ما لم يقله قس بن ساعدة الإيادي وحاولت قوله


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

يمتاز الكاتب خالد بن سفير القرشي بأسلوبه المميز حين جزالة الألفاظ وقوة المعاني وعمق التحليل وسلامة المقصد، وبراعة الاستشهاد وحسن الاستدلال، والقارئ لما يكتبه يشعر بمتعة القراءة، ومما كتبه وسكب فيه حكمته التي اكتسبها من تجارب الحياة، ومرور الأيام والليالي تلك الحكمة التي تضارع ما قاله قس بن ساعدة الإيادي *ما لم يقله قس بن ساعدة الإيادي وحاولت قوله* وهما مقالان نعرضهما هنا بنصهما على النحو التالي:

أيها الناس... الرجال مقامات، والنساء منازل، والأقوال سهام، والأفعال مواقيت، والنيَّات مطايا أهلها، وصنائع المعروف ألوية؛ ولكل صانع معروف لواء، يعقده الله له؛ ليعرفه الناس به، ولتشهد الخليقة عليه، وليعرف الحق حَمَلَته.

فلا تحسبوا الحياة سبهللًا، ولا المقادير اعتباطا، ولا الأعمال سدى، ولا تحسبوا الحقوق بالادعاء، ولا الأرزاق بالحيلة والدهاء، ولا إصابة الحق بالمخاتلة والمراء.

أيها الناس... أحاديث الخلائق كالرماح، وألسنتهم كالأقواس المبريَّة، ولكل امرئ شاكلة ومقتل، فلا ترموا بريئا بألسنتكم، ولا تحملوا على غافل رماح أحاديثكم، ولا يلق أحدكم أخاه البريء إلا ببراءة تماثل براءته أو تزيد عليها، واتقوا الله في الغافلة منهم؛ فإن رماية الغافل خطيئة وحِطة، وخساسة وغِيلة؛ والله ولي الغافلين، وراميهم لا مولى له.

واعلموا... أن من الناس من ينزل العليا بالإرث والوراثة، لا من كسب يديه، فما يزال يسفل بلسانه، وينزلق في أفعاله، حتى يضع نفسه تحت الأقدام، وإن رأته الأعين فوق الرؤوس؛ فلا تغرركم الصور الظاهرة، وحكِّموا فيما ترونه قلوبكم، وأقوال وجدانكم؛ فإن الحق طي القلوب، وغرس الأفئدة؛ لا تراه مرايا الأبصار، ولا تشاهده عاجلة الأفكار، ولا تبلغه خاطفة الأنظار.

واعلموا علمكم الله، أن السراب لا يروي، وأن الأوهام لا تغني، وأن أحاديث السمر تغر، وأن مشورة الغضبان تضر، وإياكم ثم إياكم من اتخاذ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام بطانة؛ فإن بطانة الشر = شر مقيم، وداء يحيط بالدواء حتى يزهقه ويبطله.

أيها الناس... لا تنزلوا الرجال منكم على أثمان عمائهم، ولا على محاسن حللهم، التي على أجسادهم، مَه، حلل الرجال على قلوبهم؛ لا أبدانهم، وعمائهم على وجوههم، وليست تلك الظاهرة التي ترونها فوق الرؤوس؛ فأحسنوا النظر إلي الوجوه، وانصتوا إلى قلوبكم وقلوبهم؛ فإنها ناطقة شاهدة عادلة، وعليها التعويل.

ما لم يقله قس بن ساعدة الإيادي (٢):

أيا صاح... لم أرَ الموت في حيٍ كما أراه في رجلٍ قطع الرجاء منه، وأعجز حَيْل من حوله، وأجهض حِيَلهم، فباتوا ينظرون إليه نظر اليائس إلى الميؤوس منه؛ لا تحمله رحمه، ولا تغلبه مرحمة، ولا يطاله رجاء، ولا ينال منه معروف، ولا هو بالذي يناله.

فإياك إياك أن تخلع عن نفسك رجاء من حولك؛ فتمسي في الناس لا حول لك ولا قوة ولا منفعة منك؛ ويصبح الموت والحياة في حقك سواء.

واعلم أن للإحسان لواء لا يعقده إلا مداولة الفضل والمسعى إليه، فإن انعقد حمى صاحبه ومَنَعَه من الملامة؛ وعلى هذا المبدأ قال الله في محكم آياته: ﴿ما عَلَى المُحسِنينَ مِن سَبيل﴾ وهذا ضابط الإحسان وحَدِّه؛ لا إحسان الأماني وإحسان الادعاء؛ فكن إلى حقيقة الإحسان؛ تكن في سبيل الله، ولا يجد إليك اللائم ولا اللائمة سبيل.

وأحسن الإحسان المبادرة إليه، وخير الرجاء النجدة به؛ أن يهرع المحسن بإحسانه والقادر إلى رجائه؛ كما يهرع الفارس إلى جلبة وعاها قلبه ولم ترها عيناه، والناس في أمرها قعود؛ غير أنه عرف حالها ومآلها؛ فأنجد إليها بالفِراسة والفرس، وبالسيف والرمح، ولا درع يقيه السهام المعادية إلا قول الله: ﴿ما عَلَى المُحسِنينَ مِن سَبيل﴾ فنال الفضل إليها وبها، وعدوه لم ينل منه.

وكن في رجاء العامة على كل حال، وطوع ولاة أمرك؛ وخالط الناس بالتي هي أحسن، وجادلهم بما يطيقون، وخاطبهم وفق مداركهم، ولا تشطط عليهم؛ فإن الشطط مارق عن أمر الله وأهله مارقون.

ولا تطلب الإحسان ولا قضاء الرجاء بما تطيق نفسك وبما تقدر عليه بادئ الرأي؛ اطلبه بالله وبما تعهد من إحسانه؛ تقدر عليه، وحاوله بما أنت أهله؛ وما يليق بك، يحقق مولاك محاسن ظنك، والله عند حسن ظن عباده ما تعاقب الليل والنهار، وما أسرج مصباح ظلمة إلا بالله، وما تنفس صباح أنفاسه إلا لإحسان الله إليه وإلى الخلق أجمعين.

وإن نزل بساحتك رجاء لم تقدر عليه ولم تجد إلى قضائه سبيل، فاحمله إلى منه هو أرجى منك وأقدر عليه، فحامل الرجاء والساعي به كالقاضي له على الحقيقة.

واعلم أن الرجاء والإحسان كالأفق البعيد؛ كلما ارتقيت إليه الصعداء؛ انفرج واتسع ودنا واتضحت رؤاه بين ناظريك، واجتمعت مراميه بين يديك.

وللمعونة في شأنك كله؛ قل: حسبي الله؛ لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

 

كتبه: خالد بن سفير القرشي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply