التعريف بالأمصار بقصد المساجد يوم عرفة للدعاء والذكر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

في هذه الورقات جمع لكلام أهل العلم في مسألة التعريف بالأمصار والمكوث في المساجد بعد زوال شمس يوم عرفة للذكر والدعاء.

أولًا: دليل مشروعية الدعاء والذكر لعموم المسلمين يوم عرفة:

فضل يوم عرفة للحجاج متفق عليه وفيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله قال: "ما مِن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء" (رواه مسلم (1348.

وأما عموم فضل عرفة لغير الحجاج فيدل عليه عموم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي (3585) وحسَّنه الألباني في *صحيح الترغيب*(1536.

قال ابن عبد البر (التمهيد: 6/42): في الحديث دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب وفيه أن أفضل الذكر لا إله إلا الله.

وعن طلحة بن عبيد بن كريز مرسلا: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة) رواه مالك في *الموطأ * (500) وحسَّنه الألباني في *صحيح الجامع* .(1102

ثانيًا: حكم التعريف بالأمصار:

قال ابن قدامة رحمه الله:

‏قال القاضي: ولا بأس بـ *التعريف* عشية عرفة بالأمصار (أي ِ: بغير عرفة)، وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله -أي: الإمام أحمد- عن التعريف في الأمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة، قال: *أرجو أن لا يكون به بأس قد فعله غير واحد*، وروى الأثرم عن الحسن قال: أول من عرف بالبصرة ابن عباس رحمه الله وقال أحمد: *أول من فعله ابن عباس وعمرو بن حُرَيث*.

‏وقال الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع: كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة، قال أحمد: لا بأس به؛ إنما هو دعاء وذكر لله. فقيل له: تفعله أنت؟ قال: أما أنا فلا، وروي عن يحيى بن معين أنه حضر مع الناس عشية عرفة. انتهى. ‏*المغني  .*(2 / 129

وقال ابن مفلح في كتاب «الفروع» 3/216 ما يلي: «ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار، نص عليه (هـ م) وقال: إنما هو دعاء وذكر، قيل له: تفعله أنت؟ قال: لا. وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث، وعنه: يستحب، ذكره شيخنا (خ). نقل عبد الكريم بن الهيثم أن أحمد قيل له: يكثر الناس؟ قال: وإن كثروا. قلت: ترى أن يذهب إلى المدينة يوم عرفة على فعل ابن عباس؟ قال: سبحان الله. ورخص في الذهاب. ولم ير شيخنا زيارة القدس ليقف به، أو عند النحر، ولا للتعريف بغير عرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر، وفاعله ضال». اهـو معنى (هـ م) في اصطلاح ابن مفلح، يعني: خلافا لأبي حنيفة ومالك. ومعنى: (خ)= خلافًا لأبي حنيفة ومالك والشافعي. والمراد بـ: شيخنا = ابن تيمية.

وقال ابن رجب «واختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشية عرفة، وكان الإمام أحمد لا يفعله، ولا ينكر على من فعله؛ لأنه روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة». لطائف المعارف (ص: 272).

وقال ابن تيمية: «فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة».

وقال في «قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة»: «وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة؛ فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة = ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته = لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة؛ بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانًا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة. وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله: تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه، إذا لم يتخذ سنة...» اهـ.

وقال ابن تيمية أيضا: «ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله ... ».

فإن قيل: ضابط البدعة منطبق عليه تماما فلم لا نسميه بدعة؟

فالجواب: بأن يوجد ضابط في هذا الباب، يعمل به الإمام أحمد وابن تيمية وابن رجب وغيرهم.

وهو: أن ما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة.

أي لا يطلق عليه اسم البدعة، ولا يلزم من هذا ترجيحه والعمل به.

قال في كتاب «مسألة في المرابطة بالثغور»: «وإذا تبين ما في الرباط من الفضل؛ فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره، ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب. مِثال ذلك: أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت الحج ليعرفوا به، ويدعون المقام بالثغور التي تقاربه. وهذا في غاية الضلال والجهل والحرمان من وجوه: أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعًا لا واجبًا ولا مستحبًا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة = فهو ضال باتفاق المسلمين، بل يستتاب فإن تاب وإلا قتل، إذ ليس السفر مشروعًا للتعريف إلا للتعريف بعرفات.

وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكره ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب. وأما السفر للتعريف بغير عرفة؛ فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا سيما إذا كان بمشهدٍ مثل قبر نبي أو رجل صالح أو بعض أهل البيت؛ فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند جمهور العلماء من الأئمة وأتباعهم».

اهـو قال في «اقتضاء الصراط المستقيم»: فصل: وقد يحدث في اليوم الفاضل، مع العيد العملي المحدث، العيد المكاني، فيغلظ قبح هذا، ويصير خروجا عن الشريعة. فمن ذلك: ما يفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة، والاجتماع العظيم عند قبره، كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب، والتعريف هناك، كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله، واتخاذ القبور أعيادًا. وكذلك السفر إلى بيت المقدس، للتعريف فيه، فإن هذا أيضًا ضلال بين، فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه، فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره.

ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام، وتشبيه له بالكعبة، ولهذا قد أفضى إلى ما لا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى، غير شريعة الإسلام، وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة، أو من حلق الرأس هناك، أو من قصد النسك هناك.

وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة كما يطاف بالكعبة. فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء أو الضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه، فمن أقبح المنكرات من جهات أخرى.

منها: فعل ذلك في المسجد؛ فإن ذلك فيه ما نهي عنه خارج المساجد؛ فكيف بالمسجد الأقصى؟!

ومنها: اتخاذ الباطل دينا.

ومنها فعله في الموسم.

فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عباس، وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين، ورخص فيه أحمد، وإن كان مع ذلك لا يستحبه، هذا هو المشهور عنه.

وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين: كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك، وغيرهم.

ومن كرهه قال: هو من البدع، فيندرج في العموم لفظًا ومعنى.

ومن رخص فيه قال: فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة... والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يختلف فيها: أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها: كقبر الصالح، أو كالمسجد الأقصى، وهذا تشبيه بعرفات، بخلاف مسجد المصر، فإنه قصد له بنوعه لا بعينه، ونوع المساجد مما شرع قصدها، فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه، وإنما الغرض بيت من بيوت الله، بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه، ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه.

وأيضًا، فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه، مثل الحج، بخلاف المصر، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".

هذا مما لا أعلم فيه خلافًا. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره: إما واجب كالجمعة، وإما مستحب كالاعتكاف به. وأيضًا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدًا، وهذا بنفسه محرم، سواء كان فيه شد للرحل، أو لم يكن، وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره، وهو من الأعياد المكانية مع الزمانية. اهـ.

وأسأل الله أن ينفع بهذا الجمع الذي فيه تفصيل أحوال التعريف بالأمصار.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply