الجار بين الواقع والدين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إن الحقوق كثيرة والحياة قصيرة والإسلام جاء بالعلم والبصيرة والناس أكثرهم قد سيطرت عليهم النفوس الشريرة فماتت قلوبهم ودُفنت في قبورهم الصغيرة ألا وهي الصدور فهل تُحييها بعضُ الكلمات من تلك السطور وتكون لنا ولكم طريقا للعبور إلى معرفة الحق وقبول الحقوق لأهلها ونستسلم لدين الله حق الاستسلام في واقع حياتنا ومن هذه الحقوق التي أمرنا الله بها هو الجار وحقه عندنا في الإسلام قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ... } النساء (36)، فجاء الإحسان إلى الجار في المرتبة الخامسة من ترتيب هذه الآية قال الشيخ السعدي رحمه الله (وللإحسان ضدان: الإساءة وعدم الإحسان وكلاهما منهي عنه) تيسير الكريم الرحمن له ص (159)، وإن كانت فالأولى أشد من الثانية في الإثم، وقال أيضا: *والجار ذي القربى* )أي الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة فله على جاره حق وإحسان) ثم قال: (الجار الجنب( أي الذي ليس له قرابة وكلما كان الجار أقرب بابا كان آكد حقا فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل، المصدر السابق، فأين نحن من هذه الوصية فالواقع يتحدث عن شيء آخر دون ما ذكر هنا والإسلام هو دين الرحمة والتسامح فقد جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لتصفية القلوب بشريعة تعاليمها قالها علام الغيوب.

قال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله: {والجار ذي القربى}*يعني المسلم*{والجار الجنب} *يعني اليهودي والنصراني* رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، منقول من تفسير ابن كثير ص (849) من الجزء الأول، وهنا يتبين لنا من قول العلماء في حقوق الجار وتعددها فتصل إلى ثلاث وهي حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام فالأقارب لهم ثلاثة حقوق إن كانوا مسلمين وهو حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وأما غير القرابة فله حقان إن كان مسلما وهو حق الجوار وحق الإسلام وأما الكافر فله حق واحد وهو حق الجوار ومن هذا الحق أن ينصحه بدخول الإسلام ويُعرِّفه بهذا الدين إن كان أهلا للعلم في ذلك.

قال الإمام الأوزاعي رحمه الله في تحديد الجار (أربعون دارا من كل ناحية) وقال آخرون (من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد) جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (518)، وقال الشيخ عرفان بن سليم في حقوق الجار (مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا والإحسان إليه قد يكون بمعنى المواساة وقد يكون بمعنى حُسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه) المصدر السابق، فيكون واصلا لرحمه في جوار قرابته ومعينا لهم في مقدرته على حاجتهم بدنياهم وناصحا لهم في أمر دينهم.

قال ابن أبي جمرة رحمه الله (حفظ الجار من كمال الإيمان) المصدر السابق ص (521)، وقد قال بعضهم (الجوار قرابة بين الجيران) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري رحمه الله ص (167)، ولا تكون قرابة بينهما إلا بالمحبة والتناصح والتسامح والتعاون وكف الأذى عنهم والدعاء لهم بالخير والنجاح وتمني لهم التوفيق والسداد... الخ، قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: *كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟* فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت" رواه أحمد وغيره، إذن فمعيار الإحسان يكون عند الجار الصالح وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" متفق عليه، ومعنى (يغرز) عند اللغويين أي (يُدخل) وهو الجدار الخارجي للبيت وهذا من أجل أن لا يكسر قلبه بالرفض ويجرح مشاعره ويفتح بابا للكره بينهما.

قال عليه الصلاة والسلام: "... ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جاره..." متفق عليه، فأين نحن من هذه الصفات الجليلة والأخلاق الجميلة فإن أيامُنا على موعد الرحيل فهي قليلة وخطواتنا للقبر فيها سريعة بسرعة ليلة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: "الجار أحق بسقبه" رواه البخاري، قال أهل العلم *والسقب القرب والملاصقة* وهذا في البيع والشراء وقيل "حتى الشريك له هذا الحق" أي: له حق الأولوية في الشراء إن أراد ذلك دون غيره سواء كان منزلا أو سيارة أو بضاعة... الخ وهذا كله في تعليم المسلمين في مكانة الجار وحُسن الجِوار وتعاليم الإسلام لنا حكمة ربانية لها فوائد إنسانية تعود بالنفع علينا فيَعُم التآخي والود بين البشر والناس في غفلة من هذه النعم فنعمة حُسن الجوار قد فقدها الكثير من الخلق قال صلى الله عليه وسلم: "... وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره" رواه الترمذي وأحمد.

ومن المعلوم أن أذية الجار من أشد الذنوب وزرا يوم القيامة وقد صنَّفها الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه الكبائر في المرتبة الثانية والخمسين وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره ولأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره". السلسلة الصحيحة وهو حسن، وهذا قياس على كل ذنب في حق الجار بأنه يضاعف لعشرة بمثله على غيره من الآثام والأوزار وتُعد من أسوأ الخطايا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره" رواه البخاري، وهذا شرط لكمال الإيمان وإلا فهو إيمان ناقص وضعيف.

قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من السعادة" ثم ذكر منهم وقال: "والجار الصالح" وقال أيضا: "أربع من الشقاء: الجار السوء..." رواهما ابن حبان.

وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء وقال: "اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء ومن ليلة السوء ومن ساعة السوء ومن صاحب السوء ومن جار السوء ومن جار السوء في دار المقامة"صحيح الجامع.

وقال عليه الصلاة والسلام: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه" متفق عليه، بوائقه قال أهل العلم (أي شروره) وفي رواية بدل "لا يؤمن" جاء فيها "لا يدخل الجنة" وهذه دلالة على عظم الذنب في حق الجار.

قال الشاعر:

يلومونني أن بعت بالرخص منزلي

ولم يعلموا جارا هناك ينغصُ

فقلت لهم كفوا الملام فإنها

بجيرانها تغلوا الديار وترخصُ

كشكول ابن عقيل ص (116).

فلا تكن ممن يرحل بسببك ويدعو الله عليك بالليل والناس نيام فإن الذي لا يقدر على الإحسان إلى جاره فعلى الأقل عليه أن يُمسك من شره فذلك خير له وقد قال الحسن رحمه الله (ليس من حُسن الجوار أن تكف أذاك عن جارك ولكن من حُسن الجوار أن تتحمل أذى جارك) النوادر والنتف لأبي الشيخ الأصبهاني رحمه الله ص (92)، وهو الأذى القابل للتحمل وليس كالشرف ومن كانت فيه هذه الخصلة بتحمل أذى جاره فهو من صالح الصالحين.

وأما الواقع في حياة المسلمين اليوم بين الجيران لا أثر للإسلام فيه إلا القليل منه في بعض المناطق فأصبح الجار لا يسأل عن جاره كيف هو حاله؟ بل لا أحد يُلقي السلام على الآخر ربما بسبب بعض النزاعات السابقة والحسد قد ازداد انتشارا والكره في توسع مستمر والناس أصبحت تردُ الإساءة بالإساءة مثلها وربما النميمة هي قائد هذه الفتن والكارثة هي عند الجلوس أمام الأبواب ومراقبة النوافذ أو الضحك بالصراخ والإطالة فيه أو من كلام فاحش ممتلئ بالسفاهة تكون بين الأحياء التي يسكن فيه قرب بيوت جيرانه ولا ننسى رفع صوت الغناء وهذا كله من أذية الجار وسوء الجوار وكذلك النظر الحارق الذي يُؤذي القلوب ومنه تمني الشر لهم وعدم دعوتهم للعرس والتباهي عليهم بالمال والولد مع التكبر واحتقارهم بالغمز واللمز والله المستعان أما عن الظلم فقد عمَ في هذا الزمان بكثرة بين الجيران من قتل وسحر وسرقة وزنا واغتصاب وأحيانًا أخرى بالشجار والعنف والضرب... الخ وما نشهده اليوم في المحاكم التي تمتلئ قضايا بين الجيران وكأننا في غابة الأمازون بسبب أمور أقل تفاهة لا تستحق كل ذلك التضخيم إلا بعض الأمور المتعلقة بالشرف والمال والله المستعان، فأين نحن من عهد السلف والسنين التي كانت فيها القلوب لا تختلف نسأل الله أن يُألف بين قلوبنا.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply