اغتنام المواسم الفاضلة بالتوبة والأعمال الصالحة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، ولا تغرنكم الحياةُ الدنيا، فحلالهُا حسابٌ، وحرامُها عِقابٌ، وعامِرها خرابٌ، والذاهبون فيها بلا إيابٍ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب}.

معاشر المؤمنين الكرام: المتأملُ لوصف اللهِ تعالى لحال الدنيا يُدرك مدى حقارتِها وقلةِ شأنها، وهوانها على خالقها، فهي إمَّا لهوٌ ولعب، كما قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}.

وإما خِداعٌ وغرور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور} وقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.

وإمّا مجردُ متاعٍ قليلٍ زائل: قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. ويقول جل وعلا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع}.

وصح عن النَّبِيُّ أحاديثُ كثيرةٌ، يخبرُ فيها: "أَنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَأَنَّهَا تَأْخُذُ العُيُونَ بِخُضْرَتِهَا، وَتأسِرُ القُلُوبَ بِحَلَاوَتِهَا، فمن أَخذها بحقّها بُوركَ لهُ فيها، ومَن أخذها بغير حقِّها، فهو كالآكِلِ الذي لا يَشْبع، والمنهوم الذي لا يقنع".

وأخبر ﷺ: "أنَّ الانسانَ في الدنيا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا، وأَنَّ الدُّنْيَا لَوْ كانت تسَاوَي عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. وأَنَّهَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ".

وَأَخْبَرَ ﷺ: "أنّ الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا. وأَنَّ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ، جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيهِ، وَشَتَّتَ عَلَيهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، ومن كانت الآخرة نيته، جمعَ اللهُ لهُ أمرهُ وجعلَ غناهُ في قلبهِ، وأتتهُ الدنيا وهي راغمة".

وحين مرّ بشاةِ ميتةٍ قد ألقاها أهلها مع النفايات، قال: "والذي نفسي بيده، للدنيا أهونُ على اللهِ من هذه على أهلها". ولما قيل لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه، صِفْ لنا الدّنيا يا أميرَ المؤمنين، قال: "ما أصِف مِن دارٍ أولُها عَناءٌ، وآخرُها فَناءٌ، حَلالُها حسابٌ، وحَرامُها عِقابُ، مَن اْستَغنى فيها فُتِن، ومن افتقرَ فيها حَزِن".  

وقال بعض الأدباء: الدنيا إن أقبَلَت بَلَتْ، وإنْ أدْبَرَت بَرَتْ، وإنْ أنْعَمَتْ عَمَت، وإنْ أيْنَعَتْ نَعَتْ، وإنْ أسْعَدَتْ عَدَتْ، وإن أرْكَبَتْ كَبَتْ، وإن صَالحتْ لَحتْ، وإنْ حَلَتْ أوْحَلَتْ، وإن كست أوكست، وإن غلت أوغلت. وكم من مالكٍ فيها ولملكِه علامات، فلما علا مات. فالدنيا ظِلُ غَمَام، وحُلْمُ منام، أمانيها سراب، وآمالُها كِذاب، صفوها كدَر، وأهلها منها على خطَر، وما نالَ عبدٌ فيها سُرورًا، إلا خبّأتْ له شرورًا: وصدق الله: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ وَالأَنعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلًا أَو نَهَارًا فَجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لم تَغنَ بِالأَمسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

 وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}.

هَكَذَا هو مثل الدنيا في القرآن: رَبِيعٌ لا يَلبَثُ أَن يَكُونَ حَصِيدًا، وَنَبَاتٌ يورقُ ويَخضَرّ ثم يَغدُو هَشِيمًا، وَزرعٌ يَهِيجُ ويربو، ثم يَكُونُ حُطَامًا. فليسَ لِلعَاقِلِ حيالُها، إِلاَّ اغتِنَامُ أيامِها القليلة، والتَّزَوَّدِ فيها بأكبر قدرٍ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فما أسرع فواتها.

والتّوبةُ يا عباد الله: من أجلِّ العباداتِ وأحبِّها إلى الله تعالى. مَن قام بها حقَّ القيام تحقَّقَ صلاحه، وتأكدَ نجاحُه وفلاحُه، كما قال جلَّ وعلا: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}.

ولذا ينادي اللهُ جميعَ عبادهِ ليتوبوا، {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ويؤكدُ لهم قبولها بقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ويؤكدُ القبولَ مرارًا وتكرارًا فيقول: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}، ويؤكدُ لهم حُصولَ المغفرةِ بصيغة المبالغةِ فيقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}، ويبشرهم بأعجب البشائر فيقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، ويزيدهم من البشائر فيقولُ سبحانه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}.

فجدِّدوا يا عباد الله توباتكم، وتداركوا بصادق المعاملةِ ما فاتكم، والجِدَّ الجِدَّ تغنَمُوا، والبِدارَ البِدَارَ أن لا تندَمُوا. {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.  

 

اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.  

معاشر المؤمنين الكرام: يستقبلُ المؤمنونَ بإذن الله عمَّا قريبٍ أوقاتًا مباركة، وأيامًا فاضلة، هي أفضلُ أيامِ الدنيا على الإطلاق. إنها العشرُ المباركات، عشرُ ذي الحجة. والتي هي بنصّ الحديثِ الصحيح: أفضلُ أيامِ الدُّنيا. أيامٌ فاضلةٌ، وموسمٌ مُباركٌ، وأوقاتٌ نفيسةٌ، لا تُقدَرُ بثمنٍ، والعاقِلُ الموفقُ من يُدركُ قيمةَ هذه المواسم، وأنها فُرصةٌ سُرعانَ ما تمضي، وأنَّها إذا فاتت فلا يُمكنُ تَعويضُها أبدًا. وكم هي واللهِ جميلةٌ وصيةُ مُؤمِنِ آلِ فرعونَ لقومهِ حينَ وعظَهُم قائلًا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، فهنيئًا ثم هنيئًا لمن عزمَ على استغلالِ هذهِ الأيامِ المباركةِ بما يقدر عليه من الأعمال الصالحةِ. فإنما هي أيامٌ معدودات. وفي صحيح مُسلمٍ يقول المصطفى : "احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ". والحياةُ أيّها الكرامُ فرص، وفواتُ الفرصِ غبنٌ وغُصص. وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته. حتى إذا فاته خيرٌ أظهر الأسفَ. يقول ابنُ قُدامةَ رحمه الله: *اغْتنمْ يا رعاك الله فرصَ الحياة، واعْلمْ أنَّها أنفاسٌ معدودة، وأنّ كلُّ نَفَسٍ منها جوهرةٌ غاليةٌ لا تُقدرُ بثمن، فهي تعدِلُ خلودَ الأبدِ، وخلودَ الأبدِ يعدِلُ أكثرَ من مليار مليار عام، بل وأكثرَ من ذلك بكثير، فلا تضيِّعْ جواهرَ عُمرِكَ الغاليةِ بغيرِ عملٍ، ولا تُنفقها بغير عِوضٍ، واجتهدْ ألا يذهبَ نَفَسٌ من أنفاسِكَ إلا في عملٍ صالحٍ، يقرَّبُك إلى مولاك، وتخيل لو أنَّ معك جوهرةٌ من أغلى الجواهرِ ثم ضاعت، ألا يسوئك ضياعها، فكيف لا يسوئك ضياعُ الأوقاتِ بلا عِوضٍ. وهي أغلى من الجواهر بكثير*. وصدقَ من لا ينطق عن الهوى: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ".

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، واحرصوا وفقكم الله على استثمار هذه الأيام المباركة، والاجتهادِ فيها بالأعمالِ الصالحة. وأروا اللهَ من أنفسِكُم خيرًا.

ثم أذكِّرُ من أرادَ أن يضحّيَ بحديث أم سلمةَ رضي الله عنها، أنّ النبيّ قال: "إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجةِ وأرادَ أحدكم أن يُضحّيَ فلا يأخُذ من شعرِه وأظفارهِ شيئًا حتى يضحّي"، والحديث في مسلم. فدونكم يا عباد الله الفضائلَ فاغتنموها، والفرصَ الغاليةَ فاستثمروها، فالموفق حقًا من استثمرَ فُرصَه السانحة، وأكثرَ فيها من الاعمال الصالحة. بادروا يا عباد الله بالطاعات، وسابقوا في الخيرات، واجتهدوا في القربات، ونافسوا في المكرمات. {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَٱلضَّرَّاء وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَـٰفِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ}.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply