وقفات مع العام الهجري الجديد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الخَامِسَة مِن شَهرِ ذِي الحجة، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ:

1- بِدَايَةُ التَّارِيخِ الهِجرِيِّ.

2- أَهَمِّيَةُ التَّأرِيخ بِالتَّارِيخِ الهِجرِيِّ.

3- وَقْفَةُ مُحَاسَبَة.

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكير بأهمية التأريخ الهجري، وكيف كانت بداية العمل به؟ وكذلك الحث على محاسبة النفس وجعل ما مضى من عام كامل هو يوم قيامة مصغر يحاسب فيه العبد نفسه مع تسهيل كيفية المحاسبة.

مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ: أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، ونحن نودع عامًا هجريًّا مضى من أعمارنا ونستقبل عامًا جديدًا يلزم الإنسانُ مِنَّا أن يقفَ وقفة تساؤل وتأمل وتدبر يحاسب نفسه عما اقترفه خلال عام كامل مضى من عمره، ثم وقفة استعدادٍ لعام هجري جديدٍ نستقبله ولا ندري ما اللهُ قاضٍ فيه.

وبداية نتعرف على التاريخ الهجري كيف كان مبدأهُ وأهميتُهُ:

فإن التاريخ السنوي لم يكن معمولًا به في أول الإسلام، فكانوا يؤرخون بالأحداث لا بالأرقام؛ مثل: عام الرمادة، وعام حرب البسوس، وعام الفيل.

حتى كانت خلافة عمر رضي الله عنه، وبعد ثلاث سنوات من خلافته ومع اتساع رقعت البلاد الإسلامية واحتاج المسلمون أن يؤرخوا لرسائلهم وكتاباتهم وأن يؤرخوا للعقود والقروض فيما بينهم؛ فقد كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: *إنه يأتينا منك كتب ورسائل ليس لها تاريخ .*

فجمع عمرُ الصحابةَ رضي الله عنهم ليستشيرهم من أين يبدأون التاريخ؟ فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخُ الفُرسُ بمُلوكِها، كلَّما هلك ملِكٌ أرَّخوا بولايةِ مَن بعدَه. فكرهَ الصَّحابةُ ذلك، وقال بعضهم: أرِّخوا بتاريخ الرُّومِ، فكرِهوا ذلك أيضًا، وقال بعضهم: أرِّخوا مِن مَولد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: مِن مبعثِه. وقال آخرون: من هجرته، فقال عمر: نؤرخ من الهجرة؛ لأن الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها وجعلوا مبتدأ التاريخ من السنة التي تمت فيها الهجرة.

ثم تشاوروا من أيِّ شهرٍ يكون ابتداءُ السَّنة؟ فقال بعضُهم: من رمضان؛ لأنَّه الشَّهر الذي أنزلَ فيه القرآنُ، وقال بعضُهم: من ربيعٍ الأوَّل؛ لأنه الشَّهر الذي قدِم فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مهاجرًا، واختار عمرُ وعثمانُ وعليٌّ رضي الله عنهم أن يكونَ من المحرَّمِ؛ لأنَّه شهرٌ حرامٌ يلي شهر ذي الحجةِ الذي يؤدي المسلمون فيه حجَّهم الذي به تمامُ أركانِ الإسلام، والذي كانت فيه بيعةُ الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم والعزيمةُ على الهجرةِ؛ فكان ابتداءُ السَّنةِ الهجريَّة من شهرِ الله المحرَّم.

الوقفة الثانية: أَهَمِّيَةُ التَّأرِيخ بِالتَّارِيخِ الهِجرِيِّ:

1- التاريخ الهجري، وأشهر السنة الهجرية: هي التي عند الله تعالى وذكرها في كتابه.

قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.

وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خَلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشَعبانَ".

2- وقد جعلها الله تعالى ميقاتًا للعالم كله لا فرق بين عرب ولا عجم.

قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

3- وكذلك لأن لها علامات محسوسة ظاهرة لكل أحد يستطيع رؤيتها فيعرف بها دخول الشهر وخروجه.

• فمتى رُؤي الهلال أول الليل وبعد غروب الشمس دخل الشهر الجديد وخرج الشهر السابق.

4- وكذلك فإن الأشهر الهجرية: جعلها الله تعالى ميقاتًا للفرائض والأركان.

• فالصيام اختص الله تعالى له من بين هذه الأشهر شهر رمضان: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}.

• ‏والحج اختص له أشهر الحج: {الحج أشهر معلومات}.

• ‏وزكاة الأموال والأنعام وعروض التجارة والتي من شروطها بلوغ النصاب، وكذا حلول الحول ويكون بالأشهر الهجرية.

5- وكذلك ترجع أهمية معرفة الشهور الهجرية والتاريخ بها: أن كثيرًا من كفارات الصيام يكون حسابها بالأشهر الهجرية؛ مثل: كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار: {فصيام شهرين متتابعين}.

6- وهو من شعائر الإسلام التي يجب أن تُغرس في النفوس؛ ولذلك كانت من الأسباب التي أدت لترك التأريخ بالتاريخ الهجري هو استعمار البلاد الإسلامية والعربية من الغرب فأرغموهم وأجبروهم على ترك ونسيان التاريخ الهجري حتى أصبح الآن لا يؤرخ به إلا في بلاد الحرمين الشريفين.

نسأل الله العظيم أن يعيد لهذه الأمة مجدها، وأن يجعل هذه السنة هي خير وبركة للإسلام والمسلمين.

 

الخطبة الثانية: مع وقفة محاسبة:

أيها المسلمون عباد الله، عامٌ مضى وعامٌ أتى والمؤمنُ لا يحتفل بأعوامٍ قد مضت، أو أخرى قد أقبلت بقدر ما يقف مع نفسه وقفة محاسبة فيحاسِبُها عمَّا قدَّم وأخَّرَ؛ (محاسبة ومشارطة).

• محاسبةٌ لما مضى.

• ‏ومشارطةٌ لما هو آت.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

قال عمر رضي الله عنه: *حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتزينوا للعرض الأكبر*: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.

ومعنى محاسبة النفس: أن يتصفح العبد ما صدر منه من أفعال وأقوال؛ فإن كانت محمودة أمضاها وإن كانت مذمومة استدركها.

ومن فوائد المحاسبة:

1- أن يعرف العبد حق الله تعالى عليه ثم يسأل نفسه هل قام بهذا الحق كما ينبغي أم لا؟

2- مطالعة عيوب النفس لتلافيها ومعالجتها؛ فمن لم يطلع على عيوبه لم يمكنه إزالتها.

وحتى تؤتي المحاسبة ثمارها المرجوة؛ لابد أن تعرف هذه القواعد المهمة للمحاسبة:

• ما هو رأس المال؟

• ‏ما هي أسباب الأرباح؟

• ‏ما هي أسباب الخسران؟

قال ابن القيم رحمه الله في طريقة محاسبة النفس: *وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولا عن الفرائض فإن تذكر فيها نقصا تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها عن المناهي فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية*.

فأما رأس المال: فهي الفرائض والواجبات.

• وأوجب الواجبات هو التوحيد الذي هو حق الله تعالى على العبيد؛ فهو الميثاق الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم وهم في أصلاب آباءهم.

قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.

• فيحاسب العبد نفسه حذرًا وخوفًا من الوقوع في الشرك؛ حتى لا يخسر دنياه وآخرته.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

• ثم يحاسب نفسه على الصلوات الخمس؛ لئلا يكون فيها نقص أو تقصير لأنه سيُحاسب عليها يوم القيامة.

ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أولَ ما يُحاسب به العبدُ المسلمُ يومَ القيامةِ الصلاةُ المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له مِنْ تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّع أُكملت الفريضةُ مِنْ تطوُّعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك".

• فيحاسب العبد نفسه على:

(1800  صلاة طوال العام كم منها في أوقاتها جماعة؟ وكم ضيع منها؟

(1800  فرصة لدخول الجنة بقراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة.

(1800  فرصة لدعوة مستجابة عقب كل آذان.

(1800  فرصة لإدراك تكبيرة الإحرام.

• ويحاسب العبد نفسه على صلاة الجمعة:

أكثر من 48 فرصة للصلاة والسلام على خير الأنام في أفضل الأيام، فكم جعل لنفسة من هذا الخير العظيم؟

أكثر من 48 فرصة لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة؛ ليحظى بالنور والخير العظيم، فكم أدركت من ذلك؟

أكثر من 48 فرصة ساعة إجابة آخر ساعة من يوم الجمعة، فكم أدرك من هذه الساعات؟

وأما أسباب الأرباح: فهي النوافل وأبواب الخير والقربات التي ترفع العبد درجات؛ فيحاسب العبد نفسه على قراءة القرآن، وهل له ختمة شهرية لكتاب الله تعالى، أم لا؟

12 ختمة قرآن.

360 أذكار صباح ومساء.

360 صلاة ضحى.

360 بيت في الجنة (الرواتب)

كم مجلس علم حضره؟

كم حلقة قرآن حضرها؟

كم تصدقت؟

كم ذكرت الله تعالى؟

وأما أسباب الخسران: فهي كل معصية، أو تضييع لواجب من الواجبات؛ فيحاسب العبد نفسه على الذنوب والمعاصي والتفريط قبل الندم.

لما تم لبعض السلف سبعون سنة من عمره وقف مع نفسه وقفة محاسبة فنظر فإذا به قد مضى عليه منذ بلوغه أكثر من عشرين ألف يوم فعاتب نفسه، وقال: ماذا لو لقيت ربي كل يوم بذنب واحد فقط؟! أألقى الله بعشرين ألف ذنب؟ ثم بكى رحمه الله.

• فيسارع العبد بالتوبة إلى الله تعالى وكثرة الاستغفار والحسنات المكفرة ويأخذ بأسباب المغفرة قبل أن يلقى الله تعالى فيندم شديد الندم على التضييع والتفريط.

قال الله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}.

نسأل الله العظيم أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply