بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إلى بَنِي إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بإذن اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بإذن اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ{(51).
{وَيُعَلِّمُهُ} قرأ نافع، وعاصم: {ويعلمه} بالتحتية، أي: يعلمه الله. وقرأه الباقون بنون العظمة: {ونعلمه}، على الالتفات.
{الْكِتَابَ} الخط والكتابة، وفيه شرف الكتابة وفضلها.
{وَالْحِكْمَةَ} وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
والحكمة حكمتان: علمية وعملية.. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا، قدرا وشرعا، والعملية: كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه.
{وَالتَّوْرَاةَ} كتبها الله تعالى كتابة بيده، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}[الأعراف:145].
ولهذا قال أهل العلم من علماء السلف: إن الله تعالى غرس جنة عدن بیده، وخلق آدم بیده، وكتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، ونزلت ألواحًا على موسى وفيها ما تقتضيه المصلحة، والحاجة والضرورة في ذلك الوقت.
{وَالْإِنْجِيلَ} روي أن عيسى كان يستظهر التوراة والإنجيل، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى.
وذَكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتابًا مذكورًا عند الأنبياء والعلماء، وأنه سينزل.
{وَرَسُولًا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} قائلا لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أرسلت إليكم من جانب الله، ونظيره قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ}[الزخرف:63].
{بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فيه الإشارة إلى وجوب قبول رسالته لأنها من الله تعالى.
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإِنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
{مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الهيئة: الصورة والكيفية أي أصور من الطين صورة كصور الطير.
{فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بإذن اللَّهِ} هذا من أجل تحقيق التوحيد، بإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات.
وفي قراءة سبعية: {فيكون طائرًا بإذن الله}، والقراءتان لكل واحدة منهما معنى يكمل الأخرى، فقوله: {فيكون طيرًا} أي طيرًا حيا بعد أن كان على صورة الطير وليس فيه روح، وقوله: {فيكون طائرًا} أي: يطير، تشاهدونه يطير بالفعل، فعندنا ثلاث مراتب: تصوير على هيئة الطير، وطير فيه روح على قراءة {فيكون طيرًا}، وطير يطير بالفعل على قراءة {فيكون طائرًا} بإذن الله.
وفيه أن ما فعل بأمر الله فهو حلال مباح وإن كان نظيره بدون أمر حرامًا، فلو أن أحدًا أراد أن يصنع تمثالًا من الطين على هيئة الطير لكان ذلك حراما، لكن لما كان هذا بأمر من الله كان هذا حلالًا، ولهذا نظائر: السجود لغير الله شرك والسجود لغير الله بأمر الله طاعة، ولهذا سجد الملائكة لآدم فكانوا طائعين، واستكبر عن ذلك إبليس فكان من الكافرين.. قتل النفس المحرمة ولاسيما ذو الرحم من كبائر الذنوب، وإذا كان بأمر الله كان مما يقرب إلى الله، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُمر بذبح ابنه إسماعيل فامتثل، وكان امتثاله لذلك طاعة الله عز وجل.. هكذا خلق عيسى كهيئة الطير لينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، هذا من الأمور التي أبيحت له بأمر الله عز وجل.
{وَأُبْرِئُ} أشفي، والبرءُ في الأصل من البراءة، والبراءة من الشيء السلامة منه.
{الْأَكْمَهَ} هو الذي يولد أعمى، وقيل: من ولد بلا عين، وهذا أبلغ في القدرة.
{وَالْأَبْرَصَ} داء جلدي عبارة عن بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص، وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق، ثم تنتشر على الجلد فربما عمت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد. وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة أحيانًا، وهو غير معد.
والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام، فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم.
فإما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلا من وراء حجاب، كما وقع في قصة الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشاعر مع الملك عمرو بن هند [وحِلِّزة اشتقاقُه من الضِّيق. رجلٌ حِلِّزٌ، إذا كانَ بخيلًا].
وأما العبرانيون فهم أشد في ذلك. وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكررته مرارا، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أن المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص، وأحكامه مفصلة في سفر اللاويين. ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهم المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا.
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.
{وَأُحْيِ الْمَوْتَى بإذن اللَّهِ} ولا شك أنها آية عظيمة -وهي إحياء الموتى-، وهذا من آيات الله، وفي الآية الأخرى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي}[المائدة:١١٠]، ففي الآيتين إحياء الموتى وإن كانوا على ظهر الأرض، وإحياء الموتى وإن كانوا في القبور وإخراجهم منها أحياء، يعني إذا ضممت هذه إلى هذه استفدت فائدتين أنه يحيي الموتى وهم على ظهر الأرض، ويحييهم وهم في بطن الأرض فيخرجون.
وإحياء الموتى معجزة للمسيح، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين، فكان إذا أحيا ميتا كلمه ثم رجع ميتا، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متى في الإصحاح 17 أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.
ولقد بُعث عيسى في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد.
{وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبركم {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وفيه أن الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:26-27].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في ذلك كله {لَآيَةً لَكُمْ} على صدْقي فيما جئتكم به.
** وفيه أنه ينبغي التكرار في المقام الهام؛ لقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ}، مع أنه قال في أول الآية: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، وذلك لأن الأمور الهامة ينبغي تكرارها أولًا من أجل أن يتبين للمخاطب أهميتها عند المتكلم وأنه ذو عناية بها، والثاني من أجل أن ترسخ في الذهن؛ لأنه كلما تكرر الشيء ازداد رسوخًا.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة.
يعني أنها آية بهذا القيد، وأما غير المؤمن فإنه لا ينتفع بالآيات، ولا تكون الآية له آية، قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[يونس:101] بل إن غير المؤمن يرى أن هذه الآيات العظيمة أساطير الأولين، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[المطففين:13] وذلك بسبب ما كان على قلبه من ظلمات المعاصي، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14].
والإيمان هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وليس مجرد التصديق، ودليل ذلك أنه لا يتعدى بما يتعدى به التصديق، فإنه لا يقال: «آمنته»، ويقال: «صدقته». بل إنه يتضمن الإقرار والاعتراف والانقياد والتسليم، ومن صدق ولم يقبل ولم يذعن فليس بمؤمن، فأبو طالب عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مصدقا برسالته لكنه لم يقبل ولم يذعن فلم يكن مؤمنا، فالإيمان معنى زائد على التصديق وليس هو مجرد التصديق.
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذي جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله تعالى إلى كشفه بقوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {بإذن اللَّهِ} مرتين. وقد روى أهل السير أن نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَمُصَدِّقًا} المصدق: المخبر بصدق غيره.
{لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ما تقدم قبلي، لأن المتقدم السابق يمشي بين يدي الجائي، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل.
ويطلق «ما بين اليدين» على ما سيأتي أيضا، أي ما يستقبل، فإن قرن بالخلف فهو للمستقبل، وإلا فإنه صالح للمستقبل والماضي، ففي قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}[البقرة:٢٥٥] المراد هنا المستقبل لقوله مقترنا: {وَمَا خَلْفَهُمْ}.
{مِنَ التَّوْرَاةِ} هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه الصلاة والسلام، وهي أصل الكتب المنزلة على بني إسرائيل وأعظمها، بل هي أعظم الكتب فيما نعلم بعد القرآن.
وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وأيضًا في تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولا.
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ} ولم يقل: «كل» {الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} والمحرم عليهم ذكره الله في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا}[النساء:160] وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ}[الأنعام:146].
فلما حرمت عليهم هذه الطيبات لظلمهم وعدوانهم، وبعث الله عيسى أحل لهم بعض ما حرم عليهم، ولم يُذكر في القرآن بيان هذا البعض فيكون باقيًا على إطلاقه، ولو كان لنا مصلحة في تعيين ذلك لبينه الله. وقيل: أنه محللًا أشياء مما حرم فيها: كالشحوم، ولحوم الإبل، وبعض من الحيتان [الأسماك] والطير.
وما قيل أنه حرم عليهم الطلاق فهو تقول عليه، بل حذرهم منه وبين لهم سوء عواقبه، وحرم تزوج المرأة المطلقة.
وينضم إلى ذلك ما لا تخلو عنه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.
وفيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين. فالإنجيل كالمتمم للتوراة؛ لأنه في الحقيقة نزل على بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة؛ ومن المعلوم أن حال بني إسرائيل تغیرت من وقت موسى إلى عيسى، فكان في الإنجيل أشياء فيها تعديل أو زيادة، فهو متمم للتوراة.
ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}[الزخرف:63] والله أعلم.
وفيه: جواز نسبة الحكم إلى من بلغه؛ لأنه قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ} وأصل التحليل والتحريم من عند الله -عز وجل-، لكن إضافته إلى من أبانه وأظهره لا بأس بها، ولهذا أضاف الله القرآن إلى نفسه وإلى جبريل وإلى محمد، أما إلى نفسه فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}[التوبة:٦]، وأما إلى جبريل فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:۱۹-۲۰]، وأما إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}[الحاقة:٤٠-٤١] لكن الكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، وأما من قاله مبلغًا مؤديًا فإنما يضاف إليه لكونه أظهره وأبانه.
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يشمل كل ما جاء به من الآيات، ويكون هذا من باب التأكيد لقوله الأول {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وإقامة الحجة عليهم، فكرر مجيئه بالآيات احتجاجًا عليهم بما كذبوا.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ} يعني اتخذوا وقاية من عذابه؛ لأن التقوى مأخوذة من الوقاية، وتكون بفعل أوامره واجتناب نواهيه.هذا هو المعنى الشامل للتقوى عند الإطلاق، وإذا قرنت التقوى بالبر صار المراد بها اجتناب المحارم، مثل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:٢].
{وَأَطِيعُونِ} أي: وأطيعوني فيما أمرتكم به وفيما نهيتكم عنه، وطاعته من التقوى بلا شك لكن نص عليها لأنها تقوى خاصة فيما جاء به عيسى؛ لأن التقوى يؤمر بها كل إنسان، فإذا قيل: (أطيعون) صارت تقوى خاصة في طاعة هذا الرسول الذي بعث إلى قومه.
والطاعة قال العلماء في تفسيرها: إنها موافقة الأمر تجنبًا للنهي وفعلًا للمأمور، فمن تجنب النهي ناويًا بذلك امتثال الأمر فهو مطيع، ومن فعل الأمر ناويًا بذلك امتثال الأمر أيضًا فهو مطيع، أما من ترك النهي أو بعبارة أصح المنهي عنه عجزًا عنه، فإن هذا ليس بمطيع، بل إذا سعى في أسبابه حتى عجز كان كمن فعله؛ ففي البخاري عن عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قُلْتُ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ قَالَ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟! قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} لما أمرهم بتقوى الله ذكر ما هو كالسبب في ذلك.. فأنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه. وبدأ بنفسه ليكون أول مذعن ومنقاد لهذا الرب عز وجل.
والربوبية هي انفراد الله بالخلق والملك والتدبير، ولا يعني ذلك أن لا أحد يشاركه في خلق أو ملك أو تدبير، لكن على وجه لا يماثل ما يثبت للخالق من ذلك، فالعبد خلقه أو ملكه أو تدبيره ناقص من حيث الشمول ومن حيث التصرف أيضًا.
{فَاعْبُدُوهُ} الفاء هنا عاطفة وتفيد السببية أيضًا أي: بسبب كونه ربا اعبدوه.
والعبادة مأخوذة من الذل عَبَدَ بمعنى «ذَلَّ». ومنه قولهم: طريق معبد أي: مذلل لسالكيه، فأصلها «الذل» لكنها بالنسبة الله عز وجل ذل مقرون بمحبة وتعظيم. فكل من تعبد الله فإن تعبده هذا مقرون بهذين الأمرين: المحبة، والتعظيم، فبالمحبة يكون الطلب وبالتعظيم يكون الهرب، فالإنسان إذا أحب شيئًا طلبه، وإذا عظم شيئًا هابه وهرب منه وخاف منه. ولهذا كانت العبادة مبنية على الرجاء والخوف.
والعبادة تطلق أحيانًا على هذا المعنى الذي ذكرنا باعتبارها مصدرًا، وهو أي التذلل لله مع المحبة والتعظيم وتطلق أحيانًا على اسم المفعول أو على الشيء المتعبد به وحينئذ نقول: إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالصلاة مثلًا عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وبر الوالدين عبادة، وصلة الأرحام عبادة، وهكذا، فأحيانًا تطلق على الفعل، وأحيانًا تطلق على المفعول.
{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ولا يسمى الطريق صراطًا إلا إذا اجتمع فيه السعة والاعتدال؛ لأنه مأخوذ من (السرط)، وهو الابتلاع بسرعة، وإن شئت فقل: من (الزرط) وهو الابتلاع بسرعة، والطريق الواسع المستقيم يبتلع سالكيه بسرعة؛ لأن الضيق لا يمشي الناس فيه إلا رويدًا رويدًا ببطء، وغير المستقيم لا يوصل للغاية إلا ببطء سواء كان انحرافه على اليمين أو الشمال أو من حيث الصعود والنزول، فإنه إذا كان صاعدًا نازلًا أتعب السالك.
فإن كان الصراط مستقيمًا خالي من الانحرافات يمينًا وشمالًا وكذلك في الصعود والنزول اختصر الطريق، فإذا قدرنا أن هناك غاية تصل إليها بالطريق المستقيم في ثلاثين مترًا، إلا أن فيه تعاريج، كل تعريجة عشرة أمتار، وفيها عشرة تعاريج، فإنك ستصل إلى الغاية بمائة متر.
وقوله {مُسْتَقِيمٌ} يعني لا اعوجاج فيه، ووصفه بالاستقامة بعد أن قلنا إن الصراط هو الطريق الواسع المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج من باب التوكيد.
وكان عيسى قد هربت به أمّه من قومها إلى مصر حين عزلوا أولادهم، ونهوهم عن مخالطته، وحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال ما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير. ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهموا به، فهربت به أمّه إلى أرض مصر.
فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى الله إليها: أن انطلقي إلى الشام، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين، فكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد