام:

الصوم: ولا شك أنَّ الصوم من أفضل القربات والباقيات الصالحات.

وكفى في فضل الصوم قول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له" (أخرجه أحمد، وصححه الألباني).

وعَنْ ‌أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ ‌النَّارِ ‌سَبْعِينَ خَرِيفًا"(متفق عليه).

والصوم داخل في الأعمال الصالحة التي حث الشرع على ملازمتها في عشر ذي الحجة. قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم تسع ذي الحجة، وهذا الحديث قد أخرجه أحمد، وأبو داود، وهو حديث فيه مقال عريض فى الكلام على اضطراب سنده ومتنه، وقد استقصى الإمام النسائي في *المجتبى* (4/205) طرق هذا الحديث وبيَّن هذا الاضطراب سندًا ومتنًا).

قال النووي: وصوم هذه العشر مستحبة استحبابًا شديدًا لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة ا.هـ (شرح مسلم (8/71)).

ومن آكد الأيام التي يحرص المسلم على صيامها في أيام العشر هو يوم عرفة:

عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية"(مسلم (1162).

• وهنا إشكال وجوابه:

روى مسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي العشر قط"(رواه مسلم/1176).

وجواب ذلك من وجوه:

1-  الوجه الأول: أن يحمل قول عائشة رضى الله عنها أنه لم يصم العشر لعارضٍ من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائمًا فيها، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر لأنها إنما نفت رؤيتها، وبمثل هذا قال: القرطبي في «المُفهِم لِما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم» (3/ 253) والنووي فى المجموع شرح المهذب (6/ 388).

2-  الوجه الثاني: أنَّ ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصوم العشر إنما كان من ترك بعض العمل وهو يحبه؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

وبيان ذلك فيما قالته عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: "وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ". ونظير تركه صلى الله عليه وسلم لقيام رمضان في جماعة. وهذا الجواب قد ارتضاه ابن حجر في «الفتح » (2/ 534) وابن خُزيمة ـ في «صحيحه» (2103).

3-  الوجه الثالث: أن يحمل تركه لصوم تلك الأيام لتشاغله فيها بما هو أفضل منه، وليس ذلك بمانع أحدًا من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل سواه. (مشكل الأثار (7/419)).

4-  الوجه الرابع: أن يحمل قول عائشة رضي الله عنها على أنَّه صلى الله عليه وسلم لَم يَصُم العشر كاملًا. وقد أجاب بهذا الجواب الإمام أحمد، كما في كتاب «لطائف المعارف» (ص:368).

5-  الوجه الخامس: أن نفي رؤيتها لصومه صلى الله عليه وسلم لا يستلزم نفي وقوع صومه صلى الله عليه وسلم؛ فقد قالت رضى الله عنها: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ"(رواه مسلم).

وقد سئلت كما عند مسلم من حديث معاذة: كَمْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟ قَالَتْ: "أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ".

·       وكذلك قد قالت رضى الله عنها: "من حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائمًا فلا تصدقوه". وقد أثبت حذيفة رضي الله عنه خلاف ذلك، فقال «أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائمًا».

والقاعدة: *إن نفي العلم ليس علمًا بالعدم*.

6-  الوجه السادس: أن قول عائشة رضي الله عنها غاية ما فيه أنه نفى لما أثبتته غيرها من نسائه أنه صام العشر، هذا على فرض صحة هذا الحديث الوارد في الإثبات. قال صاحب الزاد: والمثبت مقدم على النافي إن صح. (زاد المعاد (2/63)). وبمثل هذا قال البيهقي بعد تخريج الحديثين: *والمثبتُ أَولى من النَّافي*؛ [السنن الكبرى للبيهقي (4/ 285) وانظر ("فيض القدير" (5 /474).

ثم نقول: مما يؤيد مشروعية صيام العشر: أن صوم هذه الأيام ثابت عن عدد من الصحابة رضى الله عنهم، ولا مخالف لهم في ذلك: فقد صح ذلك عن أبى هريرة رضى الله عنه، كما عند عبد الرزاق في «مُصنَّفه» (رقم:7715) وكذلك صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كما روي ذلك ابن الجَعْد في «مسنده» (2247).

وما يستدل به على مشروعية صيام عشر ذي الحجة:

اندراج الصوم في الأعمال الصالحة الذي رغَّب الشرع في تحصيلها في عشر ذي الحجة، بل الصوم مِن أفضلها وآكدها.

ولم يزل السلف يستدلون على استحباب صوم عشر ذي الحجة بحديث فضل العمل الصالح في تلك الأيام.

كما هو صنيع الأئمة في: الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 362) وشرح صحيح مسلم» (8/ 320) وفتح الباري شرح صحيح البخاري» (2 /534) والمُفهِم لما أشكل مِن تلخيص كتاب مسلم (3/ 253) والمُحلَّى (7/ 19)، ونيل الأوطار (4/ 239).

الحاصل: أنّا ننتهي إلى رؤوس أقلام:

القاعدة المعمول بها هنا: *نفي الدليل المعين لا يستلزم نفى المدلول*.

والمعنى: أنَّ ضعف الحديث الوارد في إثبات صوم النبي صلى الله عليه وسلم للعشر لا يستلزم منه عدم مشروعية الفعل؛ وذلك لورود النص العام في فضيلة العمل الصالح في أيام العشر، فيدخل فيها الصوم.

ورود النص النافي لصوم النبي صلى الله عليه وسلم لأيام العشر لا يستلزم منه عدم المشروعية، وذلك لأمرين:

الأول: أن هذا النص النافي قد اعتراه جملة من الاحتمالات قد أضعفته دلالته، ومن المعلوم أنَّ الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ضعف به الاستدلال.

الثاني: أنَّ التزام القول بعد استحباب صوم عشر ذي الحجة مخالف لما ثبت من فعل الصحابة رضى الله عنهم، وفعل وسلف الأمة وأصحاب دواوين الأحاديث.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply