دولة الخلفاء الراشدين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أسأل الله سبحانه وتعالى الذي جمعنا في هذا المكان الطيب نتدارس ونتذاكر ونتناصح في دين الله سبحانه وتعالى. وما أعظمها من مجالس، وما أعظمها من أماكن تكون شاهدة لنا عند الله سبحانه وتعالى.

أنتم تعلمون أنه ما من مجلس وما من وقت يمر على الإنسان المسلم إلا وسيسأل عنه عند الله سبحانه وتعالى، خصوصًا مراحل العمر التي يمر بها المسلم. فقد جاء في الحديث الصحيح: "لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ" (رواه الترمذي).

ضمن هذه الأربع، مرحلتين من مراحل العمر: عن شبابه فيما أفناه، وعن عمره. العمر كله كامل فيما قضاه. فالمسلم في هذه المجالس، في هذه الأماكن، تحسب له عند الله سبحانه وتعالى، لأنه جاء لهذا المجلس ليستمع من ذكر الله سبحانه وتعالى ليستفيد.

وتعلمون الحديث الذي في صحيح مسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة". فأسهل طريق إلى الجنة هو طلب العلم.

ونكمل ما بدأنا به من اختصار التاريخ الإسلامي، وذكرنا في المقال السابق سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن بُعث عليه الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله عليه الصلاة والسلام.

بداية التاريخ الإسلامي:

علمنا أن التاريخ الإسلامي يبدأ من بعثته عليه الصلاة والسلام، لأن كل حدث يُربط في الإسلام فإنه يكون من بداية بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. وذكرت لكم في الدرس السابق أمورًا ثلاثة مهمة جدًا لمن أراد أن يقرأ أو يبحث أو يطلع على التاريخ الإسلامي. الأمر الأول هو أن يكون على علم موصل في صحة العقيدة وفي سلامة المنهج.

أهمية صحة العقيدة وسلامة المنهج:

كثير من الناس الذين يخوضون في التاريخ ويدخلون علم التاريخ ربما يقرأون أو يسمعون لأناس ليسوا على العقيدة الصحيحة، وليسوا على المنهج السليم، منهج السلف الصالح. وكما يقال، يجذب هذه الأحداث لمنهجه وعقيدته. وكلٌ يدعي وصلًا لليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك. هذا الأمر الأول أن الإنسان لا يهجم ويذهب إلى التاريخ وهو لم يتقوى في علم العقيدة والمنهج، لأنه ربما يسقط في بنيات الطريق وينحرف عن عقيدة ومنهج المسلمين.

الأمانة في نقل التاريخ:

الأمر الثاني الذي أنبه عليه دائمًا أن يكون أمينًا فيما ينقل. ليس كل ما تقرأه صحيحًا، وليس كل ما تسمعه صحيحًا. لا بد أن تكون أمينًا في نقلك وفي بحثك. اطلع على أكثر من مصدر، ابحث عن صحة الحدث، ابحث عن المعلومة، حتى إذا ذكرتها وقد تأكدت من ثبوتها وصحتها على الغالب مما يبحث عنه المؤرخ. ولا شك أن الإنسان إذا اجتهد فقد تدمع عليه.

العدالة في الحكم على الأحداث والشخصيات:

الأمر الثالث أن يكون عادلًا في حكمه على هذا الحدث أو هذه الشخصية التاريخية. لا بد من العدل حتى لو كان هذا الرجل أو هذه الشخصية سيئة أو منحرفة عن الإسلام أو كافرة، وحتى لو كانت هذه الدولة فيها من الأخطاء وفيها من السلبيات. إياك أن تغفل عن الجوانب الأخرى الحسنة التي في هذه الدولة، أو أنك تنكرها بناءً على بغضك لهذه الشخصية أو لهذه الدولة. فإن هذا لا يجوز في التاريخ. لا بد أن يكون المسلم فيما يقرأ وفيما ينقل في التاريخ أمينًا وعادلًا.

إذًا يتلخص عندنا أن يكون المطلع أو الباحث في التاريخ على علم بصحة العقيدة والمنهج، ويكون أمينًا فيما ينقل ويبحث، ويكون عادلًا فيما يحكم على هذا الحدث أو هذه الشخصية.

أحداث تاريخية مهمة:

أريد منكم سعة الصدر وطول البال، لأننا سنأخذ أحداثًا تاريخية ربما لو قسمناها إلى دروس قد تصل إلى عشرة أو اثني عشرة درسًا. لكننا نختصر هذه الحقبة الزمنية بدرس واحد. فلذلك أطلت عليكم في مقال السيرة النبوية، ولكن جعلنا السيرة النبوية كلها بمقال واحد، وهي موجودة في مجلدات.

الخلافة الراشدة:

هي حقبة تاريخية عظيمة للإسلام والمسلمين، بل هي قدوة للدول الإسلامية التي جاءت بعدها، وهي دولة الخلفاء الراشدين، دولة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين تربوا في مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتعلمون منه وينظرون إلى تطبيق الشريعة من القرآن والسنة على يديه عليه الصلاة والسلام. فأنعم بهم وأكرم من صحابة الكرام، قاموا بأمر الله ورسوله حق القيام.

لذلك كانت السَنة الحادية عشرة من الهجرة، في شهر ربيع الأول، في يوم الثاني عشر، يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هذا الحدث العظيم كان حدثًا أليمًا على كل مسلم، وخصوصًا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين عاشروا الرسول صلى الله عليه وسلم وعاشوا وصاحبوه. فتأثروا به وتعلموا منه، فما أكبر الأثر الذي نزل على قلوبهم بوفاة رسولهم وقدوتهم ومعلمهم ورئيسهم، رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هكذا الدنيا كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

أبو بكر الصديق هو عبدالله بن عثمان بن أبي قحافة، وهو أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنوات، وكان أخص أصحابه وأفضل الصحابة على الإطلاق. وكان هو الأَولى بخلافة المسلمين وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم دون منازع ودون نقاش. حتى يقول أحد الصحابة عمر بن الخطاب، كانت خلافته فلتة -يعني أبو بكر الصديق-، والسبب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية لأن الخلافة كانت متعينة له رضي الله عنه. فقد ورد في الصحاح من صحيح البخاري ومسلم والسنة أكثر من عشرين دليلًا يدل على أن الخليفة بعد الرسول هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

ولو لم يكن إلا من الأحداث التاريخية لعلمنا أنه هو المستحق للخلافة. منها على سبيل المثال أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مرض وهو حي بين أصحابه، وكان أبا بكر يؤم الناس في الصلاة. وهذه مُجمع عليها في التاريخ، أن الذي وكله وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس هو أبو بكر الصديق. حتى أن عائشة رضي الله عنها ورضاها حاولت أن تثني الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر، لأنها لا تريد أن يتشاءم الصحابة أو المسلمون على أبي بكر، لأنه سيكون مكان الرسول صلى الله عليه وسلم. فقالت: "يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، يعني رقيق القلب، فربما إذا صلى بالناس يأخذه البكاء فلا يسمع الناس من القراءة". فقال: "إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ"، يعني أنت لا تريدين هذا الأمر، فهمها الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا واضح. لذلك، علي بن أبي طالب في منبر الكوفة وهو الخليفة يقول: "رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي أمر أبا بكر أن يتقدم في المسلمين في مسائل الدين والصلاة، أعظم أعمال الدين، ألا نرضاه لدنيانا؟". ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله إمامًا لنا في الدين والصلاة، هذا دليل التزكية وأنه مقدم علينا. فأيهما أعظم، الآخرة أم الدنيا؟ فلذلك قال: "ألا نرضاه لدنيانا؟". هذا الأمر محل اتفاق عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

لذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يجهز ويغسل، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة. فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وكانوا يريدون أن يولوا أحد الأنصار، أي أن يكون أمير المؤمنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. فناقشهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، وقالوا: *إن هذا الأمر نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحي من قريش، فنحن القرشيين نحن أصحاب الرسول وقومه، نحن الأمراء وأنتم الوزراء*. فلذلك وافق الأنصار على قول أبي بكر وعمر وأبي عبيدة، واقتنعوا بكلامهم. فلذلك بويع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه في السنة الحادية عشرة من الهجرة.

خلافة أبي بكر الصديق:

تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة خلال سنتين فقط. هو كما قال لما كشف برد الرسول صلى الله عليه وسلم المسجى به، بعد موته، فلما جاء أبو بكر وكشف عن غطائه، قبله بين عينيه وقال: *بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيًا وميتًا. أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، وأما الموتة الثانية فوالله لا تموت أبدًا*. ماذا يقصد؟ الموتة الثانية، موت الدين والمنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. أي أننا سنقوم بما أوكلتنا به، وبما علمتنا عليه من هذا الدين، ومن هذا المنهج سنقوم به خير قيام .رضي الله عنه وأرضاه، ونحن نشهد بذلك من خلال سيرته الحسنة وما فعل خلال سنتين فقط. هو الذي مهد كل هذه الفتوحات التي جاءت من بعده. أبو بكر الصدّيق -الصدّيق الأكبر-، صحابي النبي صلى الله عليه وسلم وأحب الناس إلى رسول الله. ماذا فعل أبو بكر الصديق خلال سنتين؟

أولًا، كان حريصًا كل الحرص ألا يحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو اتفق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أولها كان جيش أسامة بن زيد، الذي شكله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه شابًا فتيًا لا يتعدى في سنه الثامنة عشرة، وهو أسامة بن زيد بن حارثة. أمره أن يذهب إلى الشام لمحاربة الروم، وكان أكبر جيش فيه أبو بكر وعمر، وأميره أسامة بن زيد. ولكن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عطلت هذا الجيش قليلًا.

فلما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، استأذن أسامة بأن يمكث، واختار عمر، لأنه المستشار الأول له، أن يبقى معه في المدينة. فقال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من حول أبي بكر: *ماذا ستفعل يا أمير المؤمنين؟*. قال: *أريد أن أكمل ما عقده رسول الله ببعث هذا الجيش إلى الشام*. قالوا: *يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله، إن العرب في جزيرة العرب قد ارتدت عن الإسلام، ومن لم يرتد منهم امتنع عن دفع الزكاة. فلا نأمن أن تأتينا هذه القبائل من جديد غازية على المدينة، محاربة لنا. فكيف تبعث هذا الجيش؟ اجعله يمكث حتى نرى ما تسفر عنه هذه الأوضاع.*

قال أبو بكر الصديق: *أنا أحل عقدة عقدها رسول الله؟ والله لو رأيت الذئاب تجر أمهات المؤمنين من أقدامهن على ألا أبعث جيش أسامة، لأبعثن على ما عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم*. فلما رأوا أن أبا بكر الصديق عازم على بعث الجيش، رأوا أن هذا هو القرار الصائب. فلذلك لما خرج الجيش إلى الشام، أصبحت القبائل تتلمس الأخبار من المدينة. فلما رأوا هذا الجيش خارجًا من المدينة، قالوا: *إن مدينة يخرج منها جيش بهذا القوام وبهذا العدد لمدينة حصينة*. فتهيبوا أن يهجموا على المدينة، فكان خروجه خيرًا كذلك لأهل المدينة.

لتمسك أبي بكر الصديق بسنة الرسول وما اتفق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. لما ذهب الجيش الروم هابوا مقابلته ومقاومة هذا الجيش، فتراجعوا. فرجع الجيش من جديد إلى المدينة.

محاربة الردة:

تعلمون أن جزيرة العرب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت على الإسلام، ولكن بعد وفاته أو قبيل وفاته بقليل، ظهرت هناك من يدعي النبوة: مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، وطليحة بن خويلد في بني أسد. كانت هذه الادعاءات للنبوة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها اشتدت وكثر أتباعها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. حتى ظهرت نساء يدعين النبوة مثل سجاح التغلبية في شمال الجزيرة. فلذلك كان هذا الأمر امتحانًا واختبارًا عظيمًا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

لذلك شكل رضي الله عنه وأرضاه أحد عشر جيشًا لمحاربة ومقاومة من ارتد عن الإسلام ومن امتنع عن دفع الزكاة. حتى أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كما ناقشوه في مسألة جيش أسامة، ناقشوه في مسألة الزكاة.

قالوا: *يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله، نحن معك في قتال المرتدين، ولكن هؤلاء الذين لم يرتدوا وإنما امتنعوا عن دفع الزكاة، يعني جحدوها وأنكروها*.

فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: *والله لأُقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. يقر بالصلاة ولا يقر بالزكاة. والله لو منعوني عقالًا، العقال هو الذي يعقل به الإبل، كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقتلتهم. لا يجحدون شيئًا من دين الله*.

فلذلك شكل هذه الجيوش، هذه الكتائب المسلمة الموحدة السنية، في مقاتلة أولئك المرتدين وأولئك المانعين للزكاة الجاحدين لها، وكذلك مُدّعي النبوة. ذهبت هذه الجيوش وهذه الكتائب لمقاتلة هؤلاء المرتدين من العرب، فانتصرت جميعها على جميع هذه القبائل في جزيرة العرب. كان أشهرها قتالًا وملحمة معركة اليمامة، التي اجتمعت فيها كثير من الجيوش الإسلامية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، حتى قتل ذلك الدّعي الكذاب مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة.

فتوحات العراق والشام:

بعد ذلك أرسل أبو بكر الصديق رسالة إلى خالد بن الوليد وقال: *إذا وصلتك رسالتي، فلا تتوقف ولا تلزم أو تجبر أحدًا من الجيوش عندك على المسير معك إلى العراق. ولكن أخبرهم أنك ذاهب إلى العراق لتكمل الفتوحات في تلك البقاع التي يتولاها الفرس*.

أعلن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه في جيشه الذي كان يبلغ ما يقارب ثلاثين ألف مقاتل، وذهب معه أغلب الجيش، والباقي الذي يرجع إلى أهله يرجع إلى عشيرته وقبيلته.

سار بهم رضي الله عنهم وأرضاهم إلى العراق. فلما وصل إلى العراق، بدأت الفتوحات في العراق بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكان معه القعقاع بن عمرو والمثنى بن حارثة الشيباني. كانوا قادة وعظماء من قادة المسلمين في الفتوحات في العراق، حتى فتحوا الحيرة بكاملها، وأصبح الفرات كله تابعًا لبلاد المسلمين. هنا بدأت الطرق تنفتح وتتمهد لإسقاط تلك الدولة العظيمة القوية في ذلك الوقت، وهي دولة فارس.

أبو بكر الصديق يخطط لفتح بلاد الشام:

لم يكتفِ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بهذه الفتوحات التي تمت في العراق ومهدت الطريق لفارس. أراد أن يمهد كذلك الفتوحات والطريق لإسقاط الدولة الثانية العظيمة في تلك الحقبة من التاريخ، وهي دولة الروم، دولة بيزنطة، دولة هرقل. فلذلك بعث بالجيوش وجعل عليها أربعة قادة، وقسمها إلى أربعة جيوش: جيش بقيادة أبو عبيدة بن الجراح، وجيش بقيادة يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه، وجيش بقيادة شرحبيل بن حسنة، وجيش بقيادة عمرو بن العاص. كانت هذه الجيوش تتفرق وتأتي على هذه المدن، ففتحت الأردن بكاملها، ثم دخلت على الشام وعلى فلسطين، حتى وصلت إلى مشارف دمشق ومشارف فلسطين والقدس.

إنجازات أبو بكر الصديق في فترة خلافته:

كانت هذه الفتوحات كلها في زمن هذا الخليفة العظيم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. أبو بكر الصديق لم يعش في هذه الخلافة وهذه القيادة إلا سنتين فقط، وتمت في عهده توحيد جزيرة العرب وإرجاعها كما كانت على الإسلام والسنة والتوحيد، بل وتم فتح العراق بالكامل وثلثي الشام، حتى لم يبقَ إلا أن يتصادموا مع جيش الروم.

أسس أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لهذه المعركة العظيمة، معركة اليرموك، التي قامت في سنة 13 من الهجرة، في أواخر أيامه وآخر حياته في هذه الدنيا. أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أن يذهب إلى الشام ويوحد الجيوش الإسلامية كلها في الشام، وأن يكون هو أمير هذا الجيش.

خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه قطع المسافة بين العراق والشام في مدة قليلة جدًا بأفعال تذكر إلى يومنا هذا في التاريخ، كيف اختصر بخمسة أيام المسافة التي كانت لا تقطع بأقل من عشرين يومًا. وصل إلى الجيوش الإسلامية ووحدها، فاستعدت جيوش المسلمين لمقابلة هذه الدولة العاتية الطاغية، وهي دولة الروم، التي لطالما استولت على العرب وعلى جزيرة العرب بأفعال شيطانية، وكذلك على مصر.

معركة اليرموك والاستعداد للمواجهة:

جاء المسلمون ووقفوا أمامهم، واستعدوا للحرب. ولكن في شهر جمادى الأولى من السنة 13 من الهجرة، شرف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على الموت. اختار من أصحابه من يشاورهم في هذا الأمر، من هو أولى الناس بتولي خلافة المسلمين بعده. قال أبو بكر الصديق لعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وهم كبار الصحابة ومن المبشرين بالجنة، وكانوا محل مشورته: *من ترونه؟*. فتشاوروا ولم يصلوا إلى رجل بعينه. فقال أبو بكر: *إن رجعتموني الأمر، أنا الذي أختار، فإني أختار ابن الخطاب.*

اختار عمر بن الخطاب. قال عبدالرحمن بن عوف: *ولكنه شديد غليظ، يا أمير المؤمنين*. قال: *هذا عمر، لا يشتد حتى يلين، ولا يغلظ حتى يرق. إنما شدته بالحق، شدته في الإسلام، وشدته في طاعة الله سبحانه وتعالى، فإني أختار لكم عمر*. قالوا: *قد رضينا بما اخترت يا أمير المؤمنين، يا خليفة رسول الله*. فتولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه زمام أمور المسلمين سنة 13 من الهجرة، وتولى وحكم المسلمين مدة عشر سنوات، من سنة 13 من الهجرة إلى سنة 23 من الهجرة.

أيضًا من الأعمال الجليلة التي قامت في عهد أبي بكر الصديق هو جمع المصحف كاملًا في نسخة واحدة. هذه إشارة من عمر رضي الله عنه وأرضاه لأبي بكر الصديق. قال: *إني أرى مع توسع البلدان الإسلامية وكثرة الفتوحات، أن القراء ربما يجاهدون فيستشهدون. فلذلك لو جمعنا المصحف، كان إشارة طيبة*. فأمر أبو بكر الصديق زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أن يجمع المصحف. كان مسجلًا في بعض الرقاع وعلى الجلود وبعض الأوراق، فجمع في نسخة واحدة. وضع عند أبي بكر الصديق، ثم انتقل هذا المصحف إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

كانت خلافته رحمةً وعزةً وفتوحًا وخيرًا عميمًا على الإسلام والمسلمين إلى يومنا هذا. عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، إذا أردنا أن نتكلم عن سيرته وأفعاله، فإنها كثيرةٌ جدًا. ولكن يجب أن نلاحظ أن عمر رضي الله عنه وأرضاه ما فعل في خلافته، ما أنجزه في خلافته، ما تم من خير عميم في خلافته، إنما كان كله تمهيدًا من أبي بكر الصديق ومن خلافة أبي بكر الصديق وما قام به أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

دور أبو بكر في تمهيد إنجازات عمر:

كثيرًا ما نسمع اليوم، لربما من يقول إن خلافة عمر وإنجازات عمر هي أعظم من خلافة أبي بكر الصديق وإنجازات أبي بكر الصديق. لا يصدر هذا إلا ممن لا يفهم الواقع ولا يفهم التاريخ، ولا يعرف ما الذي تم في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر بن الخطاب. لولا الله، ثم التمهيد والقوة من الشخصية ومن مقاتلة المرتدين ومانعي الزكاة وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لما استطاع عمر أن يفعل ما فعل في خلافته. الذي مهد له ذلك كله هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، الذي أقسم وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: *أما الموتة الثانية فلا تموتها أبدًا*.

لذلك قال علماء السنة فيما بعد: *إن الله حفظ هذا الدين وهذا الإسلام برجلين: بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة*. بأبي بكر الصديق يوم الردة، لو لم يتخذ تلك المواقف الحازمة والقوية، لما علمنا ما الذي يحدث لأمة الإسلام في ذلك الوقت. ولكن بثباته وإيمانه القوي رضي الله عنه وأرضاه، مهد هذه الأمور كلها لأصحابه من بعده، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

بعد أن استلم عمر الخلافة، أرسل رسالة سريعة وبالبريد السريع إلى جيوش المسلمين في اليرموك. أمرهم بأن يعزل خالد بن الوليد أميرًا على جيش المسلمين، ويعين أبا عبيدة بن الجراح. لماذا فعل ذلك عمر بن الخطاب؟ منهم من يقول لأمور خلافية وشخصية بينه وبين خالد. أيعقل هذا! أيُظن هذا بعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد؟ لا يمكن ذلك. ومنهم من قال بسبب قتله مالك بن نويرة، وأن عمر بن الخطاب كان يريد أن يحاسبه على ذلك قبل سنتين. وهذه لا يعقل ولا يُتصور، أنه يحاسبه على أمر قد فعله منذ سنتين. أين هو من قبل، ولماذا لم يسجنه عندما عزله من الجيش؟

ولكن القول الصحيح في هذه الحادثة، أن الجيش كان فيه أمين، وهذه الأمة أمينها هو أبو عبيدة بن الجراح عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: *إن لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح*. عمر لا يولي فقط على الجيش، وإنما قال عمر فيما بعد: *والله لو كان أبو عبيدة حيًا، لوليته الخلافة من بعدي. ولئن سألني الله عز وجل عن ذلك، قلت له: وليت من سماه ولقبه رسولك بأمين هذه الأمة*. فلذلك كان هذا هو السبب الذي جعل عمر رضي الله عنه وأرضاه مباشرة يتخذ هذا القرار.

كان عمر ينظر إلى الرجال من حيث الدين ومن حيث قربهم من الله سبحانه وتعالى، بينما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان ينظر إلى الرجال من حيث التخصص وما يحسنون. فلذلك، قال عمر فيما بعد: *رحم الله أبا بكر، كان أعرف بالرجال مني*. لأن أبا بكر يضع قيادة الجيوش لمن هو أهل لها، ويضع إمامة الصلاة لمن هو أهل لها، ويضع كل مسؤولية في موضعها الصحيح.

معارك الروم والفرس:

قامت المعركة بين المسلمين والروم. بعد أن انتصر المسلمون وفرحوا بنصر الله، أبلغ أبو عبيدة بن الجراح خالد بن الوليد بقرار عزله. خالد رضي الله عنه وأرضاه قال: *رحمك الله وغفر لك يا صاحب رسول الله. لو أبلغتني في ذلك، والله لم يختلف الأمر كما كان*. يعني في القتال، فلسنا نبحث عن إمارة ولا قيادة، وإنما نبحث عن نصر لدين الله سبحانه وتعالى وإذلال للمشركين.

بعد ذلك، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بخطوات عظيمة جدًا في عالم وفي تاريخ المسلمين. منها أنه أمر وشكل جيشًا يبلغ عدده عشرين ألفًا من المقاتلين بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، خال النبي صلى الله عليه وسلم، للذهاب إلى العراق ومحاربة جيش الفرس. هذا جاء نتيجة لمعركة الجسر التي قتل فيها أبو عبيدة الثقفي والد المختار الثقفي. تأثر المسلمون في هذه المعركة وقُتل منهم من قتل، فبعث عمر بن الخطاب هذا الجيش. كانت معركة القادسية الخالدة في سنة 15 من الهجرة بقيادة سعد بن أبي وقاص. استبسل المسلمون فيها واستفادوا نصرًا عظيمًا ونصر الله عز وجل دينه.

توجه بعد ذلك إلى معركة المدائن، عاصمة مملكة فارس، ثم كانت نهاية مملكة فارس، هذه الإمبراطورية العظيمة. في معركة نهاوند، التي سميت في عالم المسلمين وتاريخ المسلمين بفتح الفتوح، لأنه بعدها هرب ملك فارس يزدجرد إلى إمبراطور الصين لاجئًا عنده، وسقطت فارس بالكامل وأصبحت للمسلمين وأصبحت أرضًا للمسلمين.

توسعات الدولة الإسلامية في عهد عمر:

في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فتحت فارس بكاملها وسقطت أغلب بلدان الروم، حتى دخلوا إلى بلاد الأناضول، وهي آسيا الصغرى اليوم بلاد تركيا. استأذن عمرو بن العاص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأن يفتح مصر، فإذن له بذلك. دخل على الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى الفسطاط، وهي قريب من القاهرة اليوم، وتم فتح مصر بالكامل. كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه زمن الفتوحات وزمن سعة بقعة الأرض الإسلامية.

الإدارة والتطوير في عهد عمر:

في زمن عمر رضي الله عنه وأرضاه، تمت بعض التشكيلات السياسية والإدارية. منها أنه أول من تسمى بأمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه. ومنها أنه أول من أرَّخ للمسلمين التاريخ الهجري الذي يحسب به المسلمون إلى يومنا هذا. ومنها أنه أول من وضع الدواوين، والدواوين هي الوزارات اليوم، مثل ديوان المالية (بيت المال)، ديوان الجيش (وزارة الدفاع)، وزارة البريد (وزارة المواصلات اليوم). هذه الدواوين أول من أسسها ورتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

هو الذي منع من امتلاك المجاهدين للأراضي التي يفتحونها، من العراق ومن فارس ودولة فارس ومن الشام ومن مصر. قال: *كيف تملكون أمرًا هو للمسلمين جميعًا، وسوف يأتي أجيال تلو أجيال في العيش والتمكين من هذه الأراضي؟*. فأول من فكر بالأجيال القادمة. هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان له سطوة ومكانة وهيبة عند المسلمين وأعدائه أكثر بكثير ممن حوله. كانت فارس هي أكثر الدول التي تضررت والتي انتهت وتقطعت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. لذلك كان هناك رجل من سبي فارس، كان مملوكًا للمغيرة بن شعبة. أتى به إلى المدينة، فلما رأى هذا المجوسي الفارسي الذي يسمى فيروز أبو لؤلؤة المجوسي، أن عمر لا يحميه أحد وليس عنده حماية، وليس هناك من يدافع ولا حرس حوله يستطيع أي واحد أن يصل إليه.

مر عليه عمر يومًا من الأيام، فاشتكى له فيروز وقال: *إن المغيرة يحرمني حقي*. وكان حدادًا ويصنع الرحى، الرحى التي يطحنون بها الحبوب. فقال عمر: *سأكلمه في ذلك، يعني يشفع له عند المغيرة أنه لا يحرمه حقه*. قال: *إن فعلت ذلك، لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس دهرًا*. هذا كان تهديدًا له، لم يفهمه إلا عمر.

هذا الكلام كان هذا المجوسي يغمسه في خنجر مسموم لقتل عمر رضي الله عنه وأرضاه. فعلًا جاءه في صلاة الفجر، وعمر رضي الله عنه وأرضاه في السنة 23 من الهجرة يصلي الفجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة. لما شرع بقراءة القرآن بعد الفاتحة، دخل عليه أبو لؤلؤة المجوسي، هذا الخبيث اللعين، وطعنه سبع طعنات بخنجر مسموم.

كان الفجر ما زال الناس في ظلمة، يعني الرؤية ليست كاملة وواضحة. فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه بعد هذه الطعنات: *كلب عقرني*، يظن أنه كلب دخل عليهم ووصل إليه وهو يعني يعض عمر رضي الله عنه وأرضاه. فلما انتبه الصحابة رضي الله عنهم وارضاهم، ووجدوا هذا المجوسي قد وصل بعدد طعناته إلى سبع طعنات في ظهر عمر رضي الله عنه وأرضاه، أراد الهروب. طعن مع عمر من الصحابة قيل أنهم سبعة، وقيل أنهم أكثر من ذلك، حتى وصل إلى أحد الصحابة الذي ألقى بجبته عليه، فقبضوا عليه وقتلوه في الحال لأنه قتل مع عمر ما يقارب سبعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

حُمل عمر إلى بيته وكان ينزف دمًا، حتى أنه إذا شرب اللبن خرج اللبن من ضمن هذه الطعنات، فعلم عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه ميت لا محالة. فمباشرة أمر بأمرين استعجل بهما. وأول أمرٍ أمرَّ الأمة ألا يترك الأمة على ما هي عليه، فشكل مجلس استشاري من ستة أشخاص. قال: *إن رسول الله مات وهو عنهم راضٍ*. هؤلاء الستة هم الذين يختارون خليفة للمسلمين. فعلًا، اختار عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيدالله. قال: *يجلس معهم عبدالله بن عمر وليس له من الأمر شيء، شاهدًا على ما يتم وما يدور بينهم*.

الأمر الأول الذي حرص عليه عمر، قال: *يمهلون ثلاثا فيختارون خليفة للمسلمين*. ثم أمر ولده عبدالله وقال: *يا بني، لا تجزع من موتي وما أنا فيه. اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقل لها إن عمر يقرئك السلام. ولا تقل أمير المؤمنين فلست اليوم للمؤمنين أميرًا. وقل لها إن عمر يقرئك السلام ويرجو أن يدفن بجنب صاحبيه، الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق*.

دفن عمر بن الخطاب بجانب الرسول:

فلما ذهب عبدالله بن عمر وطرق الباب، خرجت له عائشة وهي تبكي لعمر.

فقالت لما قال لها: *إن أبي عمر يقرئك السلام ويسألك أن يدفن بجنب صاحبيه*.

قالت: *والله، كنت أريد هذا القبر لنفسي، جنب زوجها وأبيها رسول الله أبو بكر الصديق. لكن اليوم لآثرن عمر على نفسي*.

فقبلَتْ ذلك، فرجع عبدالله بن عمر إلى أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

كان عمر ينظر إلى عبدالله وهو قادم من عند أم المؤمنين عائشة، فقال: *ماذا أجابتك يا عبدالله؟*.

قال:*أبشر يا أبي، فإن أم المؤمنين آثرت على نفسها وقبلت ما أردتَ*.

قال: *الحمد لله، والله ما من شيء أهمني إلا أنني أدفن بجنب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.*

اختيار الخليفة بعد عمر:

بعد ذلك لما اجتمع الستة المستشارين الذين عينهم عمر، رشح سعد بن أبي وقاص عبدالرحمن بن عوف، ورشح الزبير علي بن أبي طالب، ورشح طلحة عثمان بن عفان. نزل ثلاثة، وبرز ثلاثة الآن للخلافة: عثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف. فقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين: *لعثمان، أرايتك لو نزعت ما في عنقي من هذه الخلافة وجعلتها لواحد منكم، أتقبل وتطيع؟*. قال: *اللهم نعم*. قال لعلي بن أبي طالب مثل الكلام: *أتقبل وتطيع؟*. قال: *اللهم نعم*. قال: *إذا، فأمهلوني ثلاثة أيام أستخير وأستشير، ثم أعلمكم ما عزمت عليه*.

تولي عثمان بن عفان رضي الله عنه:

بعد أن توفي عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام، ودفن بجنب صاحبيه، قام عبدالرحمن بن عوف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبًا ومعلنًا وقال: *والله، لو كُلفت بحمل الجبال، لكانت أهون علي من حمل هذا الهم. إني أختار خليفة للمسلمين بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، لكني استشرت أمهات المؤمنين وكبار الصحابة وأهل المدينة، فرأيتهم لا يعدلون بعثمان أحدًا*.

خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه:

تولى عثمان بن عفان خلافة المسلمين وسار بهم سيرةً حسنةً. استمرت الفتوحات على ما هي عليه، بل وكانت الفتوحات من أعظم ما تكون، حتى أنهم وصلوا إلى الفتوحات البحرية في زمن عثمان بن عفان، بأكثر من 800 سفينة. تم فتح قبرص في زمن عثمان بن عفان، بل تم الوصول إلى بلاد خوار في المشرق، وأرمينيا وجورجيا. بدأ المسلمون في مصر يتوسعون إلى ليبيا حتى وصلوا إلى تونس. كانت الأموال والفتوحات والغنائم تصل إلى المدينة، حتى قيل أنه في زمن عثمان لم يبقَ من المسلمين فقيرًا.

هذا كله في زمن عثمان رضي الله عنه، من سنة 23 من الهجرة إلى سنة 31 من الهجرة. الأمور والفتوحات والخيرات تعم المسلمين جميعًا، حتى قامت طغمة طاغية من أهل الثورات والمكر والخبث في أمة الإسلام، يدق في قلوبهم الحقد والحسد والكيد للإسلام والمسلمين. يقال أنَّ زعيمهم رجل من أهل اليمن من صنعاء، وجاء في كثير من المصادر التاريخية أنه رجل يقال له عبدالله بن سبأ اليهودي الصنعاني. يقال أنَّ أصله يهودي وأعلن أنه مسلم، ولكن أراد الكيد والمكر في الإسلام والمسلمين، كما فعل سلفه في دين المسيح، وهو شاول  الذي دخل دين المسيح وهو على اليهودية، ولكن أراد أن يخرب هذا الدين من الداخل.

الفتنة الكبرى ومقتل عثمان بن عفان:

هم يعلمون أن الدين والمسلمين لا يقدرون عليهم إلا من دخل بينهم وأعلن نفسه أنه منهم وهو ليس كذلك. فلذلك فعل عبدالله بن سبأ ما فعل شاول الذي سمى نفسه فيما بعد بولس، وله إنجيل إلى يومنا هذا يقرأه النصارى، وهو إنجيل بولس. هذا المكر والخداع قاد الكثير من الثوار والخوارج من مصر والعراق واليمن إلى المدينة النبوية خلال سنوات معدودة، وكثرت هذه الطغمة الطاغية حتى أنهم حاصروا بيت خليفة المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. مع الأسف الشديد، استطاعوا أن يقتحموا عليه البيت ويقتلونه في داره، وعمره 82 سنة. كان مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه هو الفتنة الكبرى التي تُقرأ وتعرف في التاريخ.

تولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بريئين من ذلك، ولم يكن صحابي واحد في هذه الثورة أو في هذه الفتنة. فلذلك الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، دخل عليهم هؤلاء وفرقوا بين المسلمين، وفعلوا هذه الأفاعيل باسم الدين وباسم الإسلام وباسم العدل، وهم والله أبعد ما يكون عن العدل والإسلام والحق الذي يزعمون أنهم عليه.

بعد ذلك، تولى علي بن أبي طالب في هذا الجو المليء بالفتن والفرقة والبلبلة، بايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم علي بن أبي طالب على الخلافة. لكن بعد ذلك قالوا: *كيف نرضى أن يُقتل عثمان بهذه الصورة ونحن مكتوفي الأيدي؟ لا بد أن نطالب بالقصاص*. فلذلك سار الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنها بجيش من مكة إلى البصرة، يطالبون بالقصاص من قتلة عثمان. فلما سمع علي بن أبي طالب، ذهب خلفهم وأراد أن يقنعهم.

كان هناك رأيان بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم... وكلاهم مجتهد، ولكن الحق والصواب كان مع علي بن أبي طالب:

الرأي الأول وهو ما كان عليه الزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة، ومعاوية بن أبي سفيان أمير الشام، كانوا يقولون: *لابد من الاقتصاص وأخذ الحق من قتلة عثمان قبل كل شيء*.

وكان علي يقول: *نعم، ولكن لا بد للأمة أن تتفق أولًا وتجتمع تحت أمير واحد، خليفة واحد، حتى يتم القصاص وضبط الأمور ومعرفة من الذي يستحق هذا القصاص*.
المحاصرون لعثمان والذين تورطوا في قتله أكثر من 3000 شخص. صحيح أن الذين اقتحموا الدار بضع عشر رجلًا، ولكن كان المؤيدون لهم والمحيطون بالبيت أكثر من 3000. كل منهم له قبيلة وكلهم له عشيرة. فلذلك إذا أخذناهم ونحن على حين فرقة، لم نتفق إلى الآن على حاكم واحد، وعلى تأسيس البلد الواحد، فإنه ربما زادت الفرقة وزادت الفوضى، وربما يحصل من القتل لبعض الصحابة أكثر مما حصل لعثمان. هذا فعلًا ما حصل، لأن الحق والرأي الصواب كان مع علي رضي الله عنه
.

ومع ذلك نقول أن بقية الصحابة كلهم كان هدفهم نبيل، وأنهم اجتهدوا. فمن اجتهد وأصاب له أجران، ومن اجتهد وأخطأ له أجر. نحن نحبهم ونجلهم ونحسن الظن بهم، وأنهم لا يتعمدون الباطل، لأن الله هو الذي عدلهم. فلذلك كان ما كان، فقتل الزبير، وقتل طلحة، وقتل كثير من الناس.

معركة صفين:

وخاصة في معركة صفين، عندما سار جيش علي إلى معاوية في الشام. حصلت موقعةٌ عظيمةٌ، واتفقوا على أن ينهروا القتال وينظروا في مسألة الصلح، فرد الأمر إلى الصحابة. قامت الخوارج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سنة 37 ه. بعد ذلك خرجت الخوارج على علي بن أبي طالب وقتلهم رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكرت الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم. ولكن الخوارج لم يهدؤوا. فلما جاءت سنة 40 من الهجرة، قام عبدالرحمن بن ملجم الخارجي الخبيث، وكمِن لعلي بن أبي طالب وهو ذاهب إلى صلاة الفجر، فضربه بالسيف ضربة كانت قاتلة. مكث يومين أو ثلاثة رضي الله عنه وأرضاه وهو في الكوفة. قال له الناس: *نبايع ابنك الحسن من بعدك*. قال: *هذا شأنكم، لا آمركم ولا أنهاكم. إن رأيتم أنكم تبايعونه، فهذا شأنكم*.

تولي الحسن بن علي رضي الله عنه:

فعلًا... مات رضي الله عنه وأرضاه هذا الخليفة الثالث الذي يُقتل بعد عمر وبعد عثمان، بعد علي تولى الخلافة الراشدة الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان تمام الثلاثين سنة، تولى الحسن الخلافة لستة أشهر، فأراد أن يتنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان أمير الشام، تحقيقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في بعض السنن: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين" (رواه البخاري). فعلًا، أصلح بينهم وتنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.

نهاية الخلافة الراشدة:

حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء في السنة، يقول: "إن الخلافة بعد النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء" (رواه الترمذي). فعلًا، قال سفينة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم: *خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر، وخلافة عثمان 12 سنة، وخلافة علي ست سنوات*. تكمل هذه الخلافة الثلاثين سنة بخلافة الحسن بن علي ستة أشهر، ثم كان معاوية رضي الله عنه وأرضاه هو الخليفة الأول للملوك، أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.

في سنة 41 من الهجرة، تم التنازل من الحسن إلى معاوية بن أبي سفيان، وسمي ذلك العام عام الجماعة. تولى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وكان خال المؤمنين وكاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم. سوف نتعلم ونعرف عن هذه الدولة العظيمة، الدولة الأموية، التي أسسها معاوية بن أبي سفيان، وكيف كانت خدمتها للإسلام والمسلمين.

أعتذر عن الإطالة، ولكني قلت لكم إن التاريخ ربما يقال في 12 أو 14 درسًا، اختصرناه في هذا المقال. أسأل الله عز وجل أن يجعله نافعًا للجميع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply