تشبيه البيع بالربا الدلالات والآثار


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

المقدمة:

من الملاحظ أن القرآن الكريم ذكر دعوى المشركين في حِلّ التعامل بالربا، بأن البيع يشبه الربا }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا){البقرة:275(، وكانت هذه الدعوى غريبة في مبناها كما هي غريبة في معناها، فالأصل الذي لا خلاف فيه هو البيع الذي يتعامل به الناس من غير نكير ولا إنكار؛ لما يحققه من منافع متساوية أو أقرب للتساوي، للطرفين: البائع والمشتري مع الرضا بذلك من غير اضطرار ولا إكراه، ومن ثم يعبّر البيعُ عن العدل والإنصاف ويكون أبعد ما يكون عن الظلم وأكل الأموال بالباطل، وهذا لا خلاف فيه بين الناس، أما الربا فهو خلاف ذلك؛ لقيامه على الاستغلال من جانب صاحب الدَّين والظلم البيّن لمن اقترض أو استدان، مع اضطراره إلى هذا الاقتراض في الأغلب الأعم، وإلا لما لجأ إلى هذا التعامل، الذي يضمن لصاحب الدَّين رأسَ ماله والزيادة عليه، فإن لم يصب تلك الزيادة، فلن تَلحق خسارة برأس المال. هذا هو الظاهر والمتبادر إلى الأذهان، أما أصحاب تلك الدعوى عند المتعجبين من دعواهم، فقد قلبوا التشبيه، فبدلًا من أن تكون حجتهم أن الربا مثل البيع في أن كلًّا منهما فيه زيادة على رأس المال، فلا يختلف حكمه عن حكم البيع، ومادام البيع حلالا فالربا يكون مثله حلالا، فبدلا من أن يسلكوا هذا المسلك لحل الربا، سلكوا مسلكا غير معتاد لحله، فجعلوا البيع هو الذي يشبه الربا، ليكون أبلغ في بيان اعتقادهم أن الربا مباح لا إشكال فيه.

هذا هو المتبادر إلى الأذهان، لكن عند التأمل والإلمام بنفسية المرابي نجد أن هؤلاء المرابين يجعلون الربا أصلًا يُحتكم إليه غيرُه، ولو كان البيع، فإنما يقاس البيع على الربا، لأن الربا أصبح عندهم أصلًا أصيلًا مستقرًّا عندهم يرون أنه أصل الأصول في المعاملات فتقاس عليه المعاملات الأخرى، لا يقاس هو على تلك المعاملات ومنها البيع، وتوضيح ذلك فيما يأتي:

التمهيد:

 لما حكى القرآن الكريم عن المشركين في حلّهم الربا، حكي عنهم قولهم }ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا){البقرة:275(، فهم يرون الربا أصلا والبيع فرعا، وذلك في ظنهم لما يأتي:

-1 البيع في الأصل يتم بسلعة وثمن حاضرين، وهذا لا يتوافر عند كثير من الناس، فهم يرغبون في شراء السلع لكن لا يملكون أثمانها وإن ملكوا بعض الثمن فلا يملكونه كله، وإن ملكوا بعض أثمان السلع فلا يملكون ثمن البعض الآخر، أما الربا وهو ربا الجاهلية، وسوف أتكلم عنه، بعد قليل، فهو يبيح لمن لا يملك مالًا أن يحصّل ما يريد من السلع والبضائع والمقتنيات عن طريق الاقتراض بالدَّين، وخاصة أن الأغلب، إن لم يكن كل الربا، يقوم على أن الزيادة على رأس مال القرض تكون عند حلول أجل السداد، فإن عجز المدين طلب من الدائن أن يُنظره ويعطيه مهلة للسداد مقابل الزيادة وهو قول الدائن "أنظرني وأزيدك"، فالظاهر أن الزيادة لم تكن مشروطة عند ابتداء القرض وإن كانت موجودة فهي نادرة وليست منتشرة فيما يبدو. فبيعٌ لابدّ فيه من امتلاك ثمن السعلة أفضل أو أفضل منه عدم امتلاك هذا الثمن مع الحصول عليها؟

لا شك أن الأخير هو الأفضل في الظاهر وأمام الأنظار غير المتعمقة والتي لا تنظر إلى العواقب والنتائج، ويدعم ذلك الدعايةُ المجتمعية التي يقوم على أمرها المرابون والمتعاونون والمستفيدون، والتي تزين الربا وتجمّله في عيون المحتاجين والراغبين في الحصول على ما يريدون بالقرض والاستدانة، كما هو الحال في كل عصر وزمان يكون فيه الربا والمرابون.

2-حصول الدائن على القرض يمكّنه من أن يتملك القوة الشرائية التي تجعله يشتري أفضل ما يريد من مواصفات يبحث عنها في الوقت الذي يناسبه والمكان الذي يلائمه وبالسعر الذي يريده، وهذا أفضل من البيع المعتاد لأنه مقيد بالثمن الذي يملكه وقد لا يجعله ينال أفضل المواصفات التي يريدها؛ نظرًا لقلة المال، وإن اشترى بالسعر المؤجل فالأغلب أن السعر المؤجل يزيد عن السعر الحالِّ ومن ثمَّ كان الربا فيه من التيسير ما لا ليس في البيع؛ فاستحق أن يكون أصلًا ويكون غيره وهو البيع فرعًا.

3-التعامل بالربا يتيح للمقترض والمدين أجلًا يسدد عنده القرض أو الدين، فيمكنه في خلال تلك المدة أن يحصّل المال بالاكتساب وبغيره، فيسدد الثمن دون زيادة ومن ثم لا يكون فيه ظلم له ولا استغلال، بل إن العكس هو الصحيح فقد استفاد السلعة وسدّد ثمنها مؤجلا دون زيادة عليه ولم يستفد المقرض شيئًا بل هو في ذلك محسن ومتفضِّل وباذلٌ ماله لغيره دون أن يعود عليه ذلك بالنفع المادي، فكان هذا في الظاهر أفضل من عقد البيع الذي يقوم على المعاوضة وأبعد ما يكون عن الإحسان والفضل، فأيهما أفضل حينئذٍ؟ وأيهما يستحق أن يكون هو الأصل وغيره الفرع؟

وأما الزيادة التي تحدث عند التأخر عن السداد عند حلول الأجل، فهي أولًا بطلب الدائن وهي باختياره لا باضطراره كما أنه لا يُطالب الدائنُ بالإحسان حينئذٍ فقد سبق إحسانه بتقديم القرض للدائن وفك كربته وحقق حاجته إلى الشراء ونحوه، فكان من الأنسب ألا يطالب بالإحسان مرة ثانية، وقد قدّم إحسانه قبل ذلك.

4-لا يقتصر الربا على المحتاجين والمعوزين الذين يستدينون من أجل حاجاتهم الضرورية من الطعام والشراب والسكن ونحو ذلك، بل يتعامل به أيضًا الأغنياءُ الذين يفتقدون السيولة المالية اللازمة للتوسع في التجارة والزراعة والحرف المختلفة وكل ما يسد حاجات المجتمع المختلفة الأساسية وغير الأساسية؛ ومن ثم يتمكنون عن طريق الربا من تلبية تلك الحاجات وما يصاحب ذلك من نموٍّ تجاريٍّ واقتصاديٍّ يعود على المجتمع بالفائدة والنفع، فضلا عما يعود على هؤلاء الأغنياء من زيادة في الثروات وتوسع في النشاط الاقتصادي المطلوب. وليس هذا استنتاجًا من واقع الربا في العصر الحديث، بل وجد حيثما وجد التعامل بالربا، فقد كان الربا والتعامل به شائعًا في المراكز الحضارية في الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام، فقد كان شائعا في مكة والطائف حيث المراكز المالية والزراعية في الجزيرة العربية، وما يصاحب ذلك من رغبة في التوسع الاقتصادي بالتمويل عن طريق الربا في الأغلب الأعمّ.

4-من أجل ذلك كله فلا يستبعد أن يكون ذلك القول }وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا){البقرة:275(، هو من قول الكفار المرابين بعد قولهم }إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا){البقرة:275(، وذلك زيادة في الاستنكار والتعجب من التفريق بين المتماثلين في زعمهم، فيحل البيع ويحرم الربا مع أن مقتضى العقول في نظرهم، ألا يفرق بينهما، وخاصة أن الربا عندهم هو الأصل لا البيع، فمادام أحل الله البيع وهو الفرع فمن باب أولى أن يحل الربا لأنه الأصل الذي يقاس عليه البيع، وهذا القول منهم يوضح مدى استكبارهم ومعارضتهم للشرع ومهاجمتهم الشديدة وتشغيبهم على أحكام الشرع والقيام بحملة إعلامية ضخمة لتشويه تلك الأحكام وهزّ ثقة المسلمين بها ودفعهم إلى عدم الانقياد لها لما فيها من التناقض في نظرهم، ولا يستبعد أن يكون بعض ضعفاء المسلمين في الإيمان أو المنافقون قد استجابوا لهم أو أقرّوهم على دعواهم تلك الباطلة[1].

فكيف عالج القرآن الكريم تلك الدعوى العجيبة التي صاحبتها حملة إعلامية كبيرة صاخبة تدافع عنها وتطعن فيمن يعارضها أو يحرمها؟

أولا: معالجة القرآن الكريم لهذه الدعوى العجيبة:

يستحسن قبل البدء في ذكر تلك المعالجة أن أبيّن الربا المقصود في الآيات الكريمة؛ لأن الآيات ذكرت عقوبة شديدة جدًّا لمن أصر على الربا بعد هذا الإعلام بالتحريم، }فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ){البقرة:279(، قال ابن القيم (751ه):* لم يجئ هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر*[2]، ومن ثم كان من المهم جدا بيانه وتحديده حتى يتميز عن غيره، فلا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج عنه ما هو منه؛ نظرا للخطورة الشديدة في ذلك:

1-الربا المتوعَّد عليه في هذه الآيات الكريمة هو ربا الجاهلية وهو ربا الديون، وهو الزيادة على مقدار الدين عند حلول الأجل مقابل الزيادة في أجل قضاء الدين، ولا يمنع أن تكون الزيادة عند بداية الاقتراض، لكنه لم يُنقل، وإن وقع فإنه نادر[3]، وإذا كانت الزيادة عند بداية الدين فهو أشد إنكارًا وأسوأ استغلالًا من الزيادة عند العجز عن الأداء عند حلول الأجل، فهي زيادة مطلقة غير مقيدة بالعجز عن الأداء، فإذا جاء الأجل ولم يتم أداء الدين فمن باب أولى تتضاعف الزيادة، وكلما زيد في الأجل كثرت الزيادة وأصبحت أضعافًا مضاعفة، فكان ربا الجاهلية أخف وطأة من الربا المعاصر المتعارف عليه والذي يفرض الزيادة عند بداية الاقتراض ويزيدها عند العجز عن الأداء؛ فاستحق أن يكون الوعيد عليه أشد من الوعيد على ربا الجاهلية.

2-هذا الربا وأعني ربا الجاهلية أو ربا الديون هو الربا الذي لا شك فيه، كما سئل الإمام أحمد بن حنبل (256ه) عن الربا الذي لا شك فيه؟ فقال: هو أن يكون له دين فيقول أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال[4]. وهو الذي تم توضيحه تمام التوضيح بحيث ينتفي عنه أي لبس أو إشكال، ولهذا لا تجد الفقهاء في مدوناتهم الفقهية ينشغلون بمزيد من التوضيح والبيان له، وإنما يعتنون بما يكون حيلة له مع أن الظاهر البعد عنه وعدم الوقوع فيه، مثل بيع العينة وغيرها وصور كل قرض جرّ نفعا للمقرض أو اجتماع عقدين كالبيع والسلف ونحو ذلك. أما جلُّ عنايتهم واهتمامهم فكان منصبًا على ربا البيوع، وهو الربا الواقع في الأصناف الستة التي جاءت الأحاديث الصحيحة وانفردت السنة المشرفة بتحريمه، فانشغلوا بالشروط اللازم توافرها لعدم جريان الربا في مبادلة تلك الأصناف الستة، وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، سواء في مبادلة الجنس بجنسه كالذهب بالذهب والبر بالبر، أو مبادلة الجنس بغيره من الأجناس داخل المجموعة الواحدة، فالذهب والفضة مجموعة واحدة، والأصناف الأربعة الأخرى مجموعة ثانية، فيشترط في مبادلة الجنس بجنسه التساوي بين المقدارين وقبضهما في مجلس البيع، أما إذا اختلف الجنس داخل المجموعة الواحدة فيشترط شرط واحد وهو التقابض في مجلس العقد، وجاز التفاضل فلا يشترط التساوي بين المقدارين، كبيع ذهب بفضة وقمح بشعير، أما إذا اختلفت المجموعات فلا شروط من ذلك كالقبض والتساوي في المقدار. وهي كما ترى معاملات محدودة أقرب إلى بيع المقايضة الذي ينتشر في المجتمعات البدائية ويقلّ في المجتمعات الحضرية، ومكة والمدينة والطائف أقرب إلى الحواضر منها إلى البادية، ولهذا اختلفت الأنظار في علة تحريم الربا في هذه الأصناف الستة وتباينت تباينًا كبيرًا جدًّا، فمنهم من قصر الربا على تلك الأصناف الستة ومنهم من توسع في إلحاق غيرها بها ومنهم من توسط في ذلك، ومن المعاصرين من ضيق جدا مساحة إلحاق غيرها بها، وذلك عن طريق نفي الفارق بين المنصوص عليه وبين غير المنصوص عليه، وذلك حسب اجتهاد كل واحد من الفقهاء ونظرهم في علة الربا في هذه الأصناف، واختلافهم كذلك في الحكمة من تحريم الربا في هذه الأصناف الستة بعينها، وكان هذا واضحًا وظاهرًا في اختلاف الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين في ذلك[5]، وهذا ما يبينه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، وعند ابن جرير الطبري "فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم"[6].

قال ابن رشد الجد (520ه):*لم يرد عمر بذلك أن رسول الله لم يفسر آية الربا وإنما أراد والله أعلم، أنه لم يعم وجوه الربا بالنص عليها*[7]، وقال السندي (1138ه): *أي لم يفسرها لنا تفسيرا جامعا لتمام الجزئيات مغنيا عن مؤنة القياس، وإلا فالتفسير قد جاء، ومراده أنه لابد في باب الربا من الاحتياط*[8]، وقال الطاهر ابن عاشور (1393ه): *الوجه عندي أنه ليس مراد عمر أن لفظ الربا مجمل؛ لأنه قابله بالبيان وبالتفسير، بل أراد أن تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفيٌّ لم يعمّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأن المتقدمين لا يتوخون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية، فهؤلاء الحنفية سموا المخصصات (مخصصات العموم) بيان تغيير، وذكر ابن العربي (543ه) في العواصم أن أهل الحديث يتوسعون في معنى البيان*[9].

ويبدو والله أعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه *أراد تفسير ربا البيوع وليس ربا الديون، لما في الأول من خفاء يحتاج معه إلى بذل الوسع في كل صورة من صوره لمعرفة هل تندرج تحته أو لا، وهذا مجال واسع لاختلاف الأنظار والأقوال، أما ربا الديون (ربا الجاهلية) فهو أوضح من الواضحات، فلا يعقل أن يأتي عليه مثل هذا الوعيد الشديد ويكون فيه خفاء أو بعض خفاء، ولهذا أطلق ابن القيم (751ه) على ربا البيوع الربا الخفي في مقابل الربا الجلي وهو ربا الجاهلية*[10].

3-ربا البيوع لولا أنه جاء النص من السنة المشرفة بتحريمه في الأصناف الستة لاقتضت حاجة الناس إباحته وجوازه، فالأغلب أن من يبيع تمرًا بتمر بزيادة مقدار أحدهما يكون في المبيع الآخر مع نقصانه ما يكافئ هذه الزيادة، كبيع التمر الجيد بالتمر الأقل جودة مع زيادة في مقدار الأخير، وبيع الحلي من الذهب القديم الملبوس بأقل منه في المقدار من الحلي الجديد من الذهب، فلا ظلم ولا غش ولا أكل أموال الناس بالباطل، وما كان هذا شأنه فالناس محتاجون إليه، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك ما تجرأ أحد على تحريمه، ولهذا وقع الخلاف بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين في صور هذا الربا وفي تحقيقه فيما يجري بين الناس من معاملات[11]. وكذلك بيع التمر بالتمر مؤجلا لا إشكال فيه من ناحية النظر، لولا أن جاء النص بتحريمه، لذلك رأى ابن القيم أن تحريم ربا البيوع بشقيه الفضل والنساء هو من تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد، وذلك لأن الزيادة في الفضل في البيع تؤذن بالزيادة في البيع الآجل، والتأخير في قبض أحد العوضين في البيع قد يؤدي إلى الزيادة مقابل الزمن أو طلب الزيادة عند تأخير الأداء، فكان هذا تحريم وسائل حتى لا يكون وسيلة لحل ربا الديون، فهو من باب سد الذرائع، أي أن يكون وسيلة إلى المحرم، ولذا لما كان تحريم هذا الربا تحريم الوسائل أبيح للحاجة إليه، كما أبيح في العرايا، وهي بيع التمر القديم على الأرض بالرطب الجديد على الشجر، فيما دون خمسة أوسق، مع محاولة الوصول إلى التساوي بين المقدارين عن طريق الخرص والتقدير، وذلك من أجل سد حاجة الفقير الذي يشتهي الرطب الجديد، وليس معه نقود وإنما معه تمر قديم[12].

والخلاصة أن ربا الجاهلية المعروف قد نزل تحريمه تحريما قطعيا، أما ربا البيوع فقد جاءت السنة بتحريمه، وهو تحريم وسائل لا تحريم مقاصد وإن كان يماثله في الحرمة إلا أن بينهما اختلافا في درجات التحريم والوعيد على كل واحد منهما.

وبعد هذا البيان أنتقل إلى كيف عالج القرآن الكريم هذا الداء الوبيل الذي يعصف بالمجتمع وأسسه وأركانه ألا وهو ربا الديون ربا الجاهلية:

1-من العجيب أن القرآن الكريم في رده على دعوى حل الربا بتشبيه البيع بالربا، ومادام البيع حلالا فالربا حلال فالبيع مثله، فكلاهما فيه زيادة على رأس المال، فهي في البيع تكون أول العقد، على حين تكون في الربا عند حلول الأجل والعجز عن الأداء، فهي زيادة مثل الزيادة في البيع، فما دامت الزيادة في البيع حلالا، تكون كذلك الزيادة في الربا. فلم يبين فساد تلك الدعوى التي تبناها المرابون من الكفار وربما تأثر بها بعض المسلمين من ضعفاء الإيمان، فلم يردّ الحجة بالحجة ولم ينقض تلك الدعوى ويبين فسادها بطرق التدليل المختلفة[13]، وإنما رد على ذلك بقوله: }وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا){البقرة:275(، هذا على أن هذا القول بأنه رد على دعوى المرابين، فيكفي ردا على هذا أن الله أحل البيع وحرم الربا، وهو سبحانه يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء بيده الأمر كله، وهو سبحانه لا يحل إلا ما فيه نفع ولا يحرم إلا ما فيه ضرر، وإن ظهر لبعض الناس خلاف ذلك. وأما على القول بأن هذا من تتمة قول المرابين }وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) {البقرة:275(، مناوئة منهم لهذا الحكم الرباني واستنكارا له ومبالغة في الاستنكار، لكونه فرق بين متماثلين في الحكم، وهذا خلاف مقتضى العقول في زعمهم، فإن التحريم يكون مستفادا من تشيبه آكل الربا بالمجنون الذي يصرعه الشيطان في عدم استقامة حال كل منهما واعوجاجه بما لا يستقيم ولا يصلح معه الحياة، ويتأكد التحريم بقوله تعالى: }فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{البقرة:275، فكان سبيل التحريم هو الموعظة والتذكير بالله والنصح والترغيب والترهيب واستثارة ما في قلوب المؤمنين من الخوف من الله والإذعان له ولأحكامه[14]. وكان مبعث هذا تلك الصورة الرمزية للمُرابي وهي تصويره كالمجنون في تصرفاته لا يبعثه على تصرفاته إلا رغباته وتصوراته وإن غاب عنها العقل والرزانة والحكمة ووصفت بالاستهجان والاستقباح، فكذلك المرابي لا تدفعه إلا رغباته في الثراء الفاحش ولو كان على حساب المحتاجين والمعوزين فهو لا يأبه بهم ولا ينظر إليهم في خضم سعيه المحموم المستهجن لزيادة ماله زيادة فاحشة دون عمل أو جهد يستحق به ذلك، فتدور حياته على مواقف متخبطة مستبشعة غير مستقيمة كالمجنون لا يصده عن رغباته شيء ولا يحكم تصرفاته عقل ولا حكمة، وهذا يشمل حال المرابي في الدنيا وعند بعثه في الآخرة، ولا شك أن المسلم إذا استوعب هذه الصورة وبشاعتها ونكارتها فسيكون أبعد الناس عنها وأشد إنكارًا لها، فكانت هذه الموعظة البليغة في تحريم الربا، والملاحظ أن المرابين مهما سقت لهم من الحجج والبراهين والآثار الضارة الناتجة عن التعامل بالربا على الأفراد والمجتمعات وما يسببه من أزمات اقتصادية كبيرة وتكاد تكون متوالية؛ مما يقتضي إبطال الربا والبعد عنه، إلا أن عقلية المرابي على مر العصور تأبى هذا وترفضه بل تشن الحملات الشعواء على تلك الدعاوى الصادقة وتكيل لهم الاتهامات الجاهزة بأنهم أبعد الناس عن إدراك حقائق الاقتصاد الذي لا يتصور أن تقوم له قائمة بدون التعامل بالربا، وإن حدث وتراجعت قليلا بعض تلك الحملات المدافعة عن الربا بعد وقوع الأزمات الاقتصادية العالمية التي هي من آثار الربا، إلا أنها سرعان ما تعود أشد ضراوة وأقوى دعاية، استجابة للواقع ولما اعتاد عليه الناس، وللقوة الاقتصادية والإعلامية الجبارة التي يحوزها المرابون والداعمون والمساندون والمستفيدون.

فكان أنسب أسلوب لتحريم الربا والبعد عنه ومحاربته هو أسلوب الموعظة التي تخاطب في الإنسان فطرته التي فطر عليها من التسليم لله والعبودية له والخوف منه وما جبل عليه من الرحمة والرأفة بأخوته في الإنسانيةـ فلا يليق به وهم أخوته أن يستغلهم ويأكل أموالهم بالربا فإن لم يساعدهم ويحسن إليهم فلا أقل من ألا يأكل أموالهم ويحقق ثراء فاحشا على حسابهم. وبهذه الموعظة تعلو الرغبة في التسليم لله وما حكم به، ويخفت في النفس وازع الاستغلال والثراء ولو على جراح الناس وتملأ النفس الرحمة بهم والإحسان إليهم أو على الأقل العدل والإنصاف معهم وفي معاملتهم.

2-وكان مما يساعد النفوس على الامتثال لتحريم الربا، أن وُضِعَ عن المرابين الإثمُ على تعاملهم به قبل نزول التحريم ولم يُطالبوا بردّ ما استفادوا من الربا قبل ذلك، فلا يقعون في حرج أو ضيق من جراء المطالبة برد تلك الزيادة لما فيه من الصعوبة البالغة في ذلك، وبعضها قد تقادم به العهد حتى عُدَّ من باب النسيان، ومن ثم يستقبل المسلم تحريم الربا بكل انشراح وإذعان وتسليم وقد أزيل من على كاهله ما كان يشعر به من أثم أو حرج في ذلك، فالتوبة تجب ما قبلها، وليس هذا فحسب بل إن له جزاءه الجزيل وثوابه العظيم على امتثاله وتركه للربا، فإنّ أمره لله، ومن كان أمره لله فأمره بيد صاحب الإحسان والجود والإكرام، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

وفي المقابل فإن من عاد إلى الربا والتعامل معه بعد هذه الموعظة البليغة فإنه يستحق العذاب الشديد والمكث الطويل في النار إذا تعامل به وهو غير مستحلّه، أما من استحله بعد تحريمه استحق الخلود في تلك النار.

3-ويعزز الموعظة والدعوة إلى ترك الربا ويؤكدها، النظر إلى عواقب الربا على المرابي والنظر إلى عاقبة الصدقة على المتصدق، فالله سبحانه وتعالى لا يبارك في الربا ولا يبيحه ولا يزيده وإن كان مال المرابي في ازدياد وكثرة فمصيره إلى قُلٍّ وإن نفعه الآن فلن ينفعه بعد ذلك؛ لأن عاقبته وخيمة وإن نفعه في الدنيا واستمتع به وكنز منه كنوزًا فإنه سيكون في الآخرة وبالا وجحيما، فكان سبب عذابه وإهانته بدل من أن يكون سبب تكريمه وإعزازه، وفي المقابل فإن المتصدق الذي يتصدق بماله ولا يرابي به فإن مآله إلى الزيادة في ماله في الدنيا بالبركة والنماء وإن لم يقع ذلك في الدنيا فيكون في الآخرة الثواب الجزيل والأجر العظيم، فتكون الصدقة سببا لإكرامه وإعزازه ونعيمه، وفي هذا موعظة بليغة فالمال في حقيقته وسيلة وليس غاية، فتكون قيمة المال بما يوصل إليه ويحقق لا باكتنازه والعمل على تحصيله ولو بالاستغلال والغش والخداع، ثم جاءت خاتمة الآية لتؤكد هذا }يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ{ـ

فالظاهر والله أعلم أنها في المسلم الذي ما زال مقيمًا على الربا والذي يتعامل به بعد هذه الموعظة البليغة في النهي عنه، فهو بفعله هذا كفّار لنعم الله تعالى، بأن استغل المال الذي أنعم الله به عليه في الثراء غير الشريف وفي أكل أموال الناس بالباطل، فبدلا من أن يشكر الله على تلك النعمة بأن يتصدق ويحسن إلى الناس قابلها بالجحود والنكران فجعله وسيلة للثراء الفاحش بأكل أموال الناس بدون وجه حق تحت سيف الحاجة والاضطرار، فكان في هذا من الإثم والذنب ما فيه، فاستحق هذا المرابي بعد نهيه عن الربا أن يوصف من جراء عمله وكفرانه النعمة، بأن يكون كفّارًا أثيمًا وكان يجب أن يكون حامدًا شاكرًا مطيعًا، ولهذا استحق ألا يحبه الله تعالى، بل يعاقبه ويؤاخذه بما فعل[15].

4-تآزرت السنة الشريفة مع القرآن الكريم في تحريم الربا، في معقل دار المرابين في الجاهلية وهي مكة والطائف في مشهد عام يشهده القاصي والداني والحاضر والبادي والمرابي ومن يرابيه، ليكون أبلغ في البيان وأشد في التبليغ والإنذار، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في موقف عرفة وقد حج معه مائة ألف من أصحابه الأكرمين، فقال: "إِنَّ دمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ عليكم حرامٌ كَحُرْمَةِ يومكم هذا، في شَهْرِكُمْ هذا في بلدكم هذا، أَلَا إِنَّ كل شيءٍ من أَمْرِ الجاهليةِ تَحْتَ قَدَميَّ موضوع؛ وَدِمَاءُ الجاهليةِ موضوعةُ، وأَوَّلُ دَمٍ أَضعُهُ من دمِائنا دمُ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مُسْترضعًا من بنى سعد فقتلته هُذَيْل، وربا الجاهلية موضوعٌ، وَأَوَّلُ ربًا أَضَعُهُ من ربانا ربَا العبَّاسِ بن عبد المطلب فإِنَّهُ موضوع كُلُّهُ، فاتقوا اللَّهَ في النِّسَاءِ......." الحديث[16].

وقال عمرو بن الأحوص رضي الله عنه: "سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ يقول: "ألا إنَّ كلَّ ربًا من ربا الجاهليةِ مَوضوعٌ، لكم رؤوسُ أموالِكم لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمونَ، ألا وإن كلَّ دمٍ من دمِ الجاهلية مَوضوعٌ، وأولُ دمٍ أضعُ منها دَمُ الحارثِ بن عبد المطّلب" كان مُستَرْضَعًا في بني ليث، فقَتلتْه هُذَيلٌ، قال: "اللهم هلْ بلَّغت"، قالوا: نعم، ثلاث مرات، قال: "اللهم اشهد" ثلاث مرات[17]، فهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يوصى وهو يودع الناس في هذا الموقف المهيب، بالوصايا المهمة البالغة الأهمية، والتي تحفظ على الأمة دينها ودنياها وأركانها ومقوماتها، ومنها النهي عن الداء الوبيل المستشري الذي يفتك بمقدرات الأمة المالية ويؤدي إلى نشر العداوات والبغضاء بين أفراد هذه الأمة، إلا وهو الربا، فيبطله ويبطل التعامل به تأكيدًا لنهي القرآن عنه ذلك النهي الشديد الفريد، ويعلن للناس جميعًا أن هذا يطبق أول ما يطبق على عمه العباس رضي الله عنه وهو من أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم، فأبطل رباه الذي له على الناس، وذلك حتى يسارع المرابون إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فلا يطالبون غرماءهم بالزيادة على رأس المال، ولا يكتفي الرسول الله عليه وسلم فحسب بل يجعلهم يقرون أيضًا أنه بلغهم تلك الوصايا العظيمة ثلاث مرات زيادة في الموعظة والإنذار والإبلاغ، ويؤكد هذا بإشهاد الله على وعظهم وإبلاغهم ثلاثا[18].

ثانيا: الآثار المترتبة على تحريم ربا الجاهلية:

من الملاحظ أنه بعد تحريم الربا والتعامل به تم ذكر آثار التسليم بذلك الحكم على المطيع وذكر آثاره على المعاند المكابر، وتم إرساء قواعد للتعامل المالي بين الناس وخاصة المعسرين منهم كما تم ختم ذلك بالتذكير بذلك اليوم العظيم الذي يعقب هذه الدنيا الفانية وما يجري فيها من معاملات قد تدفع بعض الناس إلى الاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل، وتوضيح ذلك فيما يأتي:

1-بيان عاقبة المؤمنين المطيعين بأن أجرهم عند الله تعالى وأنهم لا يخافون ولا يحزنون }إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون) {البقرة:277(، فالمؤمنون يقتضي إيمانهم أن يعملوا العمل الصالح، ومن أهم الأعمال الصالحة: الصلاة والزكاة، فالصلاة صلة بين العبد وربه وفيها من تجريد العبودية لله والخضوع له سبحانه ما فيها، والزكاة هي صلة بين العبد ومستحقيها يبتغي بها وجه الله، كما أنها واجبة عليه وهي حق للفقراء إن منعها كان آثما وإن أداها كان مطيعا مستجيبا، فضلا على أنها علامة على رغبة مؤديها في التصدق والإحسان إلى الناس في وجوه الخير المختلفة، ومن كان هذا شأنه في إقباله على العمل الصالح ومنه الصلاة والزكاة وهو مؤمن، فإنه يأمن مما يعتري المرابين والحريصين على اكتناز المال بدون وجه حق، فإنهم يعتريهم القلق والخوف الشديدان على فقد ما بأيديهم من أموال فلا يعرفون للأمان سبيلا، بل حياتهم كلها قلق وخوف من أجل المال ومن أجل زيادته وتكثيره، فإن فقدوا المال أو فقدوا زيادته أصابهم الحزن الشديد على ذلك، فهم في حال امتلاك المال خائفون وفي حال فقده حزينون، وفي كلتا الحالتين لا أجر لهم ولا ثواب بل عليهم الإثم واستحقوا العقاب بخلاف المطيعين المسلمين الذين أقلعوا عن الربا فإنهم مطمئنون أن الله يقدر لهم الخير فهم عباده وهو ربهم، وهو أعلم بما يصلحهم، فالمال الذي بأيديهم هو مال الله سبحانه، إن ظل بأيديهم فبحفظ الله ورعايته وإن فقدوه لم يصبهم الحزن أو الأسى، فالله سبحانه يعوضهم عن ذلك أحسن التعويض ويجازيهم عليه أعظم الأجر، فلا يعرفون للحزن أو الجزع طريقًا، وفي هذا دعوة إلى ترك الربا والإقبال على الصدقات والإحسان إلى الناس.

2-يجب ترك الربا وعدم التعامل به مرة ثانية، لأن هذا من علامات تقوى الله وهي اجتناب المحرمات وفعل المأمورات، ولا يعين على اجتناب الربا شيء قدرُ ما يعين عليه تقوى الله تعالى، فنظرًا لما يحققه الربا من مكسب سهل سريع كبير بدون جهد أو بذل عمل، فلا يقلع عنه إلا من اتقى الله تعالى وخافه وترك كل هذا رغبة فيما عنده لمن أطاع ورهبة مما أعده لمن عصى، كما أن هذا من كمال إيمان المسلم وعلامة واضحة على صدق إيمانه الذي جعله يسمو فوق الرغبة المحمومة في الثراء عن طريق الربا وغيره من المحرمات، ويرضى بأخذ رأس ماله فقط وقد كان يمنّي نفسه بالزيادة الوفيرة السريعة.

أما من أصرّ على العودة إلى الربا والتعامل به بعد هذه الموعظة البليغة في النهي عنه، فقد جاهر بعصيان الله وعدم الامتثال لشريعته وعدم اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما نهى عنه، فاستحق أن يكون في حرب شديدة من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الحرب شاملة مستمرة لا تنقطع، فهي حرب نفسية معنوية كما أنها حرب مادية حسية فكما يجعل المرابي الدانئين في قلق واضطراب وعدم استقرار وهلع ألا يقدروا على سداد الدين وزياداته أو على التبعات المؤلمة المترتبة على العجز عن السداد الفعلي، والمرابي لا يرابي إلا مجموعات من الناس، فتتعدد الآلام والجراح بقدر من يعاملهم بالربا، لذلك استحق أن يكون في حرب نفسية تماثل ما أصاب الدائنين بل أشد وأنكى، فحاله دوما الهلع والخوف والطمع والاضطراب من فقد ماله أو عدم تكثيره بالقدر الذي يشبع طمعه وأنانيته، وهو أيضا في حرب مادية حسية بنقص ماله أو إذهابه بالكلية أو عدم البركة فيه وإن زاد، فضلا عن أن الربا يجعله سببا لأن يكون مع الناس في عداوة وتخاصم ومنازعات قد يدفع بعض المدينين العاجزين وما أكثرهم، إلى إلحاق الأذى بالمرابي أو أهله أو بماله أو بهم جميعا، فيصدق على المرابين أنهم من المفسدين للناس والمجتمعات والأخلاق السامية والقيم العليا، فاستحقوا أن تكون الحرب عليهم دوما مستمرة حتى يقلعوا عن هذا الإفساد وذلك الإضرار، حتى تعالج الآثار السيئة التي تلحق بالناس والمجتمعات من جراء تكالبهم على التعامل بالربا، ولو احتاج أن يمنعهم من ذلك من بيده ذلك بشتى الوسائل المتاحة.

3-أما من تاب من التعامل بالربا وأقلع عنه بعد بلوغه الموعظة، فإنه لا يضيع عليه رأس ماله الذي أقرضه للمدين، فيرد إليه كاملا غير منقوص دون الزيادة الربوية، وهذا هو عين العدل، وما عداه ظلم، فكما أن الزيادة على رأس المال ظلم فكذلك عدم رد المدين الدين وهو واجد له أو رده منقوصا أو عدم رده بالكلية ظلم كذلك، فكما أن هذا يحرم فإن ذلك يحرم، وهذا أقوى رد على دعوى المرابين أن البيع مثل الربا، وزخرفتهم هذه الدعوى وسوقها في منطق قد يبدو سليما، لكن هناك فرقا بائنا بينهما، فالربا يقوم على الظلم وهو مثل ظلم المدين بمطل الدين أو إرجاعه منقوصا أو جحده كلية، فهل يرضى المرابي بهذا ولا يعده ظلما وعدوانا من المدين عليه أو أنه يعده أشد الظلم و أجحفه؟ المنطق السليم والتفكير المستقيم يقتضيان أنه ما دام أي شكل من أشكال الاعتداء من المدين تجاه الدين الذي عليه، يعد ظلما في الأفهام فكذلك الربا ظلم لا محالة، لا فرق بين هذا وذاك فكلاهما ظلم وعدوان غير مشروع ولا مقبول، مهما حاولت الحملات الإعلامية الداعية للربا والمسوغة له التدليس والتلبيس والتمويه على خلاف الحقيقة، وتزيينه وتجميله، فوصفه بالظلم يكفي في إسقاط تلك الدعاوى وبيان عوارها.

4-وإن أبطل الإسلام الربا وأعلن الحرب على المرابين وأفعالهم الذميمة وتصرفاتهم القبيحة التي أبعد ما تكون عن الرحمة والشفقة والإنسانية، دعا إلى الرحمة بالمدين والشفقة عليه والإحسان إليه بدلا من زيادة أعباء الديون ودوّامتها التي لن يخرج منها في الأغلب، وإن خرج فلن يخرج سليمًا معافىً، فحثّ الإسلامُ على إمهال المدين إذا كان معسرًا لا يجد ما يسد به الدين، وعدم مطالبته بالإداء فضلا عن الزيادة علي الدين، وفي هذا إرجاع الناس إلى فطرهم السليمة التي شوهها الربا والتكالب عليه رغبة في زيادة المال ولو على حساب جراح الناس ومعاناتهم، فأمر الإسلام بالصبر على المدين المعسر وعدم الزيادة عليه، لا كما يفعل المرابون في الجاهلية وفي كل مكان بالزيادة مطلقًا دون نظر إلى إعسار أو ضائقات مالية تلمّ بالمدينين، وما أكثرها، ولم يحث على إمهال المعسر فحسب، بل رغب أيضا في الصدقة على المدين ببعض الدين أو كله، وجعل هذا التصدق أفضل من إنظار المعسر وإمهاله وقتًا للسداد حين يكون واجدا ما يسدد به دينه، وذلك لما في التصدق من الخير العميم للمتصدِّق أولا؛ لارتفاعه عن حبه للمال بالتصدق به، وما يدل ذلك على خيرية فيه تتمثل في الرحمة والرأفة وتفعيل مقتضى الأخوة، فضلا عما أعده الله له في الدنيا والآخرة جراء تنفيسه عن المكروب المعسر، وليس هذا فحسب بل إن المعسرين والناس يعلمون أيضا فضلهم وجودهم وكرمهم فيدعون لهم ويتخذونهم قدوة لهم ولأولادهم.

5- مما يسرع بترك الربا طاعة لله ولرسوله، والالتزام بعدم الظلم من الطرفين سواء الدائن أو المدين، وإلى إمهال المعسر بل فعل أفضل من ذلك وهو التصدق عليه والإحسان إليه، بل ما يسرع إلى تقوى الله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات، ومنها ترك الربا والإقلاع عنه، هو تذكر يوم الحساب الذي سيرجع فيه الناس جميعًا إلى الله ونحن بدون مال أو جاه أو سلطان، وإنما هو ما عملنا في هذه الدنيا، والذي يُوفى عليه تمام الوفاء فإن كان محسنا كان الإحسان جزاؤه وإن كان مسيئا كان مصيره العقاب والعذاب الأليم، فهو يوم العدل لا ظلم فيه ولا جور، وهو يوم الجزاء على العمل إن كان صالحا فالإكرام، وإن كان سيئا فالعذاب. وشأن العاقل أن يستحضر هذا اليوم العظيم في تصرفاته في الدنيا فلا يدفعه الطمع أو الجشع أو الهوى إلى الانسياق وراءه والخضوع له، لأنه يعلم علم اليقين أنه بقدر إحسانه في الدنيا يكون الإحسان له في الآخرة، وبقدر إساءته فيها يكون العذاب والهوان في الآخرة.

وهذه دعوة ملفتة ومؤثرة على المتلقي تدفعه إلى الإقلاع عن كل الموبقات ومن أشدها الربا الذي يحتاج الإقلاع عنه وتركه إلى التضحية بأشياء كثيرة مرغوبة، لكنها تهون من أجل أن يقي المرء نفسه من موقف المساءلة والمحاسبة يوم القيامة وما يعقبها من عذاب أليم في نار جهنم.

الخاتمة:

والخلاصة أن دعوى أهل الجاهلية إلى أن الربا هو الأصل في المعاملات وأنه الذي يرجع إليه غيرُه كالبيع لا أن يقاس هو على البيع؛ لما في الربا من خصائص في زعمهم ليست موجودة في البيع، جعلتهم تلك الدعوى يستنكرون أشد الإنكار التفريق بينهما في الحكم، فتعجبوا من أن يحل الله البيع ويحرم الربا، وشنعوا على ذلك مع الاستمرار في هذا الاستنكار والتشنيع، مما قد يكون امتد أثره وتأثيره على بعض ضعاف المسلمين أو المنافقين فيتابعونهم على هذه الدعوى وذلك التعجب والاستنكار، فجاء رد القرآن الكريم حاسما على تلك الدعوى بأن الأمر لله، يحرم ما يشاء ويحل ما يشاء، ولا يحل إلا ما فيه مصلحة ولا يمنع إلا ما فيه مضرة، مع التذكير بالإيمان به وبالوعظ والرغبة فيما عنده والخوف مما أعده لمن خالفه، فمن انتهى وأقلع عن الربا فله رأس ماله دون تلك الزيادة الربوية ولا يطالب برد ما أخذه منها قبل نزول التحريم، كما أنه أمره إلى الله يجازيه الجزاء الأوفى على طاعته وتركه الربا، أما من عاد فله عذاب عظيم في نار جهنم، واستحق ذلك لأنه كفّار يكفر بنعمة ربه فيستعمله في مغاضبه وجحود فضله بدل أن يستعملها في مرضاته وشكره، فاستحق أن يكون كفّارًا أثيما فاستحق العذاب الأليم، أما المؤمن فإنه أسلم لله وأقبل على العمل الصالح ومنه الصلاة تلك الصلة التعبدية من العبد إلى ربه، ومنها الزكاة تلك الصلة المالية من المزكي إلى المستحقين ابتغاء مرضاة الله، والزكاة علامة الإحسان الذي هو نقيض الاستغلال الملازم للربا، فاستحق المؤمن الثواب الجزيل من الله مع ابتعاد الخوف والحزن عنهم، فترك الربا من مقتضيات الإيمان وتقوى الله تعالى، فمن تاب فله رأس ماله دون الزيادة الربوية لا يقع منه الظلم ولا يقع عليه الظلم، أما من أصر على التعامل بالربا بعد ذلك كله من الموعظة والتذكير بالله وبتقواه فهو في حرب من الله ورسوله حرب نفسية ومادية مستمرة لا تهدأ حتى يقلع عن الربا، ومن رحمة الإسلام ورقيّه أن أمر صاحب الدين بأن يمهل المعسر الذي عليه الدين حتى يجد ما يسد به دينه، وليس هذا فحسب بل جعل أفضل من ذلك التصدق عليه بالمال كله أو بعضه، ففي هذا خير للمتصدق وللمدين، ثم ذكر الله باليوم الآخر يوم الجزاء والمساءلة عن العمل في الدنيا، وما يعقب ذلك من جنة للمحسنين ونار للمسيئين، فعلى العاقل أن يفعل كل ما في وسعه حتى يتقي هذا المساءلة لأن الحساب سيكون على ما قدم وسيكون الحساب على ذلك عادلًا تامًّا وافيًا فعلى الإحسان سيكون الإحسان وعلى الإساءة ستكون الإساءة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

الوسوم:

الربا- أهل الجاهلية- البيع- الموعظة- حرب من الله ورسوله- إمهال المعسر-يوم الحساب.

 

 


[1]. ينظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/104-105 ط دار إحياء التراث الإسلامي، والتحرير والتنوير 2/560، والتفسير المنير 3/86.

[2].  إعلام الموقعين 3/367، وينظر كذلك منه 5/83، وطريق الهجرتين لابن القيم أيضا، ص378.

[3] . ينظر التحرير والتنوير2/79

[4]. ينظر إعلام الموقعين 3/397 بتعليق أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، وتفسير المنار 4/104، و7/154، وينظر كذلك مجموع الفتاوى لابن تيمية 6/44، وإقامة الدليل على إبطال التحليل له أيضا ص 69، والجامع لعلوم الإمام أحمد لمجموعة من الباحثين 9/218.

[5]  ينظر: إعلام الموقعين 3/397-409، وتفسير القرطبي 3/349-351، والمغني لابن قدامة 4/3-7.

[6] أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 1/36 رقم 246، و1/50 رقم 350، وابن ماجه في سننه 2276، والطبري في تفسره 3/37-38. وقال محققو المسند: إسناده حسن. مسند أحمد بن حنبل ط الرسالة 1/361، على حين ضعف إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري 6/38.

[7] . المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، 2/12.

[8] حاشية السندي على سنن ابن ماجه = كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه، 2/39.

[9] . التحرير والتنوير 2/554، وينظر من كتب الحنفية في أصول الفقه: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري (730هـ) 3/105، وشرح التلويح على التوضيح، للتفتازاني (793هـ)، 2/35، وينظر العواصم من القواصم لابن العربي بتحقيق عمار طالبي ص 253 وفيه قول ابن العربي: "والبيان على أقسام كثيرة عند العلماء ...... أما المحدثون .... فهو عندهم على عشر مراتب".

[10] . إعلام الموقعين 3/397.

[11]. ينظر تفسير المنار 3/102-103، ومراجع الحاشية رقم 5.

[12]. ينظر إعلام الموقعين 3/397-409

[13]. ينظر: تفسير المنار 3/85-86، والتحرير والتنوير 3/84.

[14] . ينظر تفسير المنار 2/339 ط دار إحياء التراث العربي.

[15]  ينظر تفسير ابن كثير 1/715-716 ط دار طيبة.

[16] . أخرجه مسلم 1218 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، حديثه الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.

[17] . أخرجه أبو داود 3334 والترمذي 3087، والنسائي في الكبرى 3055 و11149 وابن ماجه 4085 واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حسن صحيح.

[18]. ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (449هـ)، 1/173، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: أبو العباس القرطبي (656هـ)، 3/333، وشرح سنن أبي داود للرملي (844هـ)، 8/609 و14/28.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply